jeudi 6 novembre 2014

الاحاديث التي وضعها معاوية




        وبه ثقتي ونعم الوكيل
 
 [مقدمـــــــــة]
        الحمد لله الذي جعل القرآن نورا هدانا به من ظلمات الضلالة، ورحمة وشفاء من داء كل عمى وجهالة، ونجاة لمن اعتصم به وبأهله الذين دل عليهم بأوضح دلالة، وجعله جل وعلا لمن عقل واهتدى دليلا على من إليه هدى ، ومبينا لقدرة من قدَّرَه، وشاهداً على حكمة من دبَّرَه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في حكمه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله الذين هم عيبة علمه اصطفاهم لإرث وحيه، فخصهم باستخراج حكمه، وجعلهم حفاظ كتابه وأحكامه، وخزان حلاله وحرامه، والمستحفظين على أسراره وغوامضه، والقائمين بنشر مسنوناته وفرائضه، والعالمين بطرق الصواب مما اختلف فيه المختلفون، والمبينين للصحيح الذي تقوَّل فيه المتقولون، إذ هم الدعوة الباقية في عقب إبراهيم الخليل مهبط التنزيل، وملجأ  التأويل، ومختلف ميكائيل وجبريل.
 
وبعد :
فإنه لما كان كتاب الله العزيز كذلك، وكانت حكمته عز وجل اقتضت إنزاله على الأساليب العربية والمعاني اللغوية، وفيها العام والخاص والمجمل والمبين، و الظاهر والمؤول، وما يحتمل وجها، وما يحتمل وجهين فأكثر، وما تتشابه فيه المعاني وتتعدد فيه الوجوه، ولذلك من لم يتبع سبيل أعلام الهدى ، وأرباب التقى أهل بيت محمد  المصطفى ، صلوات الله عليه وعليهم وسلم فسر الكتاب على آرائه، والحق على أهوائه، فعَمِيَ وعمَّى على غيره، وضل وضل غيره بسببه، وترى المنتصر يصرف الأدلة بمجرد العبارات، ويتطلب للتأويلات حتى يُقَوِّمُ الأدلة إلى مساق هوى النفس، فيقربها إليه، ويعتمد في دينه ودنياه عليه، لا يلوح لأعين البصائر فيه إلا كلمعان البروق، وتَرَقرق فيه لأهل الأهواء والأغاليط أقاويل تروق.

        ولقد صدق أمير المؤمنين عليه صلوات رب العالمين حيث يقول:"سيأتي بعدي زمان ليس فيه شيء  أخفى من الحق، ولا أظهر من الباطل، ولا أكثر من الكذب على الله ورسوله، وليس عند أهل ذلك الزمان سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حق تلاوته" [يريد عليه السلام إذا اتبع حق اتباعه ـ كذا عن زيد بن علي عليه السلام ]"ولا أنفق منه إذا حرف عن مواضعه" اهـ.
قال بعض أئمتنا عليهم السلام: والتحريف على وجهين أحدهما: تحريف ما أنزل الله لفظا كما يفعله اليهود والثاني: تحريفه تأويلا كما يفعله أهل البدع والأهواء، فيجب التثبت في ذلك لئلا يضل بضلالهم، ويجب الإقتداء بمن أمر الله الإقتداء بهم، والكون معهم من آل رسول الله صلى الله عليه وعليهم السلام لأنه صلَّى الله عليه وآله وسلم قد أمننا من الضلال مهما تمسكنا بهم، إذ أخبرنا وهو الصادق في خبره أن المتمسك بهم لن يضل أبدا، وأن اللطيف الخبير نبأه بذلك، وقال علي عليه السلام: "ولقد سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم يقول": (إني لا أخاف على أمتي مؤمنا ولا مشركا أما المؤمن فيمنعه الله بإيمانه، وأما المشرك فيحرمه الله بشركه، ولكني أخاف عليكم منافق اللسان يقول ما تعرفون، ويفعل ما تنكرون). اهـ.
 
وقد أخبرك الله عن المنافقين أنهم يقولون: يريدون أن يبدلوا كلام الله كما أخبر الله عن من مضى من قبلهم من أهل الكتاب أنهم يحرفون الكلم من بعد مواضعه وعن مواضعه، ويكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلاً، وأنه منعهم عن ذلك بالإعجاز، وحال بينهم وبين تبديل القول بالحفظ وابتلاهم من جهة التأويل وأبان حالهم فيه ومقاصدهم إليه.
قال: ((فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)).[آل عمران: 7]. 
وأنه عز وجل بحكمته حفظ التأويل كما حفظ التنزيل بتفضيل بعض خلقه في العلم كما فضل بعضهم على بعض في الرزق، وبيان من شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه، ومن جعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء، وببيان من اختاره ليترجم عن تأويله كبيان اختياره لمن يتحمل عهدة تنزيله ممن يفسر بعض القرآن ببعضه، ويدل على متشابهه بمحكمه بنحو قوله تعالى: ((ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ)).[فاطر: 32]. وتفسيره بقوله عز وجل: ((إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)).[آل عمران: 33،34]. فقوله سبحانه: ((ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ)). ليس المراد به تعليم الخلق تناسلهم وولادة بعضهم من بعض لأنه أمر ظاهر معلوم، وإنما المراد موافقة طريقتهم التي لها ولأجلها اختارهم الله تعالى، فدلت الآية على مزية وخصوصية زائدة على الإيمان والولادة والقرابة، وتلك الخصوصية هي موافقة من اصطفاه الله في باب الطهارة والعصمة والكمال والوقار واجتماع الخصال التي تسعها النبوة والإمامة، وهذا ظاهر لأنه إذا لم يكن معنى بعضهم من بعض الولادة فلا يبقى إلا ما ذكرناه، وسيأتي بيان ذلك وغيره شافيا إن شاء الله تعالى في مواضعه، وتعيينه سبحانه باصطفائه محمدا الطاهر أن المصطفين لإرث هذا الكتاب [إذ لا يصدق قوله: ((ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ)). على غيرهم] هم ذريته الأخاير، يزيد هذا وضوحا قوله تعالى: ((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ)).[الحديد: 26]. ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء من ذريتهما فيجب أن تكون ذريته هم خاتمة الذراري الذين أخبر الله أنه يجعل الكتاب فيهم وتعيينه إياها في ولد الحسن والحسين سلام الله عليهما وعليهم بنحو آية  المباهلة، ونحو خبر (كل بني أنثى ينتمون إلى أبيهم إلا ابني فاطمة فأنا أبوهما وعصبتهما). والإجماع المعلوم بين الأمة.


قال الإمام الأعظم القاسم بن إبراهيم عليهم السلام: وقد احتج بهذه الآية ونحوها على هذا المعنى في الأنبياء وذرياتهم وفي نبينا وذريته عليهم السلام، فأي ضياء أضوى؟. أو حجة لمحتج أقوى؟. في إثبات الصفوة والفضل لأبناء المنتجبين من الرسل مما تلونا تنزيلا مبانا أنزله الله في وحيه قرآنا لا تعارضه شبهة لبس، ولا يلبس على ذي ارتياده ملبس، ولكن اقتطع الناس دونه - وحال بين العامة وبينه - جور أكابرهم في الحكم، واعتساف جبابرتهم فيه بالظلم، فأعين العامة في غطاء عن مذكوره، وقلوبهم ذات عمى عن نوره، فمعروفه لديهم مجهول، وداعيه فيهم مرذول إن لم يقتل عليه عظم تعسفه فيه، ولم يعدوا من جهلهم بفرضه وما هم عليه من رفضه سبيل ما هم عليه وما أمسوا وأصبحوا فيه من جهل غيره من الحقوق وتعطيلها ومحو أعلام الدين وتبديلها، فالله المستعان في ذلك وغيره وإياه نسأل تبديل ذلك وتغييره إلى آخر كلامه عليه السلام في هذا المعنى وهو طويل جدا.


وببيان أن في المصطفين ظالما لنفسه لا يؤمن على التأويل ولا يوثق به في الإتباع كمن كان في من قبلهم من ذرية الأنبياء فيما أخبر من قوله تعالى: ((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)).[الحديد: 26]. وقوله في إبراهيم صلوات الله عليه: ((وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ)).[الصافات: 113]. واما كانت الحاجة إلى معرفة السابق والمقتصد من ضروريات التكليف، وعدم إبانة أمرهما من التعمية والتلبيس، بَيَّن سبحانه من يجب اتباعه والكون معه بالصفة التي فيها أكمل المعرفة فقال عز وجل: ((يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ )).[التوبة: 119]. فقوله: ((وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)). أمر بموافقة الصادقين ونهي عن مفارقتهم وظاهر الأمر للوجوب، والله سبحانه بحكمته لا يأمر بالكون مع من لا يعلم صدقه قطعا فوجب على المؤمنين أن يكونوا مع الصادقين، ومتى وجب الكون مع الصادقين فلا بد من وجود الصادقين، لأن الكون مع الشيء مشروط بوجود ذلك الشيء، فهذا يدل على أنه لابد من وجود  الصادق في كل وقت، فيجب علينا حينئذ طلبه لنكون معه كما أمر الله، ومالا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
قال في البلغة ([1]). في تفسير هذه الآية:<أمر الله المؤمنين بالتقوى وهو أن يجتنبوا المعاصي وأمرهم بالكون مع الصادقين، والصادقون هم الأنبياء والأئمة عليهم السلام والصديقون من المؤمنين، والفرق بين كن مع الصادقين، وبين كن من الصادقين، وبين كن في الصادقين ـ أن مع تفيد المصاحبة، ومن تنبي عن التبعيض، وفي عن الظرف والوعاء، فمن كان في جملتهم فقد حصل المعاني الثلاثة، وكان علي بن الحسين عليهما السلام إذا تلي هذه الآية بكى وناح على نفسه، وله أدعية طويلة في هذا الباب مفصلة بالمواعظ البليغة والحكم البديعة>.
 
ثم فسرهم بأحوالهم ودل عليهم بأقوالهم وأعمالهم بقوله عز وجل: ((لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ)).[ٍالبقرة: 177]. ثم قال عز وجل في من جمع هذه الأوصاف: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا)). [ٍالبقرة: 177].  وقال: ((وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ)). [ٍالبقرة: 177].  ثم أمر الله تعالى بالكون معهم حيث قال: ((وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ )).[التوبة: 119].  وقوله تعالى: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ)).[الحجرات: 15]. قال الهادي إلى الحق عليه السلام: <فلم يحكم عز وجل بحقائق الإيمان إلا لمن بعد منه الارتياب في وجوه الدين والإحسان فنسأل الله الثبات على دينه والتوفيق لما يرضيه برحمته>.
قال الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة عليهم السلام: < لما عقب ذلك بقوله سبحانه: ((أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ)).[الحجرات: 15]. دل ذلك على أن من ادعى الإيمان بغير ما ذكرنا فهو من الكاذبين وأن دعواه تلحق بدعوى المنافقين سيما وقد أكد بترك الارتياب ولا يزول الارتياب إلا بعد استحكام العلم بالبرهان > وسيأتي كلامه إن شاء الله مستوفى في الحجرات.
ولم نجد من اجتمعت له هذه الصفات واقتفى خلفه سلفه في هذه الدلالات الواضحات غير هؤلاء الآثمة من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذين طابقت عقائدهم المعقول والمنقول، فشهد لهم بالإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين والسنن صرائح العقول، وعرف منهم الحرص على سائر صفات الذين صدقوا بما ميزوا به من المحقين والمبطلين والمطيعين والعاصين وفرقوا لأن الله عز وجل لا يخلي بين الكاذبين وبين الأمور التي لا تكون إلا من صفة الصادقين، لأن الحكيم في حكمه قد جعل بين الحق والباطل فصلاً، وبين منزلة الصادقين والكاذبين فرقاً، وكذلك صفة المؤمنين من العاملين والمخلصين أمرهم مباين لسيما المموهين.
 
قال في البلغة: <فإذا كان الله تعالى أثنى على من كانت صفته ما ذكر في الآية ووصفهم بأنهم الصادقون المتقون الفاضلون ولا يوجد في أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد نبيئها عليه وآله السلام بهذه الصفة أجل من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، فلو لم يدل هذا على أنه أفضل أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسيد الصادقين لما دل شيء على شيء في الدنيا، وهذه بعينها طريقة الأئمة والكبار من آل محمد وهم الصادقون الذين قال الله للمؤمنين كونوا معهم بقوله: ((يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ )).[التوبة: 119]. ولو أخذت في زهديات الحسن والحسين وأولادهما من الآثمة الطاهرين السابقين المقتصدين كعلي بن الحسين وولديه زيد ومحمد وكعبدالله بن الحسن وأولاده محمد وإبراهيم ويحي وكجعفر بن محمد وكالحسين بن علي صاحب فخ، وكمحمد والقاسم  ابني إبراهيم، وكالهادي إلى الحق يحي بن الحسين وولديه محمد  وأحمد عليهم السلام، وكسادات من آبائهم وأبنائهم وإخوانهم ونظرائهم في الدين والورع والزهد والعلم والعمل، وكذلك من سلك مسلكهم من شيعتهم وإخوانهم رحمة الله عليهم لصارت مصنفات، ولست أدري لماذا اشتغل الناس بإبراهيم بن أدهم ورابعة العدوية وفضيل بن عياض وشقيق البلخي، وبث زهدياتهم ونسوا آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم والله المستعان>.


ثم قال فيها: <وإذا صرف الإنسان همته إلى طريقتهم نسي طريقة فقهاء العامة وفي دروس طريقة أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة والتنزيل في شريعة جدهم عليهم السلام واستشهار طريقة العوام عبرة للعاقل ودليل واضح على ما جرى عليهم من الضيق ومعاداة الظلمة، وقد كانوا في هذا العالم وهم فصحاء الشريعة علماء شريعة جدهم صلى الله عليه وآله وسلم عباد وزهاد أهل ورع واجتهاد، قبل أن يخلق الله إبراهيم النخعي وأبا حنيفة والشافعي والله المستعان >.اهـ
وقد ذكر مثل هذا المعنى وزاد في صفات أهل البيت عليهم السلام الفقيه العلامة عبدالله بن زيد العنسي رحمة الله عليه، وأشار في كتابه الإرشاد إلى بعض شئ من عبادة أمير المؤمنين وصفاته كالمنبه على ما سواه لأن القليل من ذلك يدل على الكثير كضوء البارك يشير بالنو المطير من ذلك ما رواه فيه عن أبى الدرداء قال في حديث التفضيل: <شهدت عليا عليه السلام وقد اعتزل عن مواليه واختفى عن من يليه واستتر بفسلان النخل فافتقدته، وقلت: لحق بمنزله. فإذا أنا بصوت حزين ونغمة شجي، وهو يقول: "إلَهي كم من موبقة حلمت عن مقابلتها بنعمتك، وكم من جريرة تكرمت عن كشفها بكرمك، إلهي إن طال في عصيانك عمري وعظم في الصحف ذنبي فما أنا مؤمل غير غفرانك، ولا أنا راج غير رضوانك". قال أبو الدرداء: فشغلني الصوت واقتفيت الأثر، فإذا هو علي بعينه فاستترت منه وأخملت الحركة، فركع ركعات في جوف الليل الغابر ثم فزع إلى الدعاء والاستغفار والبكاء والبث والشكوى، فكان مما ناجى به ربه أن قال: "الهي أفكر في عفوك فتهون علي خطيئتي، ثم أذكر العظيم من أخذك فتعظم علي بليتي".  ثم قال: "آه إن أنا قرأت في الصحف سيئة أنا ناسيها وأنت تحصيها، فتقول: خذوه فياله من مأخوذ لا تنجيه عشيرته ولا تنفعه قبيلته، يرحمه الملأ إذا أذن فيه بالنداء". ثم قال: "آه من نار تنضج الأكباد والكلى، آه من نزاعة للشوى، آه من ملهبات لظى".
قال: ثم أنعم في البكاء فلم أسمع له حسا ولا حركة فقلت: غلب عليه النوم لطول السهر، أو قصد لصلاة الفجر فأتيته فإذا هو كالخشبة الملقاة فحركته فلم يتحرك فزويته فلم ينزو. وقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، مات والله علي بن أبى طالب. قال: فأتيت منزله مبادرا أنعاه إليهم، فقالت فاطمة عليها السلام: لهي والله الغشية التي تأخذه من خشية الله. ثم أتوه بماء فنضحوه على وجهه فأفاق ونظر إلي وأنا أبكي، فقال: "مم بكاؤك ؟." فقلت: بما أراك تنزله بنفسك. فقال: "يا أبا  الدرداء فكيف لو رأيتني وقد دعيت إلى الحساب، وأيقن أهل الجرائم بالعذاب، واحتوشتني ملائكة غلاظ وزبانية أفظاظ، فوقفت بين يدي الملك الجبار، وقد أسلمني الأحباء ورحمني أهل الدنيا، لكنت أشد رحمة لي بين يدي من لا تخفى عليه خافية" .
فإذا نظرت أيها الطالب للنجاة في أمير المؤمنين عليه السلام وشدة عبادته وإتعابه لنفسه وشدة مواظبته على طاعة ربه من كل نوع من أنواع الطاعات مع أنه مقطوع له بالجنة، علمت حقارة عملك وعظم خطرك وتحققت أنك أولى الناس بالعمل لنفسك والخضوع لربك لخلاصك لا لنفع غيرك.
وانظر فيما رواه الباقر عليه السلام: فإنه قال: <إن كان أمير المؤمنين علي عليه السلام ليأكل أكلة العبد، ويجلس جلسة العبد، وإن كان ليشتري القميصين السنبلانيين ويخير غلامه خيرهما ثم يلبس الآخر، فإذا جاوز كمه أصابعه قطعه، وإذا جاوز كفيه حذفه، ولقد ولي خمس سنين ما وضع آجرة على آجرة، ولا لبنة على لبنة، ولا قطع قطيعا، ولا أورث بيضاء ولا حمراء، وإن كان ليعطي خبز البر واللحم وينصرف إلى منزله فيأكل خبز الشعير والزيت والخل، وما ورد عليه أمران كلاهما رضى لله إلا أخذ بأشدهما على بدنه، ولقد أعتق ألف مملوك من كد يده، وما أطاق عمله أحد من الناس، وإن كان ليصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، وإن أقرب الناس شبها بع علي بن الحسين عليهم السلام، ما أطاق عمله أحد من الناس بعده >أهـ.
قال الإمام أحمد بن سليمان في كتاب الحكمة الدرية: <دخل أبو جعفر محمد بن علي عليهما السلام على أبيه قال: فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم أر أحداً قط بلغه، وإذا به قد اصفر لونه ورمضت عيناه من البكاء، ودبرت جبهته وانخرمت أنفه من السجود، وورمت شفتاه وقدماه من الصلاة، فرأيته بحال فلم أملك أن بكيت من رحمته، فإذا به ينظر إلي، ثم قال: يا بني اعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة علي. فأعطيته بعضها فما قرأ منها إلا شيئا يسيرا حتى رمى به تضجرا، وقال: من يقوى على عبادة علي صلوات الله عليه.
وفي تفسير ابن عباس رضي الله عنه قال: <ما أنزل الله تعالى في القرآن يا أيها الذين آمنوا إلا وعلي أميرها وشريفها>.
قال المنصور بالله عبدالله بن حمزة عليهم السلام: <ولا تعترض شبهة عند أحد من أهل البصائر أن كل آية في القرآن تتضمن مدحا وتعظيما وتشريفا للمؤمنين أو المسلمين مجملا أن أمير المؤمنين عليا عليه السلام درة تاجها ونور سراجها، ولا وقع وعد للمسلمين في العقبى، ولا نصرة في الدنيا إلا وهو مقصود عند جميع الأمة، فإن أشرك معه غيره مدع فببرهان يتوجده، أيستقيم أم لا؟. كقوله تعالى: ((يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)).[البقرة: 3]  ((وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ)).[البقرة: 177] ((وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)).[آل عمران: 7] ((وَالصَّابِرِينَ)). ((وَالصَّادِقِينَ)).و ((إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ)).[محمد: 7] و((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ)).[المؤمنون: 1] و((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ)).[الأنفال: 2]و((وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ)).[التوبة: 100] ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا)).[المائدة: 9] ((إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ)).[الإنفطار: 13] ونحو ذلك مما يطول ذكره، وكذلك أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن ينوه باسمه، ويدل على فضله بقوله وفعله، ويبين لأمته أنه القائم بخلافته والمنصوص على إمامته وأن الإمامة بعده في ذريته، وأكد الأمر فقال سبحانه: ((يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ)).[المائدة: 67] ولما علم سبحانه ما في قلوب أقوام من الضغائن أمنه من شرهم بما أوضح من عصمته بقوله عز وجل: ((وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ)).[المائدة: 67] فامتثل أمر ربه وبين بقوله وفعله، وميزه من أمته، يشهد بذلك وبما ورد فيه الموالف والمخالف، ومجمع على صحة النقل فيه جميع الطوائف، وفضائله عليه السلام أكثر من أن تحصى، ولها كتب مفردة، وظهورها عند أهل العلم يغني عن الإطناب فيها > اهـ.
وانظر فيما روى أنس بن مالك حيث قال: يقول الناس إن قوله تعالى: ((أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ )).[الزمر: 9] نزلت في علي بن أبى طالب، قال: فأتيته لأنظر عبادته قال: فأشهد لقد رأيته وقت المغرب فوجدته يصلي بأصحابه المغرب فلما جلس في التعقيب إلى أن قام إلى العشاء الآخرة، ثم دخل منزله فوجدته طول الليل يصلي، ويقرأ القرآن إلى أن طلع الفجر، ثم جدد وضوءه وخرج إلى المسجد وصلى بالناس صلاة الفجر، ثم جلس في التعقيب إلى أن صلى بهم العصر، ثم أتاه الناس يختصمون وهو يقضي بينهم إلى غربت الشمس، فخرجت وأنا أقول: أشهد أن هذه الآية نزلت فيه.
وعلى هذا المنهاج جرت العترة الطاهرة عليهم السلام مما لا يمكن شرحه وبيانه هاهنا مخافة الإملال من السامع، ولظهور حالهم بخلاف غيرهم فعلمنا أنهم صلوات الله عليهم ومن دان بدينهم وسلك سبيلهم هم الذين تعين فيهم الإتباع، واختص بهم الإقتداء، وأنهم المرادون بآية الاجتباء، وآية التطهير والمودة، وأحاديث التمسك والسفينة.
آما آية الاجتباء وكونهم المرادون بها وهي قوله تعالى: ((هُوَ اجْتَبَاكُمْ)). إلى قوله: ((لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)).[الحج: 78] فالأدلة على ذلك كثيرة، نذكر منها ما ذكره الإمام المنصور بالله عليه السلام في الشافي حيث قال: والدليل على أن هذه الآية الكريمة في أهل البيت عليهم السلام وعلى كونها دالة على وجوب الإقتداء بهم، وعلى أن إجماعهم دون غيرهم حجة طريقان: جدلية، وعلمية:
فالعلمية: الكتاب والسنة. والجدلية: ما نذكره من بعد إن شاء الله تعالى .
أما الكتاب فهذه الآية الكريمة ووجه الاستدلال بها: أن الله سبحانه اختارهم له شهداء فلو لم يكن قولهم حجة لما اختارهم وهذه الدلالة مبنية على أصلين أحدهما: أنه اختارهم له شهداء. والثاني: أنه لو لم يكن حجة لما اختارهم.
فأما الذي يدل على الأول وهو أنه اختارهم له شهداء فظاهر الآية ينطق بذلك في قوله: ((هُوَ اجْتَبَاكُمْ)). والاجتباء هو الاختيار، وظهوره في اللغة يغني عن الاستشهاد عليه فثبت الأصل الأول.
وأما الأصل الثاني وهو: أنه لا يختار له شهداء إلا من يكون قولهم حجة واجبة الإتباع فما دل عليه عدله وحكمته يوجب ذلك، ألا ترى  أن قاضيا من قضاة المسلمين لو قال: قد اخترت فلانا شاهدا ووجب عندي قطع الحق بقوله لدلنا ذلك أنه قد رضي بقوله، وثبتت عدالته عنده  وأنه لا يقول إلا ما يجب العمل به فعلام الغيوب أولى بذلك، لأنه إذا اختار هذا النصاب للشهادة على الناس دل ذلك على أنهم عدول عنده، وأنهم لا يقولون إلا الحق ((فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّا تُصْرَفُونَ)).[يونس: 32].
وقول من يقول: إن عموم الآية تتناول جميع ولد إبراهيم من اليهود والنصارى وغيرهم من سائر القبائل من ولد إبراهيم عليه السلام قول لا وجه له، فإنه وإن كان كذلك فإن الأخبار الواردة من جهة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما أوجبت متابعة من عدا عترته من القبائل، فالآية وإن كانت عموما قد خصتها الأخبار الواردة عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والكتاب والسنة يحذيان إلى جهة واحدة، فلا يجوز الفرق بينهما ولم ينص الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على أن قول غير عترته من القبائل حجة، فيجب حمل الآية على أن المراد بها عترته عليهم السلام دون ما ولد إبراهيم لهذه الدلالة، فهذا الذي دل عليه الكتاب.
وأما السنة: فالدلالة منها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض).
والكلام في هذا الخبر يقع في موضعين:
أحدهما: في صحته في نفسه. والثاني: في وجه الاستدلال به.
أما الكلام في صحته فإن ظهوره بين الأمة وانتشاره فيها بحيث لا دافع له ولا راد له دلالة على صحته، لأنه لو لم يكن من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لدفعوه وردوه، لأنه يتضمن وجوب متابعتهم قولاً وعملاً واعتقاداً، وذلك يقضي بوجوب اتباعهم في الأصول والفروع عاماً.
وأما الوجه الثاني: فهو أن ظهور هذا الخبر جار مجرى الأخبار الواردة في أصول الشرائع كالصلاة والزكاة والحج والصوم لأن وصولها إلينا على حد واحد، والعلم لنا بأحدها كالعلم بالآخر، فالمنكر لذلك متجاهل أو جاهل.
وأما وجه الاستدلال به فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمننا من الضلال أبداً ما تمسكنا بعترته، والتمسك بهم هو متابعتهم في القول والعمل والاعتقاد.
والثالث : أنه لو لم يكن إجماعهم حجة لما أمننا.
والذي يدل على الأصل الأول وهو أنه صلى الله عليه وآله وسلم أمننا من الضلال أبداً ما تمسكنا بعترته، فذلك ظاهر في لفظ الخبر بحيث يستغني عن تبيينه والاستدلال عليه لأنه قال: (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدا). وهذا في غاية الظهور والجلاء.
وأما الأصل الثاني: وهو أن التمسك بهم هو متابعتهم في القول والعمل والاعتقاد ـ فلأنه لا يحسن من أحدنا أن يقول: إني متمسك بطريقة فلان، ولكني لا أقول قوله ولا أعمل عمله، ولا أعتقد اعتقاده بل يعد من يقول بذلك مناقضا نازلا منزلة من يقول: إني متمسك بطريقه وغير متمسك، ولأنه عليه السلام قرنهم بالكتاب ولا خلاف في وجوب متابعة الكتاب في الوجوه الثلاثة التي قدمنا، وكذلك العترة لأن حالهم عنده صلى الله عليه وآله وسلم على سواء .
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون ذلك في الأصول ؟.
قلنا: هذا تحكم لأنه لم يفصل، ولأن الواجب في الأصول الرجوع إلى أدلة عقلية يجب اتباعها دعا إليها الواحد أو الجماعة العترة أو غيرهم، وتجويز من يجوز ممن قال: إجماعهم غير حجة مخالفتهم في الفروع لا وجه له؛ لأنه لا يخلو إما أن يقول: بأنه أمارة مفضية إلى الظن كخبر الواحد أو دلالة مؤدية إلى العلم أو القطع. فإن قال بالأول بطل بشهادة الكتاب والسنة، ولأنه لا يجوز مخالفة خبر الواحد في الشرعيات متى حصل الظن بصدقه، وإنما تجوز مخالفته عند فقد الظن فقد ثبت بطلان جواز المخالفة على هذا الوجه.
وإن قال بالثاني من الوجهين فكيف يجوز مخالفة المعلوم والمقطوع به إلى المظنون المتوهم هل ذلك إلاَّ عين التنكب لطريق الإنصاف.
وأما الثالث : وهو أنه لولا أن إجماعهم حجة ومتابعتهم واجبة لما أمننا ؛ لأن المعجزات الظاهرة على يديه صلى الله عليه وآله وسلم قد أزاحت عنا تجويز التلبيس والتغرير في أخباره، فلو لم يكن قولهم واجب الإتباع لكان قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا). إتيان لنا من غير مأمون، واستدعاء إلى ارتكاب المخوف، وذلك أعظم التغرير وأقبح التلبيس، وقد ثبت أنه لا يجوز  عليه شئ من ذلك.
وأما الطريقة الثانية من الطريقتين المتقدمتين فهي: أنا نقول قد ثبت لنا بما قدمنا كون إجماع أهل البيت عليهم السلام حجة فلا يخلو القائل بأن إجماع الأمة حجة، إما أن يعتبر أهل البيت أو لا يعتبرهم، فإن لم يعتبرهم فقد أخرج أفاضل الأمة عن أن يعتد بهم ولا قائل بذلك، وإن اعتبرهم فالحجة لازمة لقولهم لما قدمنا، فلا معنى لجعل إجماع الأمة إجماعا ثانيا غير إجماع العترة، فقد صح لك أن مدار الحق على العترة في الحالتين جميعا، وذلك يكشف أنه لا اعتبار بمن سواهم، إلا أن نجعل الحجة ما كان قائما بنفسه في الدلالة فلو ساغ جعل ما ليس بحجة حجة إذا انظم إلى الحجة لساغ قول من يقول: إن قول الواحد حجة يجب اتباعها إذا انضم إلى دليل عقلي، وذلك ظاهر الفساد فهذان الطريقان بحمد الله كافيان لمن أنصف.
وأما آية التطهير وهي قوله تعالى: ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)).[الأحزاب: 33] فهي دليل العصمة أيضا لأن رجس الأقذار حكمهم فيه وحكم غيرهم بالاتفاق واحد، فلم يبق فائدة الآية وخبر الكساء الذي بينها إلا تطهيرهم من درن الأوزار، وذلك معنى العصمة شهادة الله لهم وشهادة رسوله بإذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم.
والتطهير : التنزيه عن الإثم، وعن كل قبيح، ذكر ذلك صاحب المجمل في اللغة أحمد بن فارس اللغوي وهذا يقوي معنى العصمة، وهو ترك مواقعة الرجس، وبمقتضى لفظ القرآن العزيز، وقد ورد لفظ الصحيح من قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فصار ذلك دليلا من الطريقتين وطريق عصمة من  الأصلين، وذلك يقضي بعصمتهم بإرادة الله سبحانه وإخبار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، ويمنع وقوع الخطأ عاجلا وآجلا، وإذا أمنا وقوع الخطأ منهم وجب الإقتداء بهم دون من لم نأمن منه وقوع الخطأ، وتطرق الرجس عليه وترك التطهير له، ومن يؤمن وقوع الخطأ منه ثبت أنه يهدي إلى الحق لموضع قول الله سبحانه وتعالى: ((أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ))[يونس: 35]. فقد أوجب الله الإقتداء بمن يهدي إلى الحق، وليس ذلك إلا مع تطهيره له وإذهاب الرجس عنه، ووبخ من لم يحكم بذلك فصار ذلك حكم الله سبحانه وتعالى ، ومن لم يحكم به كان من أهل هذه الآية ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ))[المائدة: 44].
وأما آية المودة فدالة على وجوب محبتهم على الجزم.
ووجه الاستدلال بها: أنه عز وجل جعل حبهم الذي هو لهم نفعة في الدين أجرا لسيد المرسلين أوجبه على كافة الخلق أجمعين، ومن ظلم الأجير أجرته فهو من الظالمين، فما حال من ظلم النبي الأمين في وداد عترته الأكرمين فهو من الهالكين بأيقن يقين.
وفي المودة والبغض لآل محمد صلوات الله عليه وعليهم أخبار كثيرة وأحاديث شهيرة رواها الموالف والمخالف، وسيأتي إن شاء الله في سورة المودة الإشارة إلى شيء منها ولنذكر هاهنا حديثا واحدا في المودة، وآخر في البغض من رواية الإمام الناصر للحق الحسن بن علي الأطروش عليهم السلام تبركا بذكره وروايته فإنه قال في كتاب البساط ما لفظه: وخبرت عن الحسن بن عبدالله بن أبى ليلى قال: حدثنا سعيد بن نصر السكوني عن محمد بن أبى ليلى وعن الحكم بن عبدالرحمن بن أبى ليلى عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من نفسه، وأهلي أحب إليه من أهله، وعترتي أحب إليه من عترته، وذاتي أحب إليه من ذاته).
وقال عليه السلام فيه أيضا: وحدثنا محمد بن منصور قال: حدثنا حرز بن الحسين قال: حدثنا حسان بن سدير قال: حدثني شريف المكي قال: حدثنا محمد بن علي وما رأيت محمديا يعدله، قال: حدثنا جابر بن عبدالله الأنصاري قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (أيها الناس من أبغضنا أهل البيت بعثه الله يوم القيامة يهوديا). قال: قلت يا رسول الله وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم؟. قال: (وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم).
ومن المعلوم أنه ليس من محبتهم الرفض لهم ولعلومهم والإقتداء بغيرهم، فإن ادعاء المحبة بغير عمل سخرية وجهل، لأن خلافهم خلاف المودة، ولم يودهم من خالفهم، وقد قال تعالى: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ))[آل عمران: 31]. فقرن المحبة بالإتباع، فمن لم يتبعهم لم يحبهم، وكفى بالإجماع دليلا فإنه لا خلاف في وجوب حب آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمكان الآيات والأخبار والكل من ذلك دال على وجوب اتباعهم قولهم قولا وعملا واعتقادا، لأن عدم ذلك خلاف المودة، فمن خالفهم فلم يودهم، ومن لم يودهم فقد عصى الله، ومن هاهنا يعلم أن إجماعهم حجة، وسيأتي إن شاء الله تعالى في هذه الثلاث الآيات ونحوها من تفسير أئمتنا عليهم السلام ما يشفي العليل ويوضح السبيل، فالطريق بحمد الله في ذلك واضح والحق فيه منير لائح فليتق الله المتأول لهذه الآيات الملقي في قلوب السامعين الشبهات.

وأما أحاديث التمسك والسفينة فهي كما رواه في كتاب قواعد عقائد آل محمد عليهم السلام وغيره أنهما مما تلقتها الأمة بالقبول.


من ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم يوم نزل بماء يدعى خما بين مكة والمدينة في حجة الوداع فقام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (أيها الناس إنما أنا بشر مثلكم يوشك أن يأتيني رسول من ربي فأجيب فإني تارك فيكم ثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي).

وفي رواية أخرى قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أوصيكم بكتاب الله وأهل بيتي إني سألت الله أن لا يفرق بينهما حتى يوردهما علي الحوض فأعطاني ذلك). 
 
وفي رواية (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض). 

والأصل في ذلك ما رويناه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في خطبة الوداع: (أيها الناس إني امرؤ مقبوض وقد نعيت إلي نفسي ألا وإنه سيكذب علي كما كذب على الأنبياء من قبلي فما أتاكم عني فأعرضوه على كتاب الله فما وافق كتاب الله فهو مني وأنا قلته، وما خالفه فليس مني ولم أقله). 

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (أمة أخي موسى افترقت على إحدى وسبعين فرقة).
وفي رواية (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة فواحدة في الجنة وسبعون في النار، وستفترق أمتي بعدي على ثلاث وسبعين فرقة كلها هالكة إلا فرقة واحدة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة، والذي نفس محمد بيده لتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة فواحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار).

وفي روايات أخر (تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ما أنا عليه اليوم وأصحابي). والأمة مجمعة على صحة هذا الخبر، وكل فرقة من فرق الإسلام تتلقاه بالقبول، وتزعم أنها هي الناجية -
 هذه من الاحاديث التي تعارض كتاب الله  ملاحظة ناقل المقال( ابوسام)

 

 راجع  دراسة  

 

العلامة السيد حسن بن علي السقاف

 

تنبيه الحذاق إلى بطلان حديث الافتراق بقلم : العلامة السيد حسن بن علي السقاف ع

على الرابط:

http://abu-dhar-al-ghifari3.blogspot.fr/2014/09/blog-post_19.html 

 فلما سمع ذلك منه صلى الله عليه وآله وسلم ضاق به المسلمون وضجوا بالبكاء وأقبلوا عليه وقالوا: يا رسول الله كيف لنا بعدك بطريق النجاة؟. وكيف لنا بمعرفة الفرقة الناجية ؟. حتى نعتمد عليها؟. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي، كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا بم تخلفوني فيهما).
وحديث التمسك هذا معلوم الصحة لتواتره برواية المخالف والموالف، وهذا الخبر ونحوه قد شهد لهم بالاستقامة إلى ورود الحوض يوم القيامة، ودل على أن العترة عليهم السلام متمسك كالكتاب حيث قرنهم به، وجعلهم حجة مثله، وإلا بطل معنى الاقتران، فكما أن الكتاب واجب الإتباع فكذلك هم، وأمننا الصادق مع ذلك من الضلال بشرط التمسك بهم، وذكرهم بلفظ (لن) وهي لنفي الأبد فلا خوف مع ذلك.
ومما رواه أئمتنا عليهم السلام وشيعتهم رضي الله عنهم عن علي عليه السلام أنه قال بعد ذكره افتراق اليهود والنصارى: (وافترقت هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كل فرقة على ثلاث وسبعين ملة، كل ملة ضالة مضلة إلا من أخذ بحجزتي وحجزة أهل بيت رسوله وكتابه وسنته واتباع الحبل الأكبر والحبل الأصغر).
ومن ذلك ما روي من طريق أخرى أنه خرج في مرضه الذي توفي فيه ومعه علي والعباس فصلى ووضعاه على المنبر فخطب وحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين لن تعمى قلوبكم ولن تزل أقدامكم، ولن تقصر أيديكم ما أخذتم بهما، كتاب الله سبب بينكم وبين الله فأحلوا حلاله وحرموا حرامه). فعظم من أمر الكتاب ما شاء الله أن يعظم ثم سكت، فقال عمر بن الخطاب: هذا أحدهما قد أعلمتنا به فأعلمنا بالآخر؟. قال: (أما إني لم أذكره إلا وأنا أريد أن أخبركم به غير أني أخذني الريق فلم أستطع أن أتكلم ألا وعترتي ألا وعترتي ألا وعترتي). ثلاثاً.
وفي رواية ثم قال: (وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أ هل بيتي، فوالله لا يبعث رجل يحبهم إلا أعطاه الله نوراً حتى يرد علي يوم القيامة).
وفي رواية رواها الحجوري في الروضة قال: قال أبو العباس محمد بن إسحاق: فلما اشتد به صلى الله عليه وآله وسلم الوجع اجتمع إليه أهل بيته ونساؤه، فلما رأت فاطمة عليها السلام أباها قد ثقل دعت الحسن والحسين فجلسا معها إلى رسول الله صلى  الله عليه وآله وسلم، ووضعت خدها على خد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجعلت  تبكي حتى اخظلت لحيته ووجهه بدموعها، فأفاق صلى الله عليه وآله وقد كان أغمي عليه فقال لها: (يابنيه لقد شققت على أبيك). ثم نظر إلى الحسن والحسين واستعبر بالبكاء فقال: (اللهم إني أستودعكهم وصالح المؤمنين، اللهم هؤلاء ذريتي أستودعكهم وكل مؤمن). ثم أعاد الثالثة ووضع رأسه، ثم قالت فاطمة: واكرباه لكربك يا أبتاه. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا كرب على أبيك بعد الموت). ثم أمر أن يصب على رأسه سبع قرب ماء من سبع آبار، ففعل به ووجد خفة، وخرج فصلى بالناس، ثم قام يريد المنبر وعلي والفضل بن عباس قد احتضناه حتى جلس على المنبر فخطبهم واستغفر للشهداء ثم أوصى بالأنصار، ثم قال: (إنهم لا يزيغون عن منهاجها، ولا آمن منكم معاشر المهاجرين الارتداد). ثم رفع صوته حتى سمع جميع من في المسجد وورائه يقول: (أيها الناس سعرت النار وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، والله لا تعتلون علي غدا بشيء ألا وإني قد تركت فيكم الثقلين فمن اعتصم بهما فقد نجا، ومن خالفهما هلك وهوى). قال عمر بن الخطاب: وما الثقلان يا رسول الله ؟. قال: (أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله سبب طرف منه بيد الله تعالى ، وطرف بأيديكم وعترتي أهل بيتي فتمسكوا بهما لا تضلوا ولا تتبدلوا أبدا فإن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، وإني سألت الله ذلك فأعطانيه فلا تسبقوهم فتهلكوا ولا تقصروا عنهم فتضلوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم بالكتاب، أيها الناس احفظوا قولي تنتفعوا به بعدي، وافهموا عني تنتعشون لئلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، فإن أنتم فعلتم ولتفعلن لتجدن من يضرب وجوهكم بالسيف). ثم التفت عن يمينه فقال: (أين علي بن أبى طالب؟. ألا وإني قد تركته فيكم ألا هل بلغت؟). فقال الناس: نعم يا رسول الله صلى الله عليك. ثم قال: (اللهم اشهد، ألا وإنه سيرد علي الحوض منكم رجال فيدفعون عني  فأقول: يا رب أصحابي أصحابي؟. فيقول:يا محمد إنهم أحدثوا بعدك غيروا سنتك، فأقول: سحقاً سحقاً). انتهى ما ذكره في الروضة.
واعلم أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم ينتصب في حال التعب والمشقة لأنه يعرفهم بما قد عرفوا من تعظيم القرآن، وإنما أراد بذلك بيان حال العترة الأطهار أنهم صلوات الله عليهم متمسك كالكتاب.
وأيضا وجدنا الله عز وجل قد أخبر عن أهل البيت بصفة تشهد باستحقاقهم لما في خبر التمسك هذا من مقارنتهم للكتاب، وأن لهم حكمه في التمسك حيث قال عز وجل: ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)). وبَيَّنهم صلى الله عليه وآله وسلم بما رواه عنه علماء الحديث في خبر الكساء .
وقد نظم الشعراء أحاديث التمسك وغيره من ذلك قول سعد بن بارق مخاطبا للإمام الزكي زيد بن علي عليهما السلام:
أجبت كتاب الله حق إجابــة
وسلمت للقرآن فيما قضى به
وأنتم حصون العلم بعد محمد

 
وصدقته فيكـــــــم فأنتم ولاته
ولايتكم فـــيه فأنتــم ولاتـــــه
بكم يهتدي الهادي وأنتم رعاته

 
فقال زيد بن علي عليهما السلام: جعلك الله سعيدا في حياتك شهيدا في مماتك  فقتل سعد مع يحي بن زيد عليهما السلام.
ومن أحاديث السفينة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى). فهذا الخبر دال على أنهم كالسفينة، فكما أن السفينة منجاة للأبدان من الغرق فكذا أهل البيت منجاة للأبدان من الهلكة، ولقد أحسن من قال:
أنتـــم سفـينـــة نــوح والمراد بهــا
فمــن تعــلـق منـــها بــالولاء نجـا
وما الــمودة في الـقــربى بواجــبـة
وما الصراط سوى إضمار طاعتكم
وكـل منقلـب عـن عــقد بيعتكـم
بنـي أبي طالــب لــولا مـــحبتكم
لـولا محبتكــم فينـــا وحجتـــكـم

 
ولاؤكم لا مسامـــيرا ولا خشــبا
ومن تخلف في بحر الهوى عطبـــا
لهاشم بل لكم يا أقرب القـــــربا
فمن تنكب عن منهـــاجكم نكبا
كان الجحيم له مــــأوى ومـنقلبا
ما فاز ذو الدين والدنيـــا بما طلبا
لكاد يزهد في الإسلام مـــن رغبا

 
وقد علم السامعون أن الرافض لمذاهبهم، والتابع لسواهم، والمستفتي لغيرهم، المقتبس علمه من أضداد هم متخلف غير راكب معهم في سفينتهم، وهم سفينة النجاة، فعلمنا أنه صلى الله عليه وآله وسلم بَيَّنَ للأمة بذلك أن إتباع أهل بيته في القول والعمل والاعتقاد هو طريق النجاة، وأن مخالفتهم هي سبب الهلاك، وإلا لما مثلهم بسفينة نوح، وقد علمنا أن أمة نوح عليه السلام هلكت كلها إلا من ركب في السفينة ـ علمنا أن كل الأمة يهلكون إلا من اتبع أهل بيت نبيئه عليهم السلام وإلا لبطل التمثيل النبوي المأخوذ عن الملك العلي، وأن الملتزم لطريقة غيرهم من الفقهاء الذين خالفوا طرائقهم لا ينجون مع الناجين، كما أن أمة نوح لم ينج منها من التجأ إلى غير السفينة، ولما حكم صلى الله عليه وآله وسلم  بغرق المتخلف عنهم أو بهلاكه على حسب الرواية ثبت كونه عاصيا لربه ضالا عن مناهج دينه إذ لم يقبل من مرشده إرشاده ولا فَقِهَ مراده، ومما ورد فيهم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أهل بيتي كالنجوم كلَّما أفل نجم طلع نجم).  فكما أن النجوم يهتدى بها في ظلمات البر والبحر فكذا حال العترة يهتدى بهم في ظلم الشبه والحيرة.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم  في تفضيلهم والدلالة على إتباعهم وما فضلهم الله به على غيرهم: (النجوم أمان لأهل السماء ، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض فإذا ذهبت النجوم من السماء أتى أهل السماء ما يوعدون، وإذا ذهب أهل بيتي من الأرض أتى أهل الأرض ما يوعدون).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف فإذا خالفتهم قبيلة من العرب صارت حزب إبليس). فهذا ومثله فكثير عنه صلى الله عليه وآله وسلم  يفهمه من روى عنه صلى الله عليه وآله وسلم  ونحن نستغني بقليل ذكره عن كثير.
وأيضا الأمة مجمعة على أن النجاة إنما تكون بمتابعة القرآن والقرآن قد شهد أن النجاة بمتابعة العترة الأطهار كما قدمنا من نحو قوله عز وجل: ((يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ))[التوبة: 119]. ثم عرفنا تعالى بالصادقين منهم بصفاتهم في الآيات التي مر ذكرها، فإذا تأمل العاقل ذلك علم أن القرآن قد شهد بأن الفرقة الناجية هم فرقة أهل البيت عليهم السلام  ، وإن التَفتَّ إلى السنة الشريفة وجدتها قاضية بمثل هذه الشهادة في أخبار كثيرة منها ما قدمنا.
ومنها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم  يوم غدير خم بعد أن بلَّغ ما أمره الله به في علي بن أبى طالب عليه السلام: (أيها الناس إني فرطكم وأنتم واردون علي الحوض حوض أعرض مما بين بصرى إلى صنعاء فيه عدد  النجوم قدحان من فضة وإني سائلكم حين تردون علي عن الثقلين فانظروا كيف تخلفوني فيهما ؟. الثقل الأكبر كتاب الله عز وجل سبب طرفه بيد الله تعالى وطرف بأيديكم فاستمسكوا به لا تضلوا ولا تبدلوا، وعترتي أهل بيتي فإنه قد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن ينقضيا حتى يلقياني، وسألت الله لهم ذلك فأعطاني فلا تسبقوهم فتهلكوا ولا تعلموهم فهم أعلم منكم).
ومنها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله جعل عليا وزوجته وابنيه حجج الله على خلقه، وهم أبواب العلم في أمتي من اهتدى بهم هدي إلى صراط مستقيم).
ومنها: صريح قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله جعل عليا لي وزيرا وأخا ووصيا، وجعل الشجاعة في قلبه، وألبسه الهيبة على عدوه، وهو أول من آمن بي، وهو أول من وحد الله معي، وهو سيد الأوصياء ، اللحوق به سعادة، والموت في طاعته شهادة، واسمه في التوراة مقرون إلى اسمي زوجته الصديقة الكبرى ، وابناه سيدا شباب أهل الجنة، وهو وهما والأئمة من ولدهما حجج الله على خلقه).
ومنها: ما رواه المرشد بالله عليه السلام في أماليه بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من سره أن يحي حياتي ويموت ميتتي ويدخل جنة عدن التي غرسها ربي [عز وجل] بيده فليتول علي بن أبى طالب وأوصياءه فهم الأولياء والأئمة من بعدي أعطاهم الله علمي وفهمي وهم عترتي من لحمي وجمي إلى الله أشكو من ظالمهم من أمتي والله لتقتلنهم أمتي لا أنالهم الله عز وجل شفاعتي).
ومنها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (قدموهم ولا تتقدموهم، وتعلموا منهم ولا تعلموهم ولا تخالفوهم فتضلوا ولا تشتموهم فتكفروا). فقضى بالضلال على مخالفتهم والكفر على من شتمهم فكفى بذلك زاجرا لأهل البصائر، وخزيا ونكالا لأهل الكبائر.
ولسنا نأتي على جميع الأحاديث الواردة فيهم عليهم السلام  لأن ذلك لا يدخل تحت الإمكان لأنها كتب جمة وألوف أحاديث كثيرة من رواية الموالف والمخالف حتى تواتر وعلم علما لا يمكن دفعه بشك ولا شبهة.
قال الديلمي رحمه الله تعالى:<الأحاديث التي من رواية الفقهاء المتفق عليها يعني في أهل البيت عليهم السلام ألف وخمسمائة  وستة أحاديث غير ما ذكره أهل البيت عليهم السلام  وشيعتهم رضي الله عنهم منها ستمائة وخمسة وثمانون حديثا يختص بعلي عليه السلام، وتسع مائة وعشرون حديثا يختص بالعترة عليهم السلام  كل واحد منها يدل على إمامتهم وفضلهم على سائر الناس>.
قال الإمام المنصور بالله عبدا لله بن حمزة عليه السلام ما معناه:<الأحاديث فيهم عليهم السلام  من رواية الموالف والمخالف قريب من ألف ألف حديث > اهـ.
ودلالة ما هذا شأنه وحاله من الأحاديث على نجاة المتبعين لأهل البيت عليهم السلام  ظاهر مكشوف منبوذ معناه على طرف التمام يتعاطاه الجاهل والعارف لا يخفى على أحد إلا أكمه لا يعرف القمراء ، وإنما غرضنا هاهنا الإشارة إلى بعض ما ورد فيهم مما يدل على وجوب التمسك بمذهب آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم  لأن التمسك بحبل الله وحبل رسوله وحبل ذرية رسوله أئمة الهدى عليهم السلام نجاة من كل هلاك قال تعالى: ((وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا))[آل عمران: 103]. فحبل هؤلاء موصول بحبل الله، وقال: ((وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ))[آل عمران: 101].
وروى الإمام المنصور بالله عبدا لله بن حمزة عليه السلام بإسناده عن الثعلبي في تفسير قوله تعالى: ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ))[الفاتحة: 6]. قال: قال مسلمة بن حيان: سمعت أبا ثريدة يقول: صراط محمد وآله.
قال الإمام علامة العترة محمد بن القاسم بن إبراهيم عليه السلام في كتابه دعائم الإيمان: لأن الكتاب والسنة والعترة الطاهرة إمام أهل الخشية الذين يلجأون إليه عند كل شبهة وفتنة، وبذلك جاء الخبر عن أمير المؤمنين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: (ستكون فتنة من بعدي). قلت: "يا رسول الله فما المخرج منها لمن فتن؟". قال: (كتاب الله فيه خبر ما قبلكم  وحكم ما بينكم فمن اتبع الهدى في غيره أو سأل عنه غير أهله أضله الله، ومن قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن اهتدى به هدي، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم).
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: (أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهداية هدي محمد وهدي أهل بيته الطيبين، وشر الأمور محدثاتها)اهـ.
دل ما تقدم من الأخبار والآيات على وجوب التمسك بآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم  وعن تحريم مخالفهم قولا وعملا واعتقادا ولو لم يكن من ذلك إلا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض). والمؤمن حقا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كما في الخبر الصحيح المتواتر، فإن العلماء المطلعين على كتب الفرق الإسلامية يعلمون صحته لرواية الموالف والمخالف لا يختلفون إلا في يسير من اللفظ فيه مع اتحاد المعنى فمن خالف أهل بيت محمد صلى الله عليه وآله وسلم  فقد شاقَّه واتبع غير سبيل المؤمنين كيف وقد رويت أخبار كثيرة تؤدي معنى واحدا أن آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم  على الحق غير ما تقدم من الأخبار نحو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (تكون بين الناس فرقة واختلاف يكون هذا- وأشار إلى علي وأصحابه - على الحق). ذكر معنى هذا إمامنا المنصور بالله عليه السلام في آيات الأحكام.
وروى أيضا في الاعتصام بإسناد بلغ به إلى أبى الزبير عن جابر الأنصاري قال: كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ أقبل علي بن أبى طالب عليه السلام  فلما نظر إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم  قال: (أتاكم أخي). ثم التفت إلى الكعبة، فقال: (ورب هذه البنية إن هذا وشيعته هم الفائزون يوم القيامة). ثم أقبل علينا بوجهه فقال: (أما والله إنه أولكم إيمانا بالله وأقومكم بأمر الله، وأوفاكم بعهد الله، وأقضا كم بحكم الله، وأقسمكم بالسوية، وأعدلكم في البرية وأعظمكم عند الله مزية). قال جابر: فأنزل الله: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ))[البينة: 7]. فكان علي إذا أقبل قال أصحاب محمد : قد أتاكم خير البرية من بعد رسول الله، ثم ذكر فيه أحاديث جمة من طرق كثيرة عن عدة من الصحابة شاهدة بأن هذه الآية نزلت فيه عليه السلام.
وفيه أيضا عن إبراهيم بن أبي شيبة الأنصاري قال:جلست إلى الأصبغ بن نباته فقال: ألا أقرئكم ما أملاه علي بن أبى طالب، فأخرج إلي صحيفة فيها مكتوب:
  
"هذا ما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أهل بيته وأمته بتقوى الله ولزوم طاعته، وأوصى أمته بلزوم أهل بيته، وأن أهل بيته يأخذون بحجزة نبيهم، وأن شيعتهم يأخذون بحجزهم يوم القيامة، وأنهم لن يدخلوكم باب ضلالة، ولن يخرجوكم من باب هدى" اهـ.
وفي هذا المعنى أحاديث لا تحصى كثرة، بل لها كتب مستقلة، وقد تضمن ما قدمنا كثيرا من خطب أمير المؤمنين علي عليه السلام كالخطبة الزهراء التي قال فيها الإمام الحسن بن بدر الدين عليه السلام في شرح أنوار اليقين ما لفظه: الخطبة الزهراء هي الخطبة الكبرى التي خطب بها أمير المؤمنين علي عليه السلام قبل موته البعيد والقريب، وأسمعها البغيض والحبيب، ممن كان في عصره ممن يبلغه ذلك عنه، وهي آخر خطبة خطبها ولقي الله عليها، انطوت على علم كثير، وبين فيها عليه السلام أحوال الدنيا، وما يكون بعده من العظائم إلى يوم القيامة، وهي موجودة بحمد الله غير أنا نذكر منها طرفا، منبها لذوي البصائر على ما تقدم.
قال عليه السلام في موضع منها: "ألا وإني أقول قولي هذا لعلي لا أقول بعد يومي هذا مثل قولي هذا فليسمع المحبون والمبغضون فإنه ما من نبي بعث في الأولين والآخرين إلا كان له هاد من بعده، وإن موسى كليم الله ومحمد صفي الله، وأقام موسى من بعده هاديا مهديا هارون ابن أُمه، وإن محمدا أقامني هاديا مهديا فأنا نظيره إلا أني لست بنبي، فاختلفتم كما اختلفت بنو إسرائيل على هارون فضربها الله بالفتن والاختلاف وإطاعة السامري، فعاقبهم بالقتل فمن قتل نفسه بالتوبة كان شهيدا، ومن كره القتل عوقب بالافتراق والخروج عن الملة فافترقت على اثنتين وسبعين فرقة كلها ضلت وتاهت عدا بقية من آل موسى وآل هارون، وهي الأمة الهادية التي قال الله: ((وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ))[الأعراف: 159]. وهي التي تعدل وتهدي، ولم يكن الله ليضل الناس بعده، وافترقت هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كل فرقة على ثلاث وسبعين ملة فكل ملة ضالة مضلة إلا من أخذ بحجزتي وحجزة أهل بيت رسوله وكتابه وسنته، واتبع الحبل الأكبر والحبل الأصغر". إلى آخر كلامه عليه السلام وهو طويل جدا.
قال إمامنا المنصور بالله رحمة  الله عليه في الاعتصام: وقد أوسع في هذا المعنى من الأدلة من الآيات والأخبار ما هذا لفظه: (دل جميع ما تقدم من الآيات والأخبار المتفق عليها في مشاهير كتب الأمة بلا تواطؤ على وجوب التمسك بمذهب آل محمد، وهم يدعون إلى ما أوجب الله والى ما هو دعاء من الله ومن رسوله إلى الأخذ بمحكم الكتاب والمعلوم من سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم  بالتواتر والتلقي بالقبول، وعلى الرد إلى الله وإلى الرسول فيما اختلفوا فيه قال الله سبحانه وتعالى: ((فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ))[النساء: 59]. وبلغنا عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه في الجنة أنه قال: "الرد إلى الله هو الرد إلى محكم كتابه والرد إلى رسوله هو إلى سنته الجامعة غير المفرقة". وقال الله تعالى: ((يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ))[الأنفال: 24]. وهذا صراط الله المستقيم الذي قال سبحانه: ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ))[الأنعام: 153]. إلى قوله عليه السلام: "وهذه سبيل محمد صلى الله عليه وآله وسلم  وقد قال الله تعالى: ((قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ))[يوسف: 108]. فنحن ندعو إلى ذلك ونجيب من دعانا إليه لا نخالف الحق ولا نختلف فيه إن شاء الله تعالى ، ومع هذا فإنا لا نستوحش ممن هجر مذهبنا وتجنب الأخذ والرواية عن آبائنا عليهم السلام وشيعتنا رضي الله عنهم، ونرى الأخذ عن الدعاة إلى النار برواية الثقاة من الفريقين". إلى آخر كلامه عليه السلام في هذا المعنى وهو بسيط جدا، وإنما هذا تنبيه على المعنى المقصود من وجوب إتباع آل محمد صلى الله على محمد وعلى آل محمد وسلم.
ويؤكد ما قدمنا من الأدلة إجماع العترة الطاهرة وشيعتهم فإن إجماعهم على ذلك مشهور لا ينكره إلا من قلبه بالجهل مغمور، وإجماعهم عليهم السلام حجة واجبة الإتباع للأدلة الشرعية والبراهين القطعية، وذلك أنهم عليهم السلام يدينون ويعتقدون أنهم أهل الكتاب الذين اصطفاهم الله لإرثه وأهل الذكر الذين أمر بسؤالهم وأولوا الأمر الذين أوجب الله على جميع المكلفين طاعتهم والرجوع إليهم  وأنهم هم الأمة الذين يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وأنهم المفلحون، وأنهم الشهداء على الناس، وأن الرسول هو الشهيد لهم على الناس بذلك، وأنهم هم الصادقون الذين أمر الله بالكون معهم، وأنهم الذين فرض الله مودتهم، وحكم بعصمتهم وطاعتهم، وأنهم  أمان لأهل الأرض من الغرق، وأنهم كسفينة نوح من اعتصم بهم و اتبع آثارهم نجا ومن تخلف عنهم غرق وهوى ، وأنهم باب حطة، وباب السلم، فادخلوا في السلم كافة، وأنهم قرناء الكتاب المعبر عنه بالثقلين كما مر، وأنهم خلفاء أرضه، وأئمة خلقه، ودعاة بريته، وأنه لا تخلو الأرض من حجة منهم لله فيها وعلى الحق ظاهرين.
واعلم أنه إذا دل الدليل على شئ فالإعراض عنه وعن اعتقاده زيغ وميل عن الحق خصوصا إذا كان متعلقا بالتكليف فيأثم إثما عظيما في تركه والإعراض عنه لدخول ذلك في كتمان الحق، وترك إظهاره، والتدين يقتضي خلافه فالتمسك بالحق أولى من التمادي في الباطل فنعوذ بالله من إلف العصبية , وما يؤدي إليها.
فهل في البيان متبع العترة والحكمة بإصابتهم ما هو أظهر من هذا !! لكن طاشت الحلوم، وضاعت العلوم، واختار الناس غير ما اختاره الحي القيوم.
فإن قيل: أهل البيت عليهم السلام  فيهم عصاة لا تجوز موالاتهم، ومخالفون لأهل البصائر منهم لا يسع إتباعهم، وقد قلت: إنهم كالكتاب وقرناؤه، وقد رأينا كثيرا منهم من يجاهر بالمعاصي، ومنهم من يتمسك بأديان الضلال؟.
قلنا ولا قوة إلا بالله: يخصص الفساق منهم آيات محكمات وأخبار صحيحات، ليس هذا موضع ذكرها، ولكنا نقول كما قال الإمام المنصور بالله عبدا لله بن حمزة عليه السلام: هم صلوات الله عليهم كما أن في الكتاب شرفه الله وعظمه محكما ومتشابها ومنسوخا، لأن الناسخ من نوع المحكم، فالواجب الرجوع إليه  واطراح معنى المنسوخ، فكذلك ذرية  النبي صلى الله عليه وآله وسلم  تنقسم إلى ثلاثة أقسام: أئمة سابقون يجب الرجوع إليهم، وتابعهم منهم لقول الله تعالى حاكيا عن إبراهيم عليه السلام: ((فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي))[إبراهيم: 36].
ومجاهرون بالمعاصي بمنزلة المنسوخ من كتاب الله عز وجل يجب اطراح معناه، ومتمسكون بأديان أهل الضلال مع ثبوت أنسابهم إلى الذرية الزكية فهم بمنزلة المتشابه من كتاب الله تعالى لا يتبعه إلا الذي في قلبه زيع كما قال الله تعالى .
فإن قلت: لا يجب إتباع القرآن لذلك ؟. فقل في أهل البيت عليهم السلام كذلك.
قلنا: قال الله عز وجل: ((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ))[الحديد: 26]. فلم يسقط فسق الفاسقين وجوب إتباع الصادقين، ولا أخرجهم من ورثة الكتاب فعل أهل الزيغ والارتياب، فتأمل ذلك موفقا، وَأتِ العلم من طرقه وبابه، وتفهم رحمك الله معاني كتاب الله من أربابه، واطلب هذا العلم من ورثته ونصابه، فإن للدين طرقا كما للمسجد والسوق، فالواجب على العاقل أن يتعرف طرق الدين لينجو من الضلال مع الناجين. اهـ.
وإذا عرف السامع من هذه الجملة ما ألقيناه، واستبطن مقصودها فليعلم أنا لم نتبع أهل البيت عليهم السلام  من أجل أنهم آباؤنا وأهلنا، وإنما اتبعنا الدليل الذي دلنا عليهم، وأرشدنا إليهم، وكيف لا يكونون عليهم السلام  كذلك وهم أهل بيت الرحمة وموضع العصمة، وقرار الرسالة، وإليهم كان مختلف الملائكة، وهم معدن العلم وغاية الحكم، من شجرة باسقة الفروع طيبة النبع، ثابتة الأصل دائمة الأكل، قد ساخت عروقها، فهي طيبة الثرى ، واهتزت غصونها فهي تنطف بالندي، وأورقت منضرة، ونورت مزهرة، وأثمرت موفرة، لا تنقص ثمارها الجناة، ولا يشرعها السقاة، فمن نزل بها، وآوى إليها ورد حياضا تفيض، ورعى رياضا لا تخيض، وشرب شرابا رويا هنيا مريا، عريضا فضيضا، فروى وارتوى من قرار روي بدلاء مبذولة غير ممنوعة، معروضة غير مقطوعة، فمن تبعهم نجا، ومن استمسك بهم فقد استمسك بالعروة الوثقى ولله القائل:
بآل محمــد عـرف الصــواب
وهم حجج الإله علـى البرايا
ولاسيــــــما أبو حسن علي
طعام حسامه مهج  الأعادي
وبين حسامــه والدرع صلح
إذا طلبت صــــوارمه نفوسا
وضــربته كـبيـعته بـخـــــم
هو النبأ العظيم وفلك نــوح
هو البــــكاء في المحراب ليل
ا
وفــي أبيــاتهم نـزل الكتـــاب
بهـم وبجـدهــم  لا يـستــراب
له في المجد مرتبــــــة تهــــاب
وفيض دم الرقاب لــه شــراب
وبين البيض والبيض اصطحاب
فليس لها سوى نعــم جـــواب
معاقدهــا مـن الــناس الرقـاب
وبــاب الله وانـقـطـع الخطاب
هــو الضحـاك إن آن الضراب

 
تروى لأعداء علي عليه السلام، والحق ما شهدت به الأعداء .
وفيهم عليهم السلام جميعا يقول أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه: "نحن أهل العلم، ومعدن التأويل والتنزيل، ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يقول: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأته من بابه)).
وقال عليه السلام في بعض خطبه التي ذكر فيها آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم: "هم عيش العلم وموت الجهل يخبركم حكمهم عن علمهم وصمتهم عن حكم منطقهم، لا يخالفون الحق، ولا يختلفون فيه، هم دعائم الإسلام، وولائج الاعتصام، بهم عاد الحق في نصابه.." الخ كلامه عليه السلام.
وقال ابنه الحسن عليه السلام: ومن البلاء على هذه الأمة أنا إذا دعوناهم لم يجيبونا، وإذا تركناهم لم يهتدوا إلا بنا، فمن الأمان به على بلاغ الحجة وتأويل الكتاب ؟. إلا أهل الكتاب وأبناء أئمة الهدى ، ومصابيح الدجى ، الذين احتج الله بهم على خلقه، ولم يدع الخلق سدى ، هل تعرفونهم أو تجدونهم إلا فرع الشجرة المباركة ؟. وبقايا الصفوة الذين طهرهم الله من الرجس وبرأهم من الآفات ؟.).
وروى الحاكم عن زيد بن علي عليهما السلام أنه قال: (الرد  إلينا والكتاب نحن الثقلان).
وقال القاسم بن إبراهيم عليهما السلام: وكلما ذكر الله في السور فله وجوه متصرفة يعرفها من عرفه الله إياها.. إلى قوله: فليسأل عنها وليطلب ما خفي عليه منها عند ورثة الكتاب، الذين جعلهم الله معدن ما خفي من الأسباب، فإنه يقول سبحانه: ((ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا))[فاطر: 32]. الآية.
وقول الإمام الناصر للحق الحسن بن علي عليهما السلام في شعره المحكي في المسفر والشافي:
لا تبتغوا غير آل المصطفـى علما
آل النبـي وعنهـم إرث علمهــم
وقولهم مسند عن قول جـدهــم

 
يهديكــم فهـم خير الـورى آل
القائمون بنصح الخلق لما يألــوا
عن جبرئيل عن الباري إذا قالوا

 
إلى قوله:
كل يرى الحق ما فيه قــد اختــلفوا
أعني الأولى فقههم إشراك صيـدهم

 
وهم بمفروض علم الحق جهال
وسائر الناس بالإهـــمال غفال

 
وقول الإمام المنصور بالله عبدا لله بن حمزة عليهم السلام  في شرح الرسالة الناصحة بالأدلة الواضحة وهو ما لفظه: أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم  بإتباع عترته المطهرة فخالفوه في ذلك، ولهم أتباع في كل وقت يقتفون آثارهم في خلاف العترة المطهرة، حذو النعل بالنعل، بل قد تعدوا على ذلك إن قالوا: هم أولى بالحق وإتباعهم أوجب من إتباع هداتهم، فردوا بذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (قدموهم ولاتقد موهم، وتعلموا منهم ولا تعلموهم، ولا تخالفوهم فتضلوا ولا تشتموهم فتكفروا). وهذا نص في موضع الخلاف لا يجهل معناه إلا من خذل.
وقال عليه السلام أيضا في وصيته لبعض أولاده يحثه على طلب العلم النافع، والحرص عليه إذ رب علم جهل: واعلم أيدك الله أن ذلك هو العلم النافع، من الأصول والفروع، فعليك بطلبه من علماء آبائك وأجدادك فإنهم السفينة من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى ، في قول وعمل واعتقاد، وهم  أمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء إلى منقطع التكليف كما ورد في الآثار النبوية الطاهرة، كظهور الشمس، ووجوب إتباعهم وسلوك آثارهم لا يجهلها إلا جاهل، ولا يضل عنها إلا مائل، قال جدك الهادي إلى الحق يحي بن الحسين صلوات الله عليه مفصلا لهذه الجملة في كلامه له عليه السلام في مثل هذا الباب: ثم اعلم مَن بعد كل علم ومَن قبله، وعند استعمالك لعقلك في فهمك أن الذين أمرنا باتباعهم من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وحضضنا على التعلم منهم هم الذين أخذوا بكتاب الله من آل رسول  الله صلى الله عليه وآله وسلم  واقتدوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  الذين اقتبسوا علمهم من علم آبائهم وأجدادهم جدا عن حد وأبا عن أب حتى انتهوا إلى مدينة العلم، وحض الحلم الصادق المصدق الطاهر المطهر عبدا لله المقدم محمد صلى الله عليه وآله وسلم  فمن كان علمه من آل رسول الله على ما ذكرنا منقولا إلى آبائه مقتبسا من أجداده لم يزغ عنهم ولم يقصد إلى غيرهم ولم يتعلم من سواهم فعلمه ثابت صحيح لا يدخله فساد ولا زيغ ولا يحول أبدا عن الهدى والرشاد ولا يدخله اختلاف، ولا تفارقه الصحة والائتلاف.
وقال أيضا في شرح الرسالة الناصحة: وورود الحوض لا يكون إلا لأتباع آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم  وهم أشياعهم، ولا يكون ذلك إلا بالاعتراف بفضلهم ومطابقتهم في قولهم واعتقادهم.
وفي نجاتهم يقول الإمام الحسن بن بدر الدين عليه السلام:
لم ينـج بالكهف سوى عصبة
ولا  نجـا في قوم نوح ســوى
ألم يـكن في المغــــرقين ابنــه
وهـل نجــــا بالسلم إلا الألى
أو أدرك الغفــران من لم يلج
أعيـــــذكم بالله أن تجمحوا

 
فــرت عن الـــــدار وأربابها
سفيـنــــة الله وأصحــابـــها
إذ غـاب عن حــوزة ركابها
رقـوا إلى السلـــم بأســـبابها
بـالأمس في الحــطة من بابها
عن عترة الحـــق وأحزابـــها

 
وقول إمامنا المنصور بالله القاسم بن محمد رحمة الله عليه ورضوانه:
يـــــاذا المــــريد لـنفسه تـثبيتا
أسلك طريقة آل أحمد واسألن
لا تعدلن بآل أحمــد غـــيرهم
الله أوجب ودهم فــــي وحيه
وأئمة الأخبار تروي فـــضلهم
ما إن تلم بمسند أو مرســــــل
فيها نعوت نجاتهم فدع الـذي

 
ولدينـه عنـــد  الإلـــه ثبوتــا
سفن النجـا أن يسألوا ياقــوتا
وهـل الحصاة تشاكل الياقـوتا
والرجس أذهب عنهم إن شيتا
فابحث تجــده مجملا وشتيتــــا
إلا وجدت لــــم هنـاك نعوتا
لم يلق يوما بالنــــــجا منعوتا

 
قال الإمام  الناصر للحق الحسن بن علي الأطروش عليه السلام في كتاب البساط ما لفظه: فلو لم يفسر القرآن أهل النقص والجهل به على مبلغ عقولهم ولم يحملوا تأويله على لكنتهم وردوا علمه إلى تراجمته من أهل بيت نبيئهم عليهم السلام  كما أمرهم الله بقوله: ((وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)). إلى قوله: ((لَاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا)) [النساء: 83]. لسلموا من الضلال وسلم من اتبعهم من المستضعفين الجهال، ولم ينسبوا إلى الله الجور والمحال، ولم يجعلوا له ما كره وذم من سيئ الأفعال.
فأخبر الله سبحانه في هذه الآية ونحوها أن له مترجمين وبغامضه عالمين، ولحكمه مصيبين.
قال الإمام المنصور بالله عبدا لله بن حمزة عليهم السلام: وإنما أهلك الناس أرشدنا الله وإياكم نواجم نجمت في الإسلام لم ترضع بثدي الهدى ، ولا اغتذت الحكمة، ولا سألت ورثة العلم عن علمها وأرباب الكتاب عن كتابهم، وعملت برأي السفهاء تمردا على  الله ولن تعجزه، وعداوة للحق ولن تنقصه، ولم يهمل الله دينه وقد أيده بحفظته، وحرسه بحماته من عترة نبيه صلوات الله عليه وعليهم  الذين هم تراجمة الكتاب، وأعرف الناس بالهدى والصواب، لم يضل من تبعهم ولا يعمى من استضاء بنورهم، فمن طلب الحكمة فيهم وفق للصواب، ومن رامها من غيرهم خسر وخاب، وكان سعيه في تباب، وهذا واضح لمن لم يعم الجهل عين بصيرته، ولم تصرفه عن هداته زخارف الأقوال، فيبقى عَمِهاً في حيرته. اهـ.
فهذا كما ترى كلام الهدى كأنه خارج من مشكاة واحدة، قد طابق تلك الأدلة من الكتاب والسنة ((فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ))[يونس: 32].
وفي الرافضين لعلوم آل محمد عليهم السلام  يقول بعض العلماء من الشيعة الأبرار العظماء: فرفضوا ما أمرهم الله به وخالفوا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم  فيما جاءهم به فتركوا من أمرهم الله عز وجل بالمسألة في كتابه حيث يقول: ((فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ))[النحل: 43]. وهو القرآن لقوله سبحانه: ((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ))[الحجر: 9]. وأهل الذكر فهم أهل بيت محمد عليهم السلام الذين أورثهم الكتاب حيث يقول: ((ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا))[فاطر: 32]. فهم ورثة الكتاب وأهله، وكذلك قال فيهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (عليكم بأهل بيتي فإنهم لن يخرجوكم من باب هدى ، ولن يدخلوكم في باب ضلالة). وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (أهل بيتي فيكم كباب حطة فادخلوها). ... فرفض أكثر هذه الأمة أهل بيت نبيها وخالفوهم في أقاويلهم وتفاسيرهم، وضادوهم في العلم الذي أنزله الله على نبيئه حسدا لهم وتعديا عليهم وقصدوا من خالفهم. اهـ.
فلما كانت طريقة أهل البيت عليهم السلام هي طريقة النجاة لمن طلبها، وسبيلهم سبيل السلامة لمن أرادها، وكان السلوك لسبيلهم والاقتفاء لآثارهم قولا وعملا واعتقادا لا يتم إلا بمعرفة علومهم في الدين وتوحيد رب العالمين، ولاسيما علومهم عليهم السلام  في تفسير كتابه فإنه ورثته وتراجمته، وخزنة علمه، بأيديهم مفاتيح أبوابه، وكان غرضنا هو الدعاء إلى الدين وتعريف الجاهل بواجب الحق المبين، والكشف للمسترشد الطالب لما يزيده بصيرة وبيانا في دينه.
أحببت أن أجمع من تفسيرهم عليهم السلام ما أمكن جمعه، وإن عزب عني منه الكثير وأضفته إلى ما قد وضعه نجم آل الرسول الإمام الكبير ذو العلم الشهير، القاسم بن إبراهيم عليهما السلام فإنه رحمة الله عليه فسر بعض المفصل، وبدأ في تصنيفه بوضع لم يعهد في وضع كثير من المفسرين، فإن عادتهم الابتداء بأم الكتاب ثم بسورة البقرة، إلى آخر القرآن الكريم، وهو عليه السلام بدأ بأم الكتاب ثم بسورة الناس ثم بسورة الفلق، ثم بسورة الإخلاص، إلى أن انتهى إلى آخر سورة والشمس وضحاها، وعاقه عن التمام شواغل الأمراض والأسقام، منعته إلى أن نزل به الحمام.
وكذلك ابنه علامة العترة وقاموس الأسرة، محمد بن القاسم عليهما السلام احتذا ذلك النسق وسلك ذلك المنهج ففسر من حيث انتهى إليه تفسير أبيه، وذلك من  أول سورة لا أقسم بهذا البلد إلى آخر سورة النازعات.
ثم قفا أثرهما وسلك في ذلك التفسير سبيلهما ونسج  على منوالهما  الإمام الأعظم الهادي إلى الحق الأقوم يحي بن الحسين عليهما السلام فإنه فسر من (عم) إلى سورة (المنافقين) وهو لعمري ترتيب عجيب وأسلوب غريب إذ بدأ بالسور القصار، ولم يبدأ بالطوال والمابين تسهيلا على الطالبين، وتيسيرا على المسترشدين لأن أحسن الطرق في التعليم والتفهيم الأخذ من الأقرب فالأقرب مترقيا إلى  الأصعب فالأصعب، وهذا هو الوجه الذي جرى عليه أسلوب من بدأ يتعلم كتاب الله عز وجل يبدأ بذلك لهذا الوجه فجزاهم الله عن المسلمين خيرا كثيرا.
وقد رأيت أن أحذوا حذوهم، وأتبع آثارهم، وأقتدي بوضعهم، وأستضيء بنورهم، وأسري هذا المسرى الذي توخيت بدلالتهم، رجاء أن أفي ببعض حقهم  وأنتظم في سلك من حفظ علومهم لأفوز إن شاء الله في يوم القيامة ببركة محبتهم.
اللهم بحقك وبحق نبيئك، وأهل بيته المطهرين صلواتك وسلامك عليهم أجمعين أن تجعلني لهم من المتبعين، ولحذوهم من الممتثلين، ولطريقهم من السالكين، ولسنتهم من المقتدين، ولحقك وحقهم من العارفين، والحمد لله إذ جعلتهم لي إلى كل شرف ورفعة وخير هاديا وسببا، وجعلتني بهم إليك متوسلا متقربا أدعوك حامدا لك راغبا وراهبا، وأفزع إليك في كل ما كان بغية لي ومطلبا حتى تحشرني بعد فناء الأجسام والأعراض والأجساد، وتحشرني إذا حشرت خلقك يوم التناد، وقيام الأشهاد كل حزب مع حزبه، وكل محب مع محبه، وكل قرين مع قرينه، وكل معين مع معينه في زمرة جدنا وأسرته، ونجباء ذريته صلى الله عليه وعليهم وسلم صلاة يرفعهم بها أعلى الدرجات في جنته.
فقدمت أول ما وضعوه من تفسيرهم مرتبا من السور والآيات، ثم بعد ذلك أرتب عليه إن شاء الله ما ظفرت به من تفسيرهم وتفسير أسباطهم مفرقا من الآيات والسور المتباينات فإنهم عليهم السلام  قد استخرجوا من علم القرآن ما لم يستخرجه غيرهم علوما غزيرة، وجواهر منيرة، ونفائس خطيرة، وقد ذكرت مع ذلك من تفسير غيرهم فوائد كثيرة، وليعرف المطلع على ذلك تفاوت مرتبتهم  ومرتبة غيرهم، وبلوغ قولهم منزلة تسلب الألباب حلاوتها، وتدهش العقول سلاستها، فكانت علومهم لكلوم الشكوك مرهما ممن يرى إيثار رضى ربه مغنما لا مغرما، فما أشفى كلامات الأئمة ‍‍‍‍ الهادين، وأوقعها في قلوب المتقين وما أكثر فوائدها لمن تدبرها من المؤمنين العارفين، ثم هم مع ذلك يغرفون من عين واحدة  وعلى أكاليمهم طلاوة غير الطلاوات، ولها حلاوة مخالفة لسائر الحلاوات، ولا غرو أن كانت كذلك إذ على قولهم مسحة من العلم الإلهي، وعبقة من الكلام النبوي، إذ هم حجج  الله على براياه، وهداياه السنية وعطاياه، من استمسك بهم هدي إلى دار السلام، وثبت في بحبوحة  الإسلام، فعليك رحمك الله بتفسير العترة المطهرة ينحل منها بكل جوهرة منورة، ويحييك الله حياة طيبة، وينيلك منحا صيبة كما قال بعضهم في الحظ على الاعتماد على تفسيرهم دون غيرهم في كلام معناه: وعليك بتفسير عترة رسول الله، وخزنة علمه، وتراجمة كتابه الذين قاتلوا على تأويله كما قاتل آباؤهم على تنزيله، فإنه تفسير عجيب أمره  لطيف ظاهر نوره، مشتمل من علم أئمة العترة على بحور تثلج أمواهها الصدور وتطلع متأملها على حقائق مذاهب العترة وما اختاروه لأنفسهم وأبنائهم وشيعتهم الصدور، ورأيتهم عليهم السلام ينكرون كثيرا من تفسير غير الأئمة الأطهار، وشيعتهم الأبرار، ولا يرون ما اختاروه صوابا، وهو عند أئمتهم غير مختار.
ومن ذلك قول زيد بن علي عليهما السلام فإنه قال في كتاب الصفوة ما لفظه: وقد رأيت ما وقع الناس فيه من الاختلاف تبرءوا وتأولوا القرآن برأيهم على أهوائهم اعتنقت كل فرقة منهم هوى، ثم تولوا عليه، وتأولوا القرآن على رأيهم ذلك بخلاف ما تأوله عليه غيرهم ثم بريء بعضهم من بعض، وكلهم يزعم فيما تزين له أنه على هدى في رأيه وتأوله، وأن من خالفه على ضلالة أو كفر أو شرك لابد لك هوى منهم أن يقول بعض ذلك، وكل أهل هوى من هذه القبلة يزعمون أنهم أولى الناس بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم  ، وأعلمهم بالكتاب الذي جاء به، وأنهم أحق الناس بكل آية ذكر الله فيها صفوة أو حبوة أو هدى لأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم  ، وكلٌّ يزعم أنه إن خالفهم أهل بيت نبيئهم في رأيهم وتأولهم برؤا منه، وأن أهل بيت نبيئهم صلوات الله عليه وعليهم لن يهتدوا إلا بمتابعتهم إياهم إلى آخر كلامه عليه السلام في هذا المعنى .
ومن ذلك قول الإمام القاسم بن إبراهيم عليهما السلام في الاغترار بعلماء العامة  وتركهم لطلب العلم من أهله ما لفظه: فلما عموا عن حكمة الله في ذلك ورسله  وما حكم به سبحانه من أ حكام عدله. إلى قوله: ولم يلقوا فيما اشتبه منه من جعلهم الله معدنه فيكشفوا لهم الأغطية عن حكم نوره، ويظهروا لهم الأخفية عن مشتبه أموره الذين جعلهم الله الأمناء عليها، ومن عليهم بأن جعلهم الأئمة فيها، ولما لم يجدوا عند علماء هذه العامة فيما اشتبه عليهم منه شفاء ولم يرجو منه في مسأله لو كانت لهم عنه اكتفاء ازدادوا بذلك إلى حيرتهم فيه حيرة، ولم تزدهم أقوال العلماء فيه بصيرة.
ومن ذلك قول الإمام أبو الفتح الديلمي عليه السلام في البرهان: وقد عمل الناس في التفاسير الأعمال وبلغوا إلى كل غاية ومثال غير أن من فسر بعضه أو كله فسره على رأيه ومذهبه.
ومن ذلك قول جبريل أهل الأرض المرتضى لدين الله محمد بن يحي عليهما السلام فإنه قال: قد قرأنا من تفسير العامة كثيرا فرأيناهم يكثرون الزلل والخطأ، ويقلبون المعاني عن الحق والهدى ، والتفسير فإنما هو لأهله بالتوفيق من الله لهم والمعرفة منه سبحانه فتأولوا ذلك بفضل الله وهدايته وتسديده لأوليائه.
وكثيرا من نحو هذا ذكره الهادي إلى الحق عليه السلام من تفسيرهم وقولهم، وزهدهم في مذهب أهل البيت، ومودتهم والاشتغال بعلومهم ومعرفة أقوالهم، ولذلك قال بعض علماء أهل البيت عليهم السلام  متعجبا ومذكرا: فلا تجد لأئمة آل محمد في كتبهم وتفاسيرهم ذكرا، ولا تسمع لهم في مصنفاتهم خبرا ولا خُبْرا، وتراهم يذكرون مذاهب جميع من على وجه الأرض من سعيد وشقي، وعدو وولي، ويتركون ذكر ذرية النبي. ومصطفى الواحد العلي كيف وقد شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  بملازمة الكتاب إلى يوم الحساب، وأخبر أن فيهم العلم والصواب وأنزل فيهم قوله عز وجل: ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا))[الأحزاب: 33]. والمطهر من الرجس لا يكون في ذريته زلل، ولا في قوله ميل، ولا في تأويله للقرآن خطل، فلم يكن عز وجل ليطهر من يكذب عليه فيكون من عانده أولى بالحق منه، وهو عز وجل أعلم بالمفسد من المصلح ولو علم الله في هذه الأمة أنهم يقومون مقام أهل بيت نبيه لجعلهم مترجمين لكتابه ولكن ((اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ))[الأنعام: 124]. ((وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ))[الصف: 8].
قال بعض الشيعة الأخيار: واعلم أنها لما رفضت أهل بيت نبيها وعدلت عن طريق أئمتها وهداتها، وجمحت عن طاعتها وسعت في خذلانها وتكثير سواد عدوها عليها اضمحلت الأنباء وعمت الأشياء ، وعشت الظلماء ، وانقمع الضياء ، وهلك الأخيار، وظهر الأشرار، و الله المستعان فإن مذهب أهل البيت عليهم السلام أسس على المحن وولد أهله في طالع الهزاهز  والفتن، والأيام عليهم متحاملة والدنيا عنهم مائلة.
وحكي عن أصحاب أبى حنيفة أنهم كانوا إذا تكلموا في المسألة عند أبي حنيفة وأرادوا ذكر علي عليه السلام قالوا: قال الشيخ، ولم يفصحوا باسمه خوفا من السلطان، وكان إذا سمى أحد ولده عليا قتلوه، فكيف يظهر علم أهل البيت عليهم السلام  مع طول المدة من دولة بني أمية إلى آخر دولة بني العباس والى يومنا هذا، فإنهم على هذه الأحوال مع أنه بحمد الله لإقامة حجج لم يطف لعلومهم مصباح، ولم يخف لهم صباح، علومهم في كل وقت ضاحكة  الرياض عذبة الحياض، أنيقة الأزهار طيبة  الأثمار.
وفي هذا المعنى يقول الإمام المنصور بالله عبدا لله بن حمزة عليه السلام: وإنما أتيت هذه الأمة من الاكتفاء بنفوسها، وعدولها عن عترة نبيها صلى الله عليه وآله وسلم  فخبطوا العشواء وتفرقوا لتفرق الأهواء ، فصاروا كالأعمى ينقاد للأعمى ، لا يدرى أيهما أهدى ، فتاهوا في أودية  الضلال، وباعوا الماء بالآل، وقد قال تعالى: ((وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ))[النساء: 83]. وأولوا الأمر هم آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم  ، وهم بحار العلم وجبال الحلم، وسفينة النجاة وماء الحياة، وعصمة اللاجئين، ونور الحكم ومنهاج الرحمة، وسبيل الهدى ، وعروة  الله الوثقى ، وحبل الله المتين، وصراطه المستبين، وورثة النبيين، وأهل التأويل والتنزيل. إلى قوله عليه السلام: فيجب على الناس جميعا إتباعهم، وعليهم إتباع سلفهم إلى قوله عليه السلام: (فعليك باقتفاء آثارهم، واحتذاء أمثالهم، وترك التفريق بينهم لا يفرق بين أحد منهم لأن المفرق بين الأئمة الهادين كالمفرق بين النبيين. اهـ.
واعلم أنه قد اعتل أولئك المتنكبون عن سبيلهم بآيات من الكتاب متشابهات حرفوها بالتأويل، ونقضوا بها التنزيل، كما فعل من كان قبلهم حرفوا كلام الله عن مواضعه، وبأحاديث أفتعلها الضلال من بغاة الإسلام من المنافقين ووضع الفاسقين، ووهم الواهمين ثم حشو الملاحدة وأهل البدع والأهواء من المارقين الخوارج وعتاة النواصب وغلاة الروافض وطغام المجبرة والمشبهة وهمج القصاص والوعاظ والحشوية وأغتام الظاهرية والكرامية والخطابية وغيرهم مما لا أحصى كثرة من المسترسلين في وضع الأخبار من عوام المتفقهين ونساك المتعبدين والمتصوفين الذاهبين إلى قبول المجهولين، قال شعبة: لم يفتش أحد عن الحديث تفتيشي فوجدت ثلثي ما وجدت منه كذبا حتى قال ابن معين: كذبنا عن الكذابين.
وفي مقدمة جامع الأصول ما لفظه: قال شيخ من شيوخ الخوارج بعد أن تاب: إن هذا الحديث دين فانظروا عمن تأخذون دينكم، فإنا كنا إذا هوينا أمرا صيرناه حديثا.
إذا عرفت هذا فكيف يجوز الاعتماد في تفسير كتاب الله العزيز على نحو هذه الأخبار والإعراض عما رواه أئمة أهل البيت الأطهار صلوات الله عليهم فالله المستعان.
وبأحاديث لم يعرفوا حسن تأويلها، ولم يعنوا بتصحيحها فضلوا وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل، والله سبحانه قد حرم الاحتجاج بالشبه المضلة لأنه صد عن سبيل الله، وأشد الناس ضلالا من كان ضالا وكان يعتقد في نفسه أنه محق، ثم إنه لم يقتصر على ذلك بل بذل كل جهده في إلقاء غيره في مثل ذلك الضلال، بإلقاء تلك الشبهات في القلوب معارضاَ بلمع السراب ماء الشراب فهذا الإنسان لاشك قد بلغ في الضلال إلى أقصى الغايات وأعظم النهايات.
كما قال بعض علماء أهل البيت عليهم السلام في هذا المعنى:
فضلوا وأغووا من أضلوا بعلمهم
ولكنه من لم يحـط أصـــــل دينه
ومن لم يكن آل النـبي هـــــداته

 
وإن كان ما قـــالوه ليس بالـغامض
عن الرفض لم يشـعر بلبس المعارض
إلى الحــق ألقــى نفسه في المداحض

 
ولما كان لهؤلاء في كل عصر ورثة يتبعونهم حذو النعل بالنعل مع ادعائهم لمحبة أهل البيت عليهم السلام وروايتهم ما ورد فيهم على الخصوص من قواطع تلك الأدلة، وصرائح النصوص.
قال بعض صفوة الشيعة الأبرار وحتف النواصب الفجار: ( إني لأكثر التعجب وما عشت أراك الدهر عجبا من رجل عالم بمصادر الأمور ومواردها، وكيفية الاستدلال ومقاصدها، ودلالات الألفاظ على معانيها، وتراهم وهم كثير - وما ذاك إلا لإرادة الله عز وجل إظهار الحق على ألسنتهم وأيديهم حجة عليهم وإن راموا إنكارها - يوردون ويروون عن الله عز وجل وعن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم  تلك الأدلة والنصوص والقواطع في حق آل محمد عليهم السلام على الخصوص بما لا يمكن دفعه لفظا ولا معنى ولا سندا ولامتنا، حتى إذا استنتجت منهم فائدتها وطلبت منهم عائدتها، بوجوب إتباعهم الذي هو مقتضاه في علم أو عمل أنكر وبرطم، ولوى عنقه وتجهم، إن ذكرت عنده خلافتهم رآها نكرا، أو رأى من يتابعهم في مقالة أو مذهب عده مبتدعا، أو سمع بقراءة في كتبهم ومؤلفاتهم إتخذها هزؤا ولعبا، فما أدري ما أبقى لهم من معاني تلك الأدلة والنصوص، وأي فضل ترك لهم على الناس إذا أوجب عليهم أن يكونوا تبعا والله قد جعلهم متبوعين ومؤخرين، و الله قد جعلهم مقدمين، ثم نظم هذا المعنى فقال:
عجبــت لمن يدين بحب قــوم
ويتـلو فيـهم آيــــات  ربـــي
ويروي فيــهم سنـــنا أنـارت
إذا ما أُسنِـــدَت فإلى رجــال
تناقلها أئمة ذا وهـــــــــــذا
وإن عرضت على ميزان معنى
أقر بها العدو كما أقر الـــــ
فلما استُنتِجَت منهم بمــا  لا
إذا ذكرت خلافتهم أباهــــا
وإن ذكـرت روايتهم رآهـــا
وإن ســمع القراءة في كتاب
ونقص أئــمة الحق الأولى في
ودعوى الـحق والتحقيق ممن
يعظم كتب أهل الجبر حتى
ويزعم أنهم بلـــغوا مقــامــا
وأن المرجئـين ومن تلاهــــم
أحق بالإتباع فليت شعـــري

 
لهــم فــرض الـودة والولاية
وهل من بعـــد آي الله آيـة
معالمهــا لكل أخــــي هداية
علت بهم أســانيد الروايـــة
أما فيهم لذي عقــــل كفاية
شهدن لها موازيــــن الدراية
ـولي بها وبالـــــغ في العناية
يراد سواه حــــــكم فيه رأيه
وأظهر ميــــله عـــــنها ونأيه
ضلالا فهو يركض في العماية
لهم أبـــدى التوجع والشكاية
اتباعـــــهم السلامة و الوقاية
يدين بــما  استبان من الغواية
يعــدهــم لذي الطلب النهاية
من الإتـــقان لـيس وراه غاية
من أرباب النـــميمة والسعاية
أذاك في ألانتها أم في البداية

 
انتهى.                 
ولما كان حالهم عليهم السلام  والأمر فيهم وفي كتاب الله - والله المستعان - كذلك رأيت أن أبذل وأفرغ وسعي في التقرب إلى الله عز وجل بنقل ما ظفرت به من علوم أئمتنا عليهم السلام في التفسير مستعينا بالله اللطيف الخبير حفظا لعلومهم وتبركا بكلامهم، وصلة مني لهم عليهم السلام  لينجيني الله بعفوه من النار بنجاتهم، ويحشرني إن شاء الله في زمرتهم، ويجعلني برحمته وكرمه من وفدهم إلى دار السلام، وأرجو بذلك إن شاء الله أن يمتاز الصحيح من السقيم، والأعوج من المستقيم، ليهتدي بذلك من أراد الرشاد، ولتثبت به الحجة على من سلك طريق العناد ((لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ))[الأنفال: 42].
مع أن النصيحة كما قال بعض خلص الشيعة:كانت من أركان الإسلام، ومن أسباب الدين بقول خاتم النبيين عليه صلوات رب العالمين، بل النصيحة في الدين، والدعاء إلى الحق المبين من سنن جميع المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين  فنوح صلى الله عليه قال: ((أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ))[الأعراف: 62]. وهود عليه السلام قال: ((وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ))[الأعراف: 68]. وصالح عليه السلام: ((وَنَصَحْتُ لَكُمْ))[الأعراف: 79]. والرجل المؤمن قال لموسى عليه السلام: ((فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ))[القصص: 20].
                ولو لم يكن في ذلك إلا ما رواه الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام بالإسناد المعتمد عليه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما أهدى المسلم لأخيه المسلم هدية أفضل من كلمة حكمة يسمعها فانطوى عليها ثم علمه إياها يزيده الله بها هدى أو يرده عن ردى ، وإنها لتعدل إحياء نفس، ومن أحياها فكأنما أحي الناس جميعا). لكفى بذلك باعثا لأهل العلم على بذل النصيحة وإرشاد العباد إلى المذاهب الصحيحة إذ كان ذلك سببا للفوز في المحشر، ووسيلة إلى النجاة يوم الفزع الأكبر مع اعتقادي بتقصيري عن رتبة المصنفين، ومحل الأئمة المؤلفين، فاستعصم الله بعصمته التي لا تهتك، وأسترشده السبيل الذي ينجو به من هلك، وأستوهبه التوفيق لهدايته، والحظ الوافر من طاعته، وأرغب إليه في الهام حكمته واجتناب معصيته، وهو حسبي فنعم الهادي إلى صراط مستقيم من ملته، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله الذين جعل رسول الله المتمسك بهم كالراكب مع نوح في سفينته، والعادل عن منهاجهم كمن غرف من أمة نوح بمخالفة دعوته.
في ذكر شئ من فضائل القرآن وإعجازه وأقسامه
قال الإمام الصوام القوام أحمد بن سليمان عليه السلام: (اعلم أن الله تعالى جعل كتابه حجة على العباد وداعيا إلى الحق والرشاد وزاجرا عن الغي والفساد ومرغبا في الجنة، ومخوفا من النار، وجعله مؤكدا لحجة  العقول، وشاهدا بصدق الرسول، وحاكما بين الناس ومبينا للالتباس، وجعل فيه جميع ما يحتاج إليه من علم الأصول والفروع، ومعرفة الحلال والحرام، ومعرفة القضاء والأحكام والمواريث، وعلم الشرع، وقصص الأولين، ونبأ ما يكون في يوم الدين، وجعله نورا للمؤمنين ومبينا للمهتدين، وجعله بالغا موجزا، وقريب المتناول معجزا، وقد سماه الله هدى وموعظة وذكرى وعزيزا ومباركا، ونورا قد مثله الله بالمصابيح  وبالنجوم، حيث يقول عزمن قائل: ((فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ))[الواقعة: 80،79،78،77،76،75].
وفي فضائله ما يقول رب العالمين: ((وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ))[الإسراء: 82]. وقوله تعالى: ((يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ))[يونس: 58،57]. وقوله تعالى: ((وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ))[الشعراء: 195،194،193،192]. وكفى شرفا أن يكون نزل من عند رب العالمين نزل به الروح الأمين إلى محمد خاتم المرسلين صلوات الله عليه وعلى أهل بيته الطيبين، وبأنه كلام الله جعله وأحدثه كما قال تعالى: ((مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ))[الأنبياء: 2].
قلت: وإنما يكون هدى ونورا وموعظة وشفاء لأن الله عز وجل جعلهم له ورثة ولما مر من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فمن ابتغى الهدى في غيره أو سأل عنه غير أهله أضله الله). والله عز وجل يقول فيه: ((هُدًى لِلْمُتَّقِينَ))[البقرة: 2]. أي زيادة هدى ، لأنهم المنتفعون به، ويقول سبحانه: ((قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى))[فصلت: 44]. ويقول تعالى: ((كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ))[ص: 29]. وقال تعالى: ((إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ))[يوسف: 2]. ((فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ))[الدخان: 58]. ((وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ))[النحل: 44]. ((وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ))[القمر: 17]. وأكد ذلك بتكريره في السورة إلى أشباه ذلك مما يدل على أن تعلقه ومعرفة المراد به مراد لله تعالى ، ولما يأتي إن شاء الله من كلام أمير المؤمنين عليه السلام.
وفي ذلك يقول نجم آل الرسول الإمام القاسم بن إبراهيم عليهما السلام: (إن القلوب كالأبنية المصدوعة فيما ينازع إليه من غرائزها المطبوعة، فرمُّوها بالعلم بكتاب الله، والوقوف على محكم تأويله، ففي هذا لها تقويم وتعديل وهداية ونور، ودليل على منهاج خالص الطريق المستأثر بها في حب الله وطاعته، وما أوجب الله على العباد من أثرته وعبادته، فبكتاب الله تنجلي عن القلوب ظلم الحيرة، وبلطيف النظر فيه تدرك حقائق العلم والبصيرة، وقد زعم بعض أهل الحيرة والنقص، ومن لا يعرف النجاة والتخلص: إن الألطاف في النظر تدعو صاحبه إلى الخيلاء والبطر، وإنما يكون ذلك كذلك عند من يريده للترؤس لا لما فيه، ولما جعله الله عليه من حياة الأنفس، فاتقوا مثل هذا عن ضمائركم وسددوا ثلمة عيبه عن سرائركم.
فعلم القرآن على هذه الطريقة هو العلم النافع الذي يقول الله عز وجل فيه ((يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا))[البقرة: 269].
قال الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة عليهم السلام: والحكمة العلم النافع وهو علم القرآن وتفسير معانيه وتفصيل مجمله والمعرفة بأحكام أوامره ونواهيه ومحكمه ومتشابهه، وخاصه وعامه ومجمله ومبينه، وناسخه ومنسوخه، والاعتبار بغيره والفهم لأمثاله العجيبة وقصصه الغريبة، فهذا عندنا رأس الحكمة ومفتاح الرحمة.
ومن شرفه: أن الله فضل الليلة التي أنزل فيها وهي ليلة القدر على ألف شهر قال الله تعالى: ((إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْر * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ))[القدر: 3،2،1].
ومن شرفه أنه أكبر معجزات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن إعجازه أن الله تحدى الكفار أن يأتوا بسورة من مثله، فلم يكونوا على ذلك من القادرين مع فصاحتهم وبلاغتهم، فرجعوا إلى الحرب واستسهلوا من دونه الطعن والضرب.
وقد قال إمامنا المنصور بالله القاسم بن محمد رحمة الله عليه في آيات الأحكام ما لفظه:  قوله تعالى: ((فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ)). إلى قوله تعالى: ((فَاتَّقُوا النَّارَ))[البقرة 22،23]. الآية إلى آخرها تدل على أن السورة الواحدة معجزة وأن معارضتها بمثل لها مستحيل، ومن أنكر ذلك كفر، وأن فعل التقوى الجامعة للإيمان بالله والقيام بالواجبات المحرمات خشية من النار مجير ومنج من النار، وأن القائم بذلك كذلك قائم بما فرض الله عليه. اهـ.
وقد اجتهد كفار العرب وأهل الكتابين على أن يأتوا بسورة مثله ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا مع أنهم وجدوا فيه من البلاغة والكمال والفصاحة، وضرب الأمثال مابذا الفصحاء والشعراء، ووجد أهل الكتابين فيه من علم الأولين والآخرين ما استيقنوا به أنه من رب العالمين، فمنهم من صدقه وآمن به كما قال عزَّ من قائل: ((الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ *وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا))[القصص: 54،53،52]. الآية وقوله: ((يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ)).  يعني المرة الأولى بما علموا في التوراة وآمنوا وصدقوا، والمرة الأخرى إيمانهم بالقرآن ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم  وتصديقهم وعملهم فهؤلاء هم المفلحون، ومنهم من كفر به وأعرض عنه مع أنهم وجدوا فيه ما يوافق ما عندهم من العلم فألحدوا فيه، وقالوا: ((إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ))[النحل: 103]. وقد حكى الله ذلك عنهم فقال تعالى: ((وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا))[الفرقان: 5،4]. وقد رد الله عليهم قولهم واحتج عليهم بالحجة التي لم يجدوا لها مدفعا حيث يقول عز من قائل: ((وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ))[النحل: 103]. وكان من إعجازه تصديق القصص الذي في كتب الأنبياء المتقدمين وما فيها من ذكر ما يكون في يوم الدين.
ومن إعجازه قوله عز من قائل: ((قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا))[الإسراء: 88]. وفي هذا كفاية في الإعجاز مع ما فيه من حلاوة اللفظ، وعذوبة المنطق، وحسن المعاني كما قال بعض القائلين:
يزداد في طول التلاوة جِدَّةً

 
ومتى يعد  شئ سواه َيخلَقُ

 
وقد وردت في فضل تلاوته أخبار كثيرة من ذلك ما رواه الإمام محمد بن القاسم بن إبراهيم عليهما السلام في كتابه دعائم الإيمان قال عليه السلام: قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (الحاذق بتلاوة القرآن يُحل حلاله ويُحرم حرامه ويقف عند متشابهه ويستعمل كل حرف فيما أمر به، فذلك الماهر في القرآن وهو القائم بحدوده آناء الليل والنهار، والذي يقرؤه وهو عليه شاق له ثواب القرآن مرتين أي بكل حرف عشر حسنات أما إني لا أقول ألم حرف، ولكن أقول الألف حرف واللام حرف وميم حرف فذلك ثلاثون حسنة).
وكذلك فضل استماعه ولا يمتنع أن يكون الاستماع أفضل من القراءة عند أمور منها: أن يكون في الجماعة من هو أجود قراءة وأصح ضبطا فيكون استماعه أولى لأمرين:
أحدهما: ما يحصل من تعلم القراءة القوية فيكون جميعا بين العلم والعبادة. وثانيهما: الاحتراز من اللحن لو قرأ ضعيف القراءة لنفسه.
ومنها: أن يكون الاستماع أدعى إلى التدبر والتفهم والخشوع.
ومنها: أن يكون في قراءة كل من الحاضرين تخليط للقراءة وتشويش على المستمعين ونحو ذلك، فأما إذا عدم وجه ترجيح فقراءة كل منهم لنفسه أفضل.
وفي البخاري وغيره عن ابن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اقرأ علي سورة النساء). قال: قلت: أقرأ عليك وعليك أُنزل؟. قال: (إني أحب أن أسمعه من غيري). فقرأت عليه حتى انتهيت إلى قوله: ((فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا))[النساء: 41]. فرفعت رأسي فإذا عيناه تهملان. وفي رواية (تذرفان).
قال الإمام الناصر لدين الله أبو الفتح الديلمي عليه السلام في برهانه: روينا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: (نزل القرآن على سبعة أحرف  والمراء في القرآن كفر - ثلاث مرات - فما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه).
وأما تفسير قوله: (سبعة أحرف). فإنما هي أمر ونهي وترغيب وترهيب وجدل وقصص ومثل.
وأما إعجاز القرآن فقد اختلف فيه الناس على ثمانية أوجه:
أحدها: أن وجه إعجازه هو الإيجاز والبلاغة مثل قوله تعالى: ((وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ))[البقرة: 179]. فجمع في كلمتين عدد حروفهما عشرة أحرف معاني كلام كثير.
والثاني: أن وجه إعجازه هو البيان والفصاحة كالذي حكاه بعض أهل العلم: أن أعرابيا سمع رجلا يقرا: ((فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ))[الحجر: 94]. فسجد فقال: سجدت لفصاحة الكلام، وسمع أخر رجلا يقرأ: ((فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا))[يوسف: 80]. فقال: أشهد أن مخلوقا لا يقدر على مثل هذا الكلام.
وحدثنا بعض أهل العلم بإسناد له رفعه إلى عالم من علماء أهل اللغة: أنه رأى في تطوافه بالبادية جارية خماسية فصيحة فأعجبته فصاحتها وبراعتها، فقال لها: قاتلك الله ما أفصحك؟. فقالت له: أو تعد هذا فصاحة بعد قول الله سبحانه وتعالى: ((وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ))[القصص: 7]. فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين.
والثالث : أن وجه إعجازه هو الوصف الذي تقضي به العادة حتى صار خارجا عن جنس كلام العرب من النظم والنثر والخطب والشعر والرجز والهزج، ولا يدخل في شئ منها ولا يختلط بها مع كون ألفاظه حروف من جنس كلامهم مستعملة في نظمهم ونثرهم.
والرابع: أن قارئه لا يكل وسامعه لا يمل، ولا تزيده كثرة تلاوته إلا حلاوة في النفوس وميلا في القلوب، وغيره من الكلام وإن كان مستحلى النظم مستحسن النثر يُمَل إذا أُعيد، ويُسَتثقل إذا رُدِّد.
والخامس : أن إعجازه هو ما فيه من الأخبار مما علموه أو لم يعلموه فإذا سألوا عرفوا صحته وتحققوا صدقه كالذي حكاه من قصة أهل الكهف، وموسى والخضر وذي القرنين وقصص الأنبياء مع أممهم.
والسادس : أن وجه إعجازه هو ما فيه من علم الغيب والأخبار بما يكون فيوجد على صدقه وصحته مثل قوله تعالى: ((قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمْ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ))[البقرة: 94]. ثم قال: ((وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ))[البقرة: 95]. وقوله لقريش: ((فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا))[البقرة: 24]. فقطع بأنهم لا يفعلون.
والسابع: أن وجه إعجازه هو كونه جامعا لعلوم لم تعرفها العرب ولا يتعاطى عليها فيها الكلام ولا يحيط بها من علماء الأمم واحد، ولا اشتمل عليها كتاب قال عز من قائل: ((مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ))[الأنعام: 38ٍ]. وقال: ((تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ))[النحل: 89]. وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (فيه خبر ما قبلكم وخبر ما بعدكم هو الفصل ليس بالهزل من طلب الهدى في غيره ضل).
والثامن: الصرفة وهو أن الله صرف هممهم عن معارضته مع تحديهم بأن يأتوا بسورة من مثله فلم تخدعهم أنفة التحدي، وصبروا على نقيصة العجز فلم يعارضوه وهم فصحاء العرب مع توفر دواعيهم على إبطاله، وبذل نفوسهم في قتاله، فصار بذلك معجزا لخروجه عن العادة كخروج المعجزات.
روينا عن الحارث الأعور قال: مررت في المسجد فإذا الناس يخوضون في الحديث فدخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فقلت: يا أمير المؤمنين ألا ترى الناس قد خاضوا في الحديث؟. فقال: "أوقد فعلوها؟". قلت: نعم. قال: "أما أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  يقول: ألا إنها ستكون فتنة. فقلت: فما المخرج منها يا رسول الله ؟. قال: كتاب الله عز وجل فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله، هو حبل الله المتين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلبس به الألسنة، ولا تشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الترديد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إذا سمعته حتى قالوا: ((إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا(1)يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ))[الجن: 2،1]. من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم، خذها إليك يا أعور".
وروينا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: : (لتكثرن علي الكذابة فما حدثتم به فاعرضوه على كتاب الله عز وجل فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فذروه).
وقد روي في بعض وصايا السلف أنه قال: أتخذ كتاب الله إماما وارض به حكما وقاضيا هو الذي استخلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  مع الطاهرين من عترته شفيع مطاع وشاهد لا يتهم، فيه خبر ما قبلكم وخبر ما فيكم وذكر ما قبلكم وذكر ما معكم.
وروينا عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال وقد أهوى بيده نحو المشرق: "وهذه الفتن قد أضلت كأنها قطع الليل المظلم كلما مضى منها رَسَلٌ بدا رَسَلٌ، ويل للعرب من شر قد اقترب إلا من فزع إلى الله عز وجل وعترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فعمل بمحكم الكتاب وآمن بمتشابهه، يصبح الرجل مؤمنا فيها ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يموت فيها قلبه كما يموت فيها بدنه، يبيع أقوام دينهم بعرض من الدنيا قليل".
وروينا عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه قال: "ما أنزل الله في القرآن آية إلا أحب أن يعلم العباد منها ما يعني بها".
وعنه عليه السلام: "ما من شئ إلا وعلمه في القرآن لكن رأي الرجل يعجز عنه".
وروينا عن بعض الصالحين أنه قال: ثلاثة لأن أخر من السماء فتخطفني الطير أو تهوي بي الرياح في مكان سحيق أحب إلي من أن أكون أحدهم: قوم استحلوا أحاديث لها زينة وبهجة وسيبوا القرآن. وقوم أطاعوا المخلوق في معصية الخالق. والخوارج.
ونرجو أن يكون لأمة جدنا انتباه ورجوع إلى الحق واتباع لما أمروا باتباعه من أئمة الهدى الذين لا يدخلون أحدا في باب ردى ، ولا يبيعون الأحكام باليسير التافه من الحطام، بل هم تقاة أمناء ، عدول خلفاء ، ومصابيح لكل من اهتدى بهم، وأضوء، لم يتعلموا للنفاسة، ولم يدعوا الخلق إلى طاعة الله عز وجل للتكثر بهم والرياسة، دعوهم لينفعوهم وطلبوهم ليهدوهم، وأرادوهم ليفدوهم، فمن تعلق بهم نجا، ومن تخلف عنهم هوى ، ومن استخف بأمرهم تردى ، هم الذين درجوا من وكر الوحي والتنزيل، وخرجوا من صميم المعرفة والتأويل، وهم شهداء الله على خلقه، العدول الذي لا يدانيهم التغيير والتحويل  والحمد لله على ما خصنا به من الأكرومة، وأخرجنا من خير الأرومة، وأمدنا بتأييده حتى سلكنا طريق الصواب، وتجنبنا مواقف الشك والارتياب، وذكرنا لأمة جدنا من علم الكتاب على سبيل الاستقامة والصواب مالها به المخلص إن أرادته، وفيه الفوز إن أممته. اهـ كلام البرهان.
في ذكر وجوه اشتمل عليها القرآن الكريم
قال الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام: واعلم أن القرآن مبني على وجوه: فمنه المحكم، ومنه المتشابه، ومنه المجمل، ومنه المفسر، ومنه الظاهر، ومنه الغامض، ومنه الناسخ، ومنه المنسوخ، ومنه الجواب، ومنه مفهوم الخطاب، ومنه الحقيقة، ومنه المجاز، ومنه ما هو في مخرجه عام ومعناه خاص، ومنه الخاص، ومنه العام، ومنه مايو جب العلم، ومنه مايو جب العمل، ومنه القصص والأخبار والأمثال، ومنه الأمر والنهي، ومنه الوعظ والزجر والترهيب، ومنه الوعيد والوعد، وغير ذلك.
فأما المحكم فيحكيه قول الله عز وجل: ((هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الْأَلْبَابِ))[آل عمران: 7].
فالمحكم هو الجلي البين الذي يكون تأويله موافقا لتنزيله وهو الأكثر والمعمول عليه والأحسن، وهو أصل الكتاب والذي يرجع إليه، والمحكم مالا يحتمل إلا وجها واحدا، ويعرف المراد أتظاهره.
والعلة في المتشابه البلية والامتحان لأهل العقول السَنية، وهو مردود إلى المحكم، قال الله تعالى: ((هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ))[آل عمران: 7].الآية، فبين الله تعالى أن الكتاب منه المحكم ومنه المتشابه، وأخبر أن المحكم هو الأصل المعمول عليه، لأن أم الشيء أصله.
قال الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة عليهم السلام: لأن بجهل المحكم والمتشابه هلك كثير من الناس فادعي في المحكم أنه متشابه والمتشابه أنه محكم، وعرض تأويل ما يعارض مذهبهم من محكم الكتاب.
واعلم أيها المسترشد أن التأويل لا يسلم للمتأول جزافا فلا بد أن يطلب على صحة تأويله برهانا، فإن أقام الدلالة ونصب البرهان قَبِلَ قول الخصم طائعا أوكارها، فإن كابره مكابرة ظاهرة، كان عند المستحفظين خائنا، وعند الله مائنا، وكفى بنفسه عليه حسيبا، وبعقله على اختلاله رقيبا، وإن لم يقم دلالة ولانصب برهانا لم يعط مراده بقوله ولا ينفعه تأويله.
قال عليه السلام: فحقيقة المتشابه: كل لفظ إذا أطلق عليه سبق إلى فهم السامع معنيان، أو ثلاثة أو أكثر بعضها صحيح وبعضها فاسد، فيبقى متردد الفهم بين تلك المعاني، فيقع الاشتباه عليه حتى يميز بعضها من بعض بالبرهان العقلي والشرعي كالشاهدين العدلين يقعان لإحدى  الدعاوي فيستحق المدعي ويبطل كلام الآخرين، بعد كانوا قبل الشاهدين على سواء .
وأما المحكم فعلى وجهين أيضا  أحدهما: ما صح المراد في باب الحكمة، وأحكمت آياته ورصفت من الخلل، لأن الحكم في الأصل هو المنع، ومنه أخذت حكمة الدابة، لأن يمنعها من العدوان، فكذلك الحاكم، والحكمة تمنع صاحبها من التعدي والمحكم كالمانع، والممنوع عن الإضلال في وجه من الوجوه، أوفي كل وجه فعلى هذا الوجه يحمل القرآن كله على أنه محكم ؛ لأن ألفاظه صحيحة ورصفه بريء من الخلل والغلظ، وعليه يحمل قوله تعالى: ((الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ))[هود: 1]. فوصف القرآن كله على هذا المعنى بأنه محكم.
والوجه الثاني من معنى المحكم: أن كل لفظ إذا أطلق سبق إلى فهم السامع منه معنى أو معنيان يشهد بصحتهما دلالة العقل وصريح السمع يحكيه قول الله تعالى: ((مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ)). فلم يصف بالإحكام على الوجه الأخير إلا البعض لأنه تعالى قال: ((مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ)). أي أصله الذي يرجع إليه ((وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)). فنوعه نوعين، فلولا حملنا له على هذه المعاني الصحيحة لكان عز من قائل متناقضا، لأن الشيء الواحد لا يكون بصفتين متنافيتين في حالة واحدة، ولا يسوغ ذلك عقل سليم.
ثم قال عليه السلام: ولا يحسن أن يخاطبنا سبحانه بخطاب لا نفهم معناه، والدليل على ذلك أنه تعالى حكيم لا يفعل القبيح، أما أنه حكيم فلأنه عالم غني، ولا يقع القبيح والعبث إلا من الجاهل المحتاج، وقد صح علمه، بوجود الأفعال من قبله محكمة، وغناه باستحالة  الحاجة عليه، فإذا خاطبنا بخطاب لا يفهم كان كمخاطبتنا للعرب بالزنجية ولا ترجمان، فإن ذلك يكون عبثا لأنه لا يخلو إما أن يريد معرفة ما نكلمه به أولا نريد، فإن لم نرد كان الخطاب عبثا، وإن أردنا كان الخطاب قبيحا، لأنا نكلفه علم مالا سبيل له إلى علمه، وتكليف مالا يفهم معناه قبيح، يعلم بقبحه كل عاقل، فإذا تقررت هذه الجملة ثبت أنه لا يجوز أن يكون في كتاب الله سبحانه ما لا يفهم معناه، فإذا كلفنا معرفة معناه فلا بد من طريق إلى ذلك وإلا قبح.
قال عليه السلام: والطريق إلى معرفة معناه العقل والنقل واللغة، فاللغة  العربية لساننا وميداننا، والنقل: هو ما جاءنا عن نبيئنا صلى الله عليه وآله وسلم  ، وعن سلفنا الصالح من ذريته سلام الله عليهم، والعقل هو الذي يلزم به التكليف من قبله تعالى ، وتقوم به الحجة على العبد، فهذا شرح المحكم والمتشابه.
ثم ذم سبحانه من يتبع المتشابه فقال عز وجل: ((فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ)). يريد بالفتنة المجادلة للحق وأهله، زيغ: أي ميل عن الحق وأهله لغرض من الأغراض كما قال الشاعر:
ترى السفيه له في كل محكمة

 
زيغ وفيه إلى التشبيه إصغاء

 
         والاستدلال بالمتشابه كقوله تعالى: ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ))[القيامة: 23،22].
قال الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام: قول الله تعالى: ((لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ))[النساء: 43]. وقوله: ((تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا))[النحل: 67]. وقوله: ((يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا))[البقرة: 219]. ثم بين الله تعالى تحريم الخمر والميسر بآية محكمة، فقال عزَّ من قائل: ((يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ))[المائدة: 90]. فبين الله تعالى بهذه الآية تحريم الخمر والميسر، وقد قال غيرنا: الآيات الأولة توجب الترخيص، وقد نسخ الترخيص بهذه الآية وهي ناسخة، وعندنا أنه لم يكن في الخمر والميسر ترخيص ؛ لأن الله تعالى لم يكن لينعم على عباده بالعقول ويجعلها أكبر حجة عليهم ثم يحل لهم شئ يفسد عليهم عقولهم، ويحمل قول الله تعالى: ((لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى)). الآية على سكر النوم، إلى آخر كلامه عليه السلام في الحقائق، فما ورد من المتشابه فالواجب رده إلى المحكم كما أمر الله تعالى بذلك.
فقال: وأجد الله يقول : ((يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا))[النبأ:38] ويقول عن مقالتهم: ((وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ )) [الأنعام:23]أفصواب ذلك ؟ ويقول: ((يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا)) [العنكبوت:25]ويقول: ((إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ)) [ص:64] ويقول: ((لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ)) ويقول: ((الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )) [يس:65] فمرة يتكلمون ومرة لا يتكلمون ، ومرة تنطق الجلود والأيدي والأرجل ، ومرة لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ؟ ومرة يقول عن مقالتهم : ((وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)) [الأنعام:23] فمرة يختصمون ، ومرة لا يختصمون ، فأي ذلك يا أمير المؤمنين ؟ وكيف لا أشك فيما تسمع ؟ فقال له علي عليه السلام :"هات ويحك ما شككت فيه"؟ قال: وأجد الله يقول: ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22)
إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)) [القيامه:23] ويقول: ((لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ)) [الأنعام:103] ويقول: ((وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى(13) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى )) [النجم:23ـ25] ويقول: ((يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا))[طه:109ـ110] ومن أدركته الأبصار أحاطت به علما ، فأي ذلك يا أمير المؤمنين ؟ وكيف لا أشك فيما تسمع؟ .
فقال له علي عليه السلام :"سبوحا قدوسا ربنا تبارك وتعالى ، هات ويحك ما شككت فيه".
قال: أجد الله يقول:  ((وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ)) [الشورى:51] وقال: ((وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَىتَكْلِيمًا)) [النساء:164] وقال: ((وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى)) [الشعراء:10] وقال: ((وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا)) [الأعراف:22] وقال: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ)) [الأنفال:64] ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ)) [المائده:41] ((وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ))[الأعراف:19] و((يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ)) [ص:75] فأي ذلك يا أمير المؤمنين ؟ وكيف لا أشك فيما تسمع؟.
فقال له علي رحمة الله عليه :"هات ويحك ما شككت فيه".
قال: وأجد الله يقول: ((هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا)) [مريم:65] وسمي الإنسان سميعا بصيرا ، وملكا وربا ، فمرة يقول : ليس له سمي، ومرة يقول : أسماء كثيرة غير واحدة، فأي ذلك يا أمير المؤمنين تقول ؟ وكيف لا أشك فيما تسمع ؟.
فقال له علي عليه السلام :"هات ويحك ما شككت فيه".
قال: وأجد الله يقول: ((لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ)) [سبأ:30] ويقول: ((وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ)) [في آيات عديده] ومن لا ينظر إليهم عزب عنه ، ومن حجب عنه عزب عنه ، فأي ذلك يا أمير المؤمنين تقول؟ وكيف لا أشك فيما تسمع؟.
فقال [له علي] رحمة الله عليه : "هات ويحك ما شككت فيه" .
قال: وأجد الله يقول: ((أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ)) [الملك:16] وقال: ((هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ)) [الحديد:3] وقال: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ)) [الحديد:4] وقال: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ)) [ق:16] وقال: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ)) [الواقعة:85] وقال: ((مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا)) [المجادله:7] وقال: ((إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ)) [الفجر:16] وقال: ((إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)) [هود:56] فأي ذلك يا أمير المؤمنين ؟ وكيف لا أشك فيما تسمع؟
فقال له علي رحمة الله عليه :"سبوحا قدوسا تبارك الله تعالى هات ويحك ما شككت فيه" .
قال: وأجد الله يقول: ((وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا)) [الفجر:22] وقال: ((وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)) [الأنعام:94] وقال: ((هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ)) [الأنعم:103] يقول مرة : ((جَاء رَبُّكَ)) ومرة يقول: ((جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)) ومرة  ((يَأْتِيَ رَبُّكَ)) ومرة ((يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ)) فأي ذلك يا أمير المؤمنين ؟ وكيف لا أشك فيما تسمع؟.
فقال له علي عليه السلام :"سبوحا قدوسا ربنا تبارك وتعالى وتقدس هات ويحك ما شككت فيه".
قال: وأجد الله يقول: ((بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ)) [السجده:10] وذكر أمر المؤمنين فقال: ((الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)) [البقره:46] ويقول : ((لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ)) [الأنعام:103] ويقول: ((وَلا يُحِيطُونَ بِهِ
عِلْمًا)) [طه:110] وقال في المنافقين: ((فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ)) [التوبه:77] وقال: ((مَن كَانَ يَرْجُوِلقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ)) [العنكبوت:5] فيقول مرة : ((يَلْقَوْنَه)) ومرة ((لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)) ومرة ((وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا)) فأي ذلك يا أمير المؤمنين ؟ وكيف لا أشك فيما تسمع ؟
فقال له علي عليه السلام :"سبوحا قدوسا ربنا تبارك وتعالى وتقدس هات ويحك أيضا ما شككت فيه".
قال: وأجد الله يقول: ((وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا)) [الكهف:53] وقال: ((يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ))  وقال: ((وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا)) [الأحزاب:10] فمرة يظنون ومرة يعلمون ، والظن الشك ، فأي ذلك يا أمير المؤمنين وكيف لا أشك فيما تسمع ؟.
فقال علي رحمة الله عليه :"هات ويحك ما شككت فيه".
قال: وأجد الله يقول: ((وَنَضَعُ الْمَوَازِين الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ)) [الأنبياء:47] ويقول: ((فَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ)) [القارعة:8] وقال: ((وأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ)) [القارعة:6] وقال : ((فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا)) [الكهف:105]وقال: ((فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ)) [غافر:40] فمرة تقام الموازين ، ومرة لا يقيم لهم يوم القيامة وزنا ، ومرة يحاسبون ، ومرة لا يحاسبون ، فأي ذلك يا أمير المؤمنين ؟ وكيف لا أشك فيما تسمع ؟.
فقال له علي رحمة الله عليه :"هات ويحك أيضا ما شككت فيه".
قال: وأجد الله يقول: ((قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ)) [السجده:11] وقال: ((اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)) [الزمر:42] وقال: ((الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ)) [النساء:97] وقال: ((تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ)) [الأنعام:61] وقال: ((الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ)) [النحل:32] فمرة يقول: ((يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ)) ومرة يقول: ((اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)) ومرة يقول: ((تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ)) وقال: ((الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ)) ومرة يقول: ((الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ)) فأي ذلك يا أمير المؤمنين ؟ وكيف لا أشك فيما تسمع ؟ فقد هلكت إن لم يرحمني ربي ، ويشرح لي صدري بما عسى أن يجريه على يديك ، فإن لم يكن ذلك وكان الرب حقا والرسل حقا ، لقد خبت وخسرت ، وإن يكن الكتاب باطلا والرسل باطلا ، وما وعدوا وأوعدوا فما علي من بأس فقد نجوت .
فقال علي رحمة الله عليه :"هات ويحك ما شككت فيه".
قال: حسبي ما ذكرت لك فإن يكن عندك علم فهاته لعل الله يرزقني على يديك خيرا ، وإن يكن سوى ذلك فما من رب ولا رسول ولا ثواب ولا عقاب .
فقال له علي عليه السلام :"سبوحا قدوسا ربنا تبارك وتقدس ونشهد أنه الحق الدائم الذي لا شريك له ولاشيء مثله ، وأن الكتاب والرسل حق عليهم السلام والثواب والعقاب حق ، ولكنا سنعلمك ما شككت فيه ، ولا قوة إلا بالله وصلى الله على محمد وعلى النبيئين وعليهم السلام ورحمة الله .
أما قوله عز وجل : ((نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ)) فإنما يعني بالنسيان أنهم نسوا الله في دار الدنيا ، فلم يعملوا له بالطاعة ولم يؤمنوا به وبرسوله فنسيهم في الآخرة فلم يجعل في ثوابه نصيبا فصاروا منسيين من الخير فذلك تفسير قوله: ((الْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَـذَا)) يعني لا يثيبهم كما يثيب أولياءه الذين كانوا في دار الدنيا ذاكرين حين آمنوا به وبرسوله وخافوه بالغيب وأبروه ورسوله .
وأما قوله تعالى : ((وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا)) ولا يغفل تبارك وتعالى وتقدس وهو الحفيظ العليم  ((أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)) [الملك:14] وقد تقول العرب للملك والسيد : نسيتنا فلا تذكرنا ، يعنون أنه لا يأتينا منك خير ، أفهمت ما ذكرت لك ؟ قال: نعم فرجت عني غما وكشفت عني بعض ما بي وحللت عني عقدة فكشف الله همك وأعظم أمرك يا أمير المؤمنين .
قال: وأما قوله تعالى : ((يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا)) وقوله حين استنطقوا : ((وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)) وقوله: ((ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا)) وقوله: ((إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ)) وقوله: ((لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ)) وقوله: ((الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)) فإن ذلك ليس في موطن واحد بل في مواطن في ذلك اليوم الذي كان مقداره خمسين الف سنة مما يعدون فيجمع الله الخلائق في ذلك اليوم في موطن فيتعارفون فيه ، ويكلم بعضهم بعضا ، ويستغفر بعضهم لبعض أولئك الذين بدت منهم الطاعة من الرسل والأتباع ، وتعانوا على البر والتقوى في دار الدنيا ، ويلعن أهل المعاصي بعضهم بعضا الذين بدت منهم المعاصي وتعاونوا على الظلم والعدوان في دار الدنيا المستكبرين والمستضعفين يلعن بعضهم بعضا ، ويكفر بعضهم ببعض ، والكفر في هذه الآية براءة يقول تبرأ بعضهم من بعض ، ونظيرها قول إبراهيم صلى الله عليه وعلى محمد وآله المرسلين حيث قال لأبيه وقومه : ((كَفَرْنَا بِكُمْ )) [الممتحنه:4] يقول: تبرأنا منكم ، ونظيرها قول الشيطان حين قال : ((كَفَرْتُ بِمَاأَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ)) [إبراهيم:22] يقول: برئت مما أشركتموني من قبل، ثم يجمعون في موطن آخر يفر بعضهم من بعض ، فذلك قوله عز وجل : ((يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34)وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ)) [عبس:25] أن تعاونوا على الظلم والعدوان في دار الدنيا ((لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)) ثم يجمعون في موطن يبكون فيه ، فلو أن تلك الأصوات بدت لأهل الدنيا لأذهلت جميع الخلق عن معاشهم ، ولتصدعت الجبال إلا ما شاء الله ، ولا يزالون كذلك حتى يبكون الدم  ثم يجمعون في موطن يستنطقون فيه فيقولون : ((وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)) ولا يقرون بما عملوا فيختم الله على أفواههم وتستنطق الأيدي والأرجل والجلود فتشهد بكل معصية بدت منهم ، ثم يرفع الخاتم عن ألسنتهم ، فينطقون فيقولون لجلودهم وأيديهم وأرجلهم لم شهدتم علينا؟ فتنطق فتقول: ((أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ)) [فصلت:21] ثم يجمعون في موطن يستنطق فيه جميع الخلائق فلا يتكلم أحد ((إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا)) فيقام الرسل صلوات الله عليهم فتسأل ، فذلك قوله لمحمد صلوات الله عليه وعلى آله وسلم  ((فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيدًا)) [النساء:41] والشهداء هم الرسل على محمد وآله وعلى الرسل السلام ، ثم يجمعون في موطن يكون فيه محمد المحمود على محمد وآله السلام ، فيقوم فيثني على ربه جل ثناؤه ، وتباركت أسماؤه وحسن بلاؤه ما لم يثن أحد قبله لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا غير مرسل ولا يثني أحد مثله بعده بمثله، ثم يثني على ملائكة الله عليهم السلام، ولا يبقى ملك مقرب إلا أثنى عليه محمد ما لم يثن عليه أحد قبله ولا يثني عليه أحد بعده بمثله ، ثم يبدأ بالصديقين والشهداء ثم الصالحين ، فيحمده أهل السماء والأرض فذلك قوله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم  : ((عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا)) [الإسراء:79] فطوبى لمن كان له في ذلك اليوم حظ ونصيب ، وويل لمن لم يكن له في ذلك اليوم حظ ولا نصيب.
ثم يجمعون في موطن يجتمعون فيه ، ويدان لبعض الخلق من بعض وهو القصاص ، وذلك قبل الحساب ، فإذا أخذوا للحساب شغل كل بما لديه فنسأل الله بركة ذلك اليوم ، أفهمت ما ذكرت لك؟ قال: نعم فرجت عني غما فرج الله عنك كل هم وغم، وحللت عني عقدة فعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين.
قال : وأما قوله : ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22)إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)) وقوله : ((لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)) وقوله : ((وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً)) وقوله : ((يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا)) وقوله: ((يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا)).
أما قوله : ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22)إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)) فإن ذلك في موطن ينتهي بأولياء الله إلى نهر يقال له الحيوان بعد ما يفرغ من الحساب فيغتسلون فيه ويشربون منه فتنضر وجوههم وهو الإشراق ، ويذهب عنهم كل قذى فينظرون إلى ربهم متي يأذن لهم في دخول الجنة ، ومنه يدخلون الجنة ، وذلك قول الله حين أخبر عن تسليم الملائكة حيث يستقبلونهم في ذلك الموطن: ((سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ)) حيث يذهب عنهم كل قذى ، وأيقنوا بالجنة ، ولا يعني بالنظر الرؤية لأن الأبصار لا تدركه وهو يدرك الأبصار ، وهو اللطيف الخبير ، وذلك مدحة امتدح بها ربنا تبارك وتعالى وتقدس فأحق من لا تنقطع مدحته في الدنيا ولا في الآخرة الله رب العالمين .
وقد قال موسى نبي الله على محمد وعلى موسى السلام : ((رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي)) [الأعراف:143] فأبدى ربنا تبارك وتقدس بعض آياته فتقطع الجبل وصار رميما ، وخر موسى صعقا، يعني ميتا فتاب وأحياه الله ومنه : ((سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)) [الأعراف:146] بأنك لاتُرَى وإنما يعني أول المؤمنين من أمته ، وقد سأل قوم موسى فقالوا: ((أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ)) [النساء:153] ومن سأله أو ظنه ظنا فخرج من الدنيا على ذلك فقد بريء من دين الله، إن الله تبارك وتعالى وتقدس لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ، ولا ينبغي أن تنقطع مدحته ، وكذلك لا تأخذه سنة ولا نوم ، وكذلك قال: ((وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ)) [الأنعام:14] وكذلك قال: ((مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا)) [الجن:3] وقال: ((وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ)) [الإسراء:111] مع ما ذكر من مدحته ولا يسع أحدا أن يشك في مدحته في الدنيا والآخرة .
وأما قوله : ((وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى)) فإنما يعني محمدا صلى الله عليه وآله وسلم  أنه رأى جبريل عليه السلام عند سدرة المنتهى التي لا يجاوزها خلق من خلق الله فرأى محمد صلى الله عليه وآله وسلم  جبريل عليه السلام في صورته هذه المرة، وقبلها مرة أخرى فذلك قوله سبحانه : ((وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى)) ([2]) وقد أعلم في آخر الآية أنه رأى غير ربه حيث يقول: ((مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى)) [النجم:17ـ18] وذلك أن خلق جبريل عليه السلام آية عظيمة هو من الروحانيين الذين لا يعلم خلقهم وصورهم إلا الله رب العالمين.
وذكر علي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: (رأيت جبريل في صورة له ستة أجنحة جناحان ارتداهما وجناحان تزين بهما وجناح خارج في المشرق في الهواء ، وجناح في المغرب في الهواء ، قد ملأ الآفاق كلها) سبحان الله وتعالى وجل ثناؤه .
وأما قوله : ((لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا)) وقوله : ((يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا)) فأما ما بين أيديهم فأمر الآخرة ، وأما ما خلفهم فأمر الدنيا ((وَلا يُحِيطُونَ بِهِ)) فلا تحيط الخلائق بالله علما  هيهات هيهات، جعل على أبصار القلوب عن الغطاء فلا وهم يناله، ولاقلب ينعته ولا يخطر على بال ، ولا يعرف إلا بالآيات والسلطان والقدرة و الجلال والعظمة كما وصف نفسه في القرآن  ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) [الشورى:11] و ((لاَّ تُدْرِكُهُالأَبْصَارُ)) [الأنعام:103]  ((الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ)) ((الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى)) خلق الأشياء كلها فليس شيء من ما يشاء الإله تبارك وتعالى وتقدس، أفهمت ما ذكرت لك ؟ قال: نعم، فرجت عني فرج الله عنك كل غم وحللت عني عقدة فعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين .
قال: وأما قوله : ((وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء))[الشورى:105] وقوله : ((وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا)) وقوله : ((وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا)) [الاعراف:22] وقوله : ((وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى)) [الشعراء:10] وقوله: ((يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ)) [البقره:35] وقوله:  ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ)) [المائده:41] و ((يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ)) [ص:75].
أما قوله :((وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ)) [الشورى:51] فهو كما قال الله، وليس بكائن وراء حجاب، وقد يرسل الرسول بوحي منه إلى رسل السماء ، فتبلغ رسل السماء رسل الأرض، فيتفهمه رسل الأرض من دون مشافهة رسل السماء، وقد يخلق الكلام بينه وبين رسل السماء من غير مشافهة رسل السماء لأحد من خلقه، وقد قال نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم  لجبريل عليه السلام: (كيف تأخذ الوحي من رب العالمين ؟ قال: آخذه من إسرافيل، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من أين يأخذ اسرافيل؟ قال : يأخذه من ملك فوقه من الروحانيين . فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم  : من أين يأخذه ذلك الملك ؟ فقال: يقذف في قلبه قذفا ، فهو كلام الله) ([3]) فكيف ما وصفت لك من كلام الله، فإن كلام الله ليس بنحو واحد، ولا يجري على نحو واحد منه ما يجيء في المنام، وذلك قول إبراهيم عليه السلام حيث قال:  ((يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى)) [الصافات:102] ومنه ما قال الله تبارك وتعالى: ((لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَالْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا)) [الفتح:27] ومنه ما قاله الله لمحمد أيضا : ((وَمَاجَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَة)) [الإسراء:60] ومنه ما يبلغ رسل السماء رسل الأرض، ومنه ما يقذف في قلب الملك قذفا، وذلك ما قال جبريل عليه السلام لنبي الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما قذف الله في قلب الملك الذي فوق اسرافيل، أفهمت ما ذكرت لك، قال: نعم فرجت عني غما فرج الله عنك كل غم يا أمير المؤمنين.
وأما قوله : ((هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا)) [سورة مريم:65] فلا سمي له يعني لا مثل له، فإياك أن تقيس شيئا من كتاب الله برأيك حتى .... من العلماء، فإنه رب تنزيل يشبه كلام البشر وفعل البشر وتأويله لا يشبه كلام البشر، ولا فعل البشر، كما أنه ليس كمثله شيئ من خلق كذلك لاشيئ يشبهه من فعله ولا كلامه أفاعيل البشر ولا كلامهم أفهمت ما ذكرت ؟ قال: نعم .
وأما قوله : ((لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ)) [سبأ:34] وقوله  لأهل النار : ((وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ))
[آل عمران:77] فكذلك، وكيف يعزب عن من خلق ... ((وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)) [الانعام:103] وهو الشاهد لكل شيء تبارك وتعالى وتقدس .
وأما قوله : ((لاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ)) فإنما يعني بذلك لا يرحمهم ولا ينظر إليهم بخير، تقول العرب للرجل البر أو الملك: والله ما ينظر إلينا، يعنون إنك لا تصيبنا بخير فكذلك النظر من الله إلى خلقه في هاتين الآيتين ثواب أو عقاب، أفهمت ما ذكرت لك؟ قال: نعم.
وأما قوله: ((إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ))  [المطففين:15] فإنما يعني أنهم عن ثواب ربهم وكرامته محرومون .
وأما قوله : ((أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ)) [الملك:16] وقوله : ((هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ)) [الحديد:3] وقوله : ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)) [طه:5] وقوله : ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ)) وقوله : ((مَا يَكُون مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) [المجادلة:7] وقوله: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) [ق:16] وقوله : ((إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ)) [الفجر:14] وقوله:  ((إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)) [هود:56] فكذلك الله تبارك وتعالى وتقدس من غير أن يكون ما سمى من كينونيته في خلقه ومع خلقه وعلى خلقه وفوق خلقه يجري ذلك منه على نحو ما يجري من المخلوقين وهو اللطيف وأعظم وأجل وأكبر من أن ينزل به شيء مما ينزل بخلقه هو الشاهد لكل شيء والوكيل على كل شيء، والمنشيء لكل شيء، والمدبر للأشياء كلها بلا علاج، ولا يفكر ولا حدث عليه ولامؤنة تعينه سبحانه وبحمده تبارك وتعالى وتقدس، فإذا جال شيء في صدرك من عظمة الله مما في القرآن من كينونته في الخلق ومع الخلق وفوق الخلق، وعلى الخلق، وتفكر في ديمومة الله وعظمته، ووسوست نفسك بشيء فقل: لا إله إلا الله فإن ذلك من وساوس الشيطان، وتفكر في ديمومة الله قبل أن يخلق خلقا سماء ولا أرضا، ولا عرشا ولا هواء، ولا شيئا من السماء والأرض فتنظر أنه الدائم الذي لا إحصاء لديمومته، وليس مع شيء، وذلك أنه الأول ابتدأ الأشياء لامن شيء فكذلك الله فعند ما خلق من الخلق كذا كان قبل أن يخلق الخلق ولم يتحول، ولا يحول ولا يأفل مع الآفلين فلا تجري عليه زيادة ولا نقصان، ولا يدرك ولا يعرف إلا بالديمومة، والأنات والسلطان والقدرة دائما سرمدا أبدا لا إحصاء لديمومته تبارك وتعالى وتقدس، ولا زوال، ابتدأ خلقه على غير مثال، وذلك أنه الأول فلا شيء معه، وخلق الأشياء لامن شيء.
وأما قوله : ((إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ)) [الفجر:14] فإنما يعني أن ربك قادر أن يجزي أهل المعاصي جزاءهم، وهو فاعل ذلك، وقد تقول العرب للعبد أولمن يأمرونه فيستعصي: إنا لك بالمرصاد، يعنون إنا قادرون على جزائك، ونحن فاعلون ذلك.
وأما قوله : ((إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)) [هود:56] فإنما يعني أنه حق يجزي بالإحسان إحسانا والسيء سيئا، ويغفر لمن يشاء سبحانه وتعالى وتقدس أفهمت ما ذكرت لك؟ قال : نعم.
وأما قوله : ((وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا)) [الفجر:22] وقوله : ((وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)) [الأنعام:94] وقوله: ((هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ)) [البقره:210]  وقوله: ((إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ
بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ)) [الأنعام:158] فذلك حق كما قال الله سبحانه، وليس جيئته كجيئة الخلق، وقد أعلمتك أنه رُبَّ شيء من كتاب الله تأويله غير تنزيله، ولا يشبه تأويله كلام البشر، ولا فعل البشر، وسأنبئك بطرف منه تكتفي به إن شاء الله تعالى، من قول إبراهيم عليه السلام حين قال: ((إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ)) [الصافات:99] فذهابه إلى ربه توجهه وعبادته واجتهاده وقراره إلى ربه، إلا أن تأويله غير تنزيله، وقال: ((أَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ)) [الزمر:6] وقال: ((وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ)) [الحديد:25] فسماه إنزالا، وإنزاله الأنعام خلقه إياها، ألا ترى أن تأويله غير تنزيله.
وقال موسى ـ على محمد وموسى السلام ـ حين سقى لابنتي شعيب عليه السلام قال الله : ((فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)) [القصص:24] لما رزقتني من خير فقير.
وأما قوله : ((هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ)) [الأنعام:158] فإنما تخير محمدا صلى الله عليه وآله وسلم  عن المنافقين والمشركين الذين لم يستجيبوا لي ولرسولي  ((أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ)) معنى إتيانه: العذاب في دار الدنيا كما عذب القرون الأولى فهذا خبر يخبر نبيه عليه السلام، ثم قال: ((أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ)) [الانعام:158] أن تجيء هذه الآيات، وذلك قبل طلوع الشمس من المغرب، وإنما يكتفي ذووا الألباب والحجج، أو أولوا النهي أن يعلموا من قول الله  ((وَجَاء رَبُّكَ)) ((وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)) [الأنعام:94] أنه يكشف الغطاء، فترى ما وعدوا وأوعدوا وقال في آية أخرى: ((فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا)) [الحشر:2] يعني بذلك أنه أرسل عليهم عذابا فذلك إياهم، وقال: ((فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ)) [النحل:26] فإتيانه البنيان من القواعد إرساله العذاب عليهم، وقد قال فيما أنزل: ((أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا)) [الرعد:41] يعني بذلك ما يهلك من القرون، وكذلك ما وصف من أمر الآخرة، تبارك وتعالى وتقدس، وتجري أموره في ذلك اليوم الذي كان مقداره خمسين ألف سنة، كما تجري أموره في الدنيا، لا يتعب ولا ينصب ولا يأفل مع الآفلين، فاكتف بما وصفت لك من ذلك مما تخيل في صدرك مما أنزل الله في كتابه وتسمى به من أفاعيله.
واعلم أن تأويل أفاعيله غير ما وجه لفعل البشر، لأنه لا ينزل به ما ينزل بالبشر أفهمت جميع ما ذكرت لك من جميع مافي كتاب الله مما تنزيله على نحو من كلام البشر هو أعظم وأجل، وأعز وأكبر جل ثناؤه من أن يكون كذلك وتعالى وتقدس.
وقال: ((قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)) [التوبه:130ـالمنافقون:14] يقول: لعنهم الله فسمى اللعنة قتالا ، وقال: ((قُتِلَ الْإِنسَان ُمَا أَكْفَرَهُ)) [عبس:17] يقول: لعن الإنسان ما أقل شكره، وقال لنبيئه صلى الله عليه وآله وسلم: ((فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى)) [الأنفال:17] فسمى فعل النبي، وفعل المؤمنين فعلا منه ألا ترى أن تأويله غير تنزيله.
وقال: ((بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ)) [السجده:10] وذكر المؤمنين فقال: ((الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)) [البقره:46] وقال: ((لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)) وقال للمنافقين: ((فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ)) [التوبه:77] وقال: ((فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)) [الكهف:110].
أما قوله: ((الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاء الْآخِرَةِ)) [المؤمنون:33] يقول: هم بالبعث هم كافرون، فسماه لقاء، وكذلك ذكر المؤمنين فقال: ((يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ)) [البقره:46] يقول: يوقنون أنهم مبعوثون، والظن منهم يقين، وكذلك ((فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء)) يقول: من كان يوقن أنه مبعوث ومحاسب ومجزي فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا، وقال: ((مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)) [العنكبوت:5] يقول: من كان يوقن أنه مبعوث وإنما وعدوا وعد جاء عن الثواب والعقاب فسمى اللقاء أجلا، ولو كان إلى ما ذهب وهمك من لقاء ربه فكان يكون من كان يرجو لقاء ربه، والذين هم بلقاء ربهم كافرون بلفظ الرؤية، وليس كذلك، فاللقاء : الرؤية، واللقاء : البعث، ولا يعني به الرؤية لأن الأبصار لا تدركه، وكذلك ((إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ)) يعني المنافقين، يقول: لا يزال النفاق في قلوبهم إلى يوم يبعثون، أفهمت ما ذكرت لك؟ قال: نعم .
قال : وأما قوله: ((وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا)) [الكهف:53] وقوله عمن أوتي كتابه بيمينه : ((إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيهْ)) [الحاقه:20] وقوله: ((يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ)) [النور:25] وقوله للمنافقين: ((وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا)) [الأحزاب:10].
أما قوله : ((وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا)) [الكهف:53] فإنما يعني بالظن اليقين، يقول: إنهم أدخلوها.
وأما قوله : ((إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيهْ)) يقول: إني أيقنت .
وأما قوله: ((وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا)) فليس ذلك الظن باليقين، ولكنه شك، والظن ظنان: ظن يقين، وظن شك، فما كان في كتاب الله من ذكر الظن في أمر المعاد فهو يقين، وما ذكر في أمر الدنيا فهو شك، وذلك لو كان إلى ما ذهب إليه وهمك لا يكون مؤمنا، وذلك لأن ما ذكر الله من الظن الذي سماه من المؤمنين في باب الآخرة لا يكون شكا، لأن من شك في شيء من الأشياء في كتاب الله المنزل كان مشركا أفهمت ما ذكرت لك من أمر الظن في الدنيا والآخرة؟ قال: نعم.
قال : وأما قوله: ((وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ)) [الأنبياء:47] فهو العدل تؤخذ به الخلائق، ويدين الله الخلق بعضهم من بعض، ويجزيهم بأعمالهم، والدين هاهنا قصاص.
وأما قوله لأهل الجنة ((فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ)) [غافر:40] فإن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال:(حقت مودتي لمن يزاور في الله، ويحاب في الله، ويباذل في الله، المتحابون في الله وجوههم من نور على منابر من نور عليهم ثياب من نور، قيل: من هؤلاء؟ قال: ليسوا بأنبياء ولا شهداء، ولكنهم قوم تحابوا بحلال الله في الله على طاعة الله في دار الدنيا إذا عصي الله في دار الدنيا لا يزالون جلوسا على تلك حتى يفرغ من الحساب، ويدخلون الجنة لا يحاسبون).
قال: وأما قوله: ((مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ)) و ((ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ)) فإنما يعني بذلك قلة الحساب في الموازين ، وكثرتها أفهمت ما ذكرت لك؟ قال: نعم.
قال: وقوله: ((قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)) [السجده:11] وقوله: ((اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)) [الزمر:42] وقوله: ((تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ)) [الأنعام:61] وقوله: ((الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ)) [التوبه:32] ((ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ)) [النساء:97] فإن الله تبارك وتعالى وتقدس يدبر الأمور كيف يشاء، ويوكل من خلقه ما يشاء بمن يشاء.
وأما قوله : ((يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ)) فإن الله وكله بخاصة من خلقه وملائكة معه.
وأما قوله: ((ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)) فإنما يعني به أنهم ينشرون من بعد الموت فسمى النشور رجعة، وكذلك قال: ((إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ)) [الأنعام:38] يقول: ينشرون من بعد الموت فسمى النشور رجعة.
وأما قوله: ((اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)) [الزمر:42] فكذلك يتوفى الأنفس كيف يشاء على يدي من يشاء من خلقه.
وأما قوله: ((تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ)) [الأنعام:61] فإن الله وكلهم بخاصة من خلقه تبارك وتعالى وتقدس، وليس كل العلم يستطيع صاحب العلم أن يفشيه إلى كل الناس، منه ما يطاق حمله، ومنه مالا يطاق حمله إلا من رزقه الله تعالى إطاقته من خاصة أوليائه، وإنما يكفيك وجميع المؤمنين أن يعلموا أن الله تبارك وتعالى وتقدس المميت المحيي، فإنه يتوفى الأنفس على يدي من يشاء من خلقه وملائكته أو غيرهم، بغير علاج منه تبارك وتعالى وتقدس أفهمت ما ذكرت لك؟ قال: نعم فرجت عني كل غم، فرج الله عنك كل غم وكشف عنك كل هم، كما كشفت عني ما كان بي من الغم، وذلك من الله وحده لا شريك له، له الحمد والمرد والكبرياء، والطول لا اله إلا هو، وأشهد أنه الحق الدائم الذي ليس كمثله شيء، ولا ينزل به ما ينزل بخلقه وأنه خالق الأشياء كلها والقادر على الأشياء لامقدور عليه ولا رب غيره، ولا راد لحكمه وهو سريع الحساب، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، وأقر بما جاء به من عند الله، وأن الكتاب حق يصدق بعضه بعضا، نسأل الله ألا يزيغ قلوبنا بعد أن هدانا، وأن يهب لنا من لدنه رحمة ورضوانا إنه الوهاب، عظم الله أجرك يا أمير المؤمنين، وأمتع بك عامة المسلمين. 

 

وأما المجمل والمفسر فقال الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام في الحقائق: إن من المجمل سورة الحمد وهي فاتحة الكتاب، وهي السبع المثاني، قال الله تعالى: ((وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ)) [الحجر:87]  في هذه السورة أكثر المعاني المفسرة في سائر القرآن، وهو مجمل في هذه السورة.
قلت: قال في النجم الزاهر في تفسير الباهر ما لفظه : وأما فضل التفسير فروينا عن الحسن [الحسن البصري] قال: (أنزل الله مائة وأربعة كتب من السماء أودع علومها منها أربعة التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، ثم أودع علوم هذه الأربعة الفرقان، ثم أودع علوم الفرقان المفصل، ثم أودع علوم المفصل فاتحة الكتاب فمن علم تفسيرها علم تفسير جميع كتب الله المنزلة، ومن قرأها فكأنما قرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان). وهذا الحديث وإن كان موقوفا على الحسن لابد أن يكون مسندا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم  متى ثبت كونه عن الحسن، وهو من أخبار الآحاد التي يجوز قبولها، ولكنه منطو على أشياء ليست من مسائل الإجتهاد فلا يكون قولا له، ولايصح أن يكون إلا بوحي الله تعالى فكان قويا من هذه الجهة جدا.
ثم قال عليه السلام :(من ذلك ذكر أسماء الله الحسنى، وذكر الحمد والشكر والثناء وذكر جميع ما خلق الله تبارك وتعالى في الدنيا والآخرة في ذكر العالمين وأن الله تعالى مالك الدنيا والدين، وفيه ذكر العياذة والاستعانة، وهما يشتملان على جميع العبادات، وفيه ذكر الصراط المستقيم، والإشارة إلى غير المستقيم، وفيه ذكر المهتدين والذين أنعم عليهم رب العالمين، وفيه ذكر المغضوب عليهم، وذكر الضالين، والمغضوب عليهم الذين يتعمدون المعاصي، ويعلمون أنهم عاصون، والضالون فهم الذين يحسبون أنهم ناجون وهم عند الله هالكون).
قلت: وقوله تعالى : ((صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ)) [الفاتحة:7] يقول: طريق الذين أنعمت عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين. وقوله: ((غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِم)) [الفاتحة:7] قيل: هم العصاة الذين أراد الله الإنتقام منهم.
وقوله : ((وَلاَ الضَّالِّين)) [الفاتحة:7] عام لكل من ضل عن الدين وسيأتي الآن بيان ذلك في تفسير هذه السورة المباركة إن شاء الله، قال الإمام عليه السلام: ففي هذه السورة جميع معاني القرآن.
ومن المجمل في الكتاب ما يكون تفسيره من القرآن وذلك مثل قوله تعالى: ((خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)) [التوبه:103] فهذه الآية مجملة وتفسيرها فيمن يوضع فيهم الصدقة وهو قوله: ((إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)) [التوبه:60].
ومن ذلك قول الله تعالى: ((وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِاسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ)) [الأنعام:121] فهذا مجمل ظاهره يوجب أن ذبيحة الناسي التسمية والصبي الذي لم يبلغ لاتجوز، ثم فسره بقوله: ((حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ
بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ)) [المائدة:3] فبين أن المراد بالآية الأولى أن النهي بما ورد عن أكل ما أهل به لغير الله.
ومن المجمل أيضا قوله: ((الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) [المائده:5] ثم فسر الله هذا ((وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ)) [البقره:221] وقال: ((إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ)) [التوبه:28] وقال: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ)) [الممتحنه:1] فبين أن المراد بالآية الأولى من آمن من أهل الكتاب.
ويؤيد ذلك قول الله تعالى: ((وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)) [آل عمران:199].
ومن المجمل في الكتاب ما يكون تفسيره في السنة على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم  وذلك مثل قوله تعالى: ((وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ)) [النساء:77] ومثل قوله: ((وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)) [آل عمران:97] فكان تفسير الصلاة وشروطها وحدودها، وواجبها ونوافلها في الشرع على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك الزكاة فيما تؤخذ ومتى تؤخذ، وكذلك الحج وأوقات الصلاة فقد ورد في ذلك القرآن مفسرا وما ورد في الشرع فهو تأكيد له، فهذا وأمثاله من المجمل والمفسر، وإن كانت هذه الثمانية الأصناف تحتاج إلى تفسير.
قال عليه السلام : ومن غامض كتاب الله قوله تعالى : ((وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً)) [الإسراء:110] وقد استدلت الباطنية لعنهم الله تعالى بهذه الآية على إبطال الأعمال وإظهار عيبه، وقالوا: هو ينقض بعضه بعضا، وإذا كان يتناقض كان باطلا قالوا: قوله: ((وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا)) يوجب ترك الصلاة لأنه بزعمهم لا يمكنه أن يصلي بغير جهر ولا مخافتة.
فنقول : ليس الأمر يتناقض وإنما أمره أن لا يجهر بكل الصلاة ولا يخافت بكلها  وأمره أن يبتغي بين ذلك سبيلا، وقد ابتغى صلى الله عليه وآله وسلم  سبيلا وهو أنه جهر بالقراءة في الليل وصلاة الفجر، وخافت بها في صلاة الظهر والعصر، ويجهر بالأذان والإقامة والتكبير وقوله: سمع الله لمن حمده، والتسليم في جميع الصلوات، وذلك مروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم  في الأخبار المتظاهرة، وهو إجماع الأمة، وقد أمرنا الله بإتباعه فقال: ((وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا)) [الحشر:7] فيبطل قول الباطنية.
 
 
وأما الناسخ والمنسوخ فقال عليه السلام : اعلم أن في الكتاب ناسخا ومنسوخا، فمن المنسوخ ما نسخ حكمه، ولم ينسخ حفظه وكتابته وتلاوته، والأمة مجمعة على ذلك إلا فرقة ممن لا يعمل على قوله.
ومن المنسوخ ما ينسخ وجوبه وحرم فعله كالتوجه بالصلاة إلى بيت المقدس.
ومن المنسوخ ما نسخ وجوبه وبقي جوازه كصوم عاشوراء.
ومن الدليل على أن في الكتاب ناسخا ومنسوخا قول الله تعالى: ((مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا)) [البقره:106] وفي هذا تقديم وتأخير أراد ما ينسخ من آية أو ننسها فلا ننسخها ونقرها على حالها قال الله تعالى: ((يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)) [الرعد:39] هي أصله والمحكم.
وقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه سمع رجلا يعظ الناس ويقص عليهم فقال: "هل علمت ناسخ القرآن ومنسوخه ؟ قال: لا ، قال له عليه السلام : هلكت وأهلكت".
وسبب الناسخ والمنسوخ ضعف الإسلام في مبتدئه، وقوته في منتهاه، وتخفيف من الله للمؤمنين، فأول ما نسخ القبلة، وذلك أن الكعبة كانت قبلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم  قبل أن يهاجر إلى المدينة، وكان أهلها لا يعرفون قبلة إلا بيت المقدس، وكان الإسلام غريبا فأنزل الله تعالى: ((وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ)) [البقره:115] فصلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  إلى بيت المقدس على ما روي ستة عشر شهرا، وقيل: سبعة عشر شهرا، فلما تقوى الإسلام توقع صلى الله عليه وآله وسلم  الوحي من ربه، وانتظر جبريل عليه السلام ينزل به فأنزل الله تعالى: ((قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء
فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ)) [البقره:144] أي نحوه.
ومما نسخ قول الله تعالى: ((وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ)) [النساء:8] نسخها آية المواريث.
ومما نسخ قول الله تعالى: ((وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ)) [البقره:219] يريد الزائد على كفايتهم نسختها آية الزكاة.
ومما نسخ: ((كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ)) [البقره:183] فكانوا لا يأكلون بعد الرقاد بالليل، ولا يشربون ولا يجامعون، فنسخ ذلك قول الله تعالى: ((أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌل َّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ)) [البقره:187] معنى قوله : ((وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ)) يريد الولد.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنه سئل عن تفسير الخيط الأبيض من الخيط الأسود؟ فقال: (هو الليل والنهار).
ثم قال الإمام أحمد بن سليمان عليهما السلام أيضا: ومما نسخ نكاح المتعة، وهو قوله تعالى: ((فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)) [النساء:24] نسخها قول الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا
الْعِدَّةَ)) [الطلاق:1].
قال عبد الله بن الحسين عليه السلام في كتاب الناسخ والمنسوخ بعد أن ذكر خلاف العامة في ذلك: والقول عندنا أنها منسوخة نسخها الكتاب والسنة، ثم شرح ذلك فيه وبينه أحسن بيان وأن الإستمتاع الذي ذكر ه الله تعالى إنما هو تزويج إلا أنه كان فيه شروط .......فنسخ الله تلك الشروط، ثم بين لنا الناسخ من الكتاب والسنة .. إلى قوله :وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم  أنه اعتمر فشكا الناس إليه الغربة فقال: (استمتعوا من هذه النساء واجعلوا الأجل بينكم وبينهم ثلاثة أيام فلما كان اليوم الثالث أو الرابع من قوله خرج صلى الله عليه وآله وسلم  حتى وقف بين الركن والمقام ، وأسند ظهره إلى الكعبة فقال: أيها الناس إني كنت أمرتكم بالإستمتاع إلا وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة فمن كان عنده شيء منهن فليخل سبيلها ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا) ([4]).
وروي أنه قال في آخر كلامه : (متعة النساء حرام) قال ذلك ثلاث مرات.
وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه مر بعبد الله بن عباس وهو يفتي بنكاح المتعة فقال أمير المؤمنين عليه السلام: "نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  عنها وعن لحوم الحمر الأهلية"([5]) والأمة مجمعة على تحريم المتعة إلا الإمامية فإنهم يرونها.
ومما نسخ قول الله تعالى: ((وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا)) [البقره:229] وهذا في المختلعة وقوله : ((وَآتَيْتُمْ
إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً)) [النساء:20] نسخه قول الله : ((إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ)) [البقره:230].
وروي أن أول مختلعة في الإسلام حبيبة بنت سهل كانت عند ثابت بن قيس بن شماس فأتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم  فقالت: يا رسول الله لا أنا ولا ثابت، فقال: (أفتردين عليه ما أخذت منه ؟) قالت: نعم وكان ثابت تزوجها على حديقة من نخل، فقال ثابت: هو يطيب لي يا رسول الله؟ قال: (نعم)، وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  بطلاقها) .
ومما نسخ قول الله تعالى : ((وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) [البقره:240] فكان عدة المتوفى عنها زوجها سنة، وكانت لها الوصية، ولم يكن لها ميراث، فنسخت بالعدة بقوله عز وجل: ((وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا)) [البقره:234] وسبب العدة إظهار الحزن على صاحبها، وتوقع الولد منه، وفي هذه المدة يتبين الحمل إن كان.
وقيل: إنه يكون في أربعين يوما نطفة، وفي أربعين يوما علقة، وفي أربعين يوما مضغة، فإذا بلغ أربعة أشهر صار عظاما، ولم يخف كونه ولا يغبى وجوده.
ونسخت الوصية لهن بآية المواريث وهي قوله تعالى : ((وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ)) [النساء:12].
ومما نسخ قول الله تعالى : ((وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً)) [النساء:15] نسخه قول الله تعالى: ((الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ)) [النور:2].
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (حدوهن واقتلوهن قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي عام والثيب بالثيب الرجم).
ومما نسخ قول الله في أهل الذمة: ((فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ)) [المائده:42] نسخها قول الله تعالى: ((وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ)) [المائده:49].
ومما نسخ قول الله تعالى: ((وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ)) [البقره:282] نسخ بقوله تعالى: ((فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ)) [البقره:283].................................
قال عبد الله بن الحسين عليه السلام: والقول عندنا أنها منسوخة، وأن المتبايعين بالخيار بالإشهاد إن أحبا أشهدا وإن تركا فلا حرج.
قال الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام: ومما نسخ حج المشركين، وفي ذلك ما يقول الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ)) [المائده:2] نسخه الله بقوله : ((ِإنَّمَا الْمُشْرِكُونَ
نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا)) [التوبه:28] ومما نسخ قول الله تعالى: ((لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)) [البقره:265] وقوله: ((وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ)) [ق:45] وقوله تعالى: ((لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ)) [الغاشيه:22] وقوله تعالى: ((فَاعْفُ عَنْهُمْ)) [آل عمران:159] فكانت هذه الآيات وما شاكلها نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم  قبل الهجرة فلما هاجر أمره الله بالجهاد ونسخ الآيات هذه بقوله: ((أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْلَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)) [الحج:40] وبقوله تعالى: ((قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ)) [التوبه:29] وقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ)) [التوبه:73].
قلت: وقال غيره إن هذا منسوخ لأن العفو والصفح ونحوهما لا ينافي القتال وهو الأقرب والله أعلم.
قال الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام: ومما نسخ قول الله: ((وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً)) [التوبه:122] نسخها قول الله تعالى: ((انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً)) [التوبه:41].
واعلم أن سورة براءة نسخت كل آية عقد بين المؤمنين والمحاربين وذمة وصلح وشرط، ونسخت الصلح الذي كان في الأشهر الحرم، وفي مكة لقوله تعالى: ((اقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ)) [التوبه:5] إلا ما استثنى الله فيها من قوله: ((إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)) [التوبه:4] فتحريم القتال في الحرم منسوخ بآية السيف، وعلى ذلك إجماع أهل البيت عليهم السلام .
ومما نسخ قول الله تعالى: ((وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ)) [الأنفال:72] نسخها الله تعالى بقوله: ((وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ)) [الأحزاب:6].
قال عبد الله بن الحسين عليه السلام: وأما ناسخ المواريث ومنسوخا فلا أعلم اختلافا في قول الله عز وجل: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ)) [الأنفال:72] فأجمع الناس على أنه إذا كان الأخوان أحدهما مؤمنا أعرابيا، والآخر مؤمنا مهاجرا لا يتوارثان لهذه الآية، حتى أباح الله ذلك ونسخ الآية بقوله: ((وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ)) [الأحزاب:6].
ومما نسخ فرض الوصية للوالدين والأقربين ، وذلك قول الله تعالى: ((كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ)) [البقره:182] نسخه الله بآية المواريث.
وعلى هذا يحمل قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  في حجة ا لوداع: (ألا لا وصية لوارث) وقد نسخ ذلك بآية المواريث، وهذا مما نسخ وجوبه، وبقي جوازه، ويؤيده قول الله تعالى: ((إِلا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا)) [الأحزاب:6].
ومما نسخ التغليظ في النهي عن مخالطة اليتامى في النفقة والأكل معهم، وذلك قول الله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا)) [النساء:10].
وروي أنه لما نزلت هذه الآية امتنع المسلمون من قبول الوصايا في اليتامى أن يكفلوهم وخرجوا من مخالطتهم فنسخ الله ذلك التغليظ بقوله تعالى: ((وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) [البقره:220] يقول: لو شاء لضيق عليكم، وقال: ((مَن كَانَ
غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ)) [النساء:6] المراد والله أعلم أنه من كان غنيا عن المخالطة فليستعفف عن المخالطة لهم، والأكل معهم، ومن كان فقيرا إلى ذلك فليخالطهم وليأكل معهم، ولا يتعمد الظلم لهم، والنقص لهم في مالهم، وقد اختلف في هذه الآية فمن الناس من حملها على ظاهرها وأجاز للوصي الأكل من مال اليتيم إذا كان الوصي فقيرا، وأن ينفق منه على نفسه ومن يلزمه نفقته، ومن الناس من قال يتناول منه ما يتناول المضارب من مال المضاربة على سبيل الأجرة.
قال عليه السلام: وعندنا أن ذلك لا يجوز لقول الله تعالى: ((فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ)) [النساء:6] ومن المعروف أن يخرج الوصي لليتيم من ماله مثل ما يخرج لمثله من أولاده ثم يخلطه في نفقته أولاده، ويواسيه بأولاده، ولا ينقصه في ماله ولا في نفقته، فهذا هو المعروف.
ويؤيد ذلك قول الله تعالى: ((وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ)) [البقره:220].
ومما نسخ قول الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)) [المجادله:12] وسبب نزول هذه الآية أن المسلمين أكثروا النجوى حتى أضر ذلك برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فأراد الله أن يخفف عنه فأنزل الله هذه الآية فامتنع كثير من الناس من المناجاة.
وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: "إن في كتاب الله لآية وفرضا ما عمل بهما غيري ولا يعمل بهما أحد بعدي لما أنزل الله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)) كان معي دينار فصرفته وكنت إذا أردت أن أناجي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تصدقت بدرهم، فلم يفرغ الدينار حتى نسخت الآية" فنسخها الله بقوله: ((أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)) [المجادله:13].
قيل: ومما نسخ قول الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا (2) نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلا(3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا(4))) [المزمل:1-4].
وقال عبد الله بن الحسين عليه السلام في كتابه الناسخ والمنسوخ مالفظه: فزعم أهل هذا القول أن هذا في صلاة الليل وأنه جاء بعد الأمر بها الترخص في تركها بالنسخ، وقال آخرون: إن السورة كلها محكمة، وليس فيها ناسخ ولا منسوخ، وإنما أراد الله الأمر بالصلاة والقيام والترتيل له إنما ذلك كله في صلاة العتمة المفروضة، وإنما جاء في آخر السورة من التوسعة في الأوقات رحمة من الله للعباد، ولما ذكر الله من علمه بهم وأن منهم مريض ومسافر ومجاهد، وهذا الآخِر قولنا، وبه نأخذ.
ومن الدليل على ما قلنا به أن الصلاة التي في هذه السورة هي العتمة المفروضة جمع الله بها في آخر الكلام الزكاة، قال الله سبحانه: ((وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا)) [المزمل:20].
قلت: وسيأتي إن شاء الله مثل هذه السورة في سورة المزمل للهادي عليه السلام.
ومما نسخ قول الله تعالى: ((إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ)) [الأنفال:65]  نسخة هذه الآية بقوله: ((الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)) [الأنفال:66].
فهذا ما جاء في الناسخ والمنسوخ.
ومن القرآن ما هو في مخرجه عام وفي معناه خاص، وذلك مثل قوله تعالى: ((إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ
وَآلَ عِمْرَانَ(33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)) [آل عمران:34] فمخرج الآية يدل على أن الله اصطفى آل إبراهيم وآل عمران علىالعموم والكمال، والمعنى أنه خص بالاصطفاء من آل إبراهيم وآل عمران من يستحق الاصطفاء لقوله تعالى: ((لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)) [البقرة:124].
ومن الكتاب العام لجميع العباد مثل قوله تعالى: ((يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ )) [الزمر:16].
ومنه العام لجميع المتعبدين مثل قوله: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) [البقره:21].
ومنه العام للمؤمنين مثل قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)) [المنافقون:9] وهذا ذكر عام للمؤمنين دون الكافرين، وذلك لاستماع المؤمنين للأمر، وبعد الكافرين عن استماع الأمر والطاعة.
ومنه الخاص لبعض المؤمنين، وهو مثل قوله: ((نَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ ُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُون)) [المائده:55] هذه الآية خاصة لعلي أمير المؤمنين عليه السلام.
قلت: ومثل ما روى علامة الشيعة عبد الله بن زيد العنسي ([6]) رحمه الله في رسالته البديعة عن ابن عباس قال: أخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم  بيدي ويد علي وخلا بنا إلى ثبير، ثم صلى ركعات ثم رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم إن موسى بن عمران سألك وأنا محمد نبيئك أسألك أن تشرح لي صدري، وتيسر لي أمري، وتحلل عقدة من لساني ليفقه به قولي واجعل لي وزيرا من أهلي علي بن أبي طالب أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري) قال ابن عباس: فسمعت مناديا يا أحمد قد أوتيت ما سألت فرفع علي يده إلى السماء وهو يقول: اللهم اجعل لي عندك عهدا، واجعل لي عندك ودا، فأنزل الله على نبيه: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا)) [مريم:96] فتلاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم  على أصحابه فعجبوا من ذلك تعجبا شديدا، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (منها تعجبون القرآن أربعة أرباع فربع فينا أهل البيت خاصة ، وربع في أعدائنا، وربع حلال وحرام، وربع فرائض وأحكام، وإن الله أنزل في علي كرائم القرآن).
وعن علي عليه السلام: "نزل القرآن أرباعا ربع فينا، وربع في عدونا، وربع سنن وأمثال، وربع فرائض وأحكام، فلنا كرائم القرآن" ([7]).
ومنه محذوف الجواب مما يوجب العلم مثل قوله تعالى: ((وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ
بِهِ الْمَوْتَى)) [الرعد:31] الآية المراد بها لكان هذا القرآن، فحذف الجواب لعلم السامع. ومثل قوله تعالى: ((أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ)) [التكاثر:1-3] إلى قوله: ((كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ)) أراد تعلمون علم اليقين لما ألهاكم التكاثر، فحذف الجواب لعلم السامع.
ومثل قوله تعالى: ((وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)) [الإسراء:16] المراد به أمرنا مترفيها بالطاعة، ففسقوا فيها، ولا يغرنك ما ذكره صاحب الكشاف هاهنا من أن المحذوف هو الفسق المأمور به على المجاز، فإنه خلاف ما أجمع عليه أئمة أهل البيت عليهم السلام، وقد أمرنا بإتباعهم، ونهينا عن مخالفتهم، ألا تسمع كيف يقول فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ولا تخالفوهم فتضلوا) الخبر، كما مر الإشارة إلى ذلك من وجوب إتباعهم، مع أنه تفسير الكل من أهل التحقيق من غيرهم خلا ما أصر عليه صاحب الكشاف كما سيأتي ذلك إن شاء الله تعالى في موضعه من سورة السجدة.
ومثل قوله تعالى: ((فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا)) [المجادله:4] المراد من قبل أن يتماسا، كسبيله في العتق والصيام، والمعنى واحد، ومثل هذا موجود في كلام العرب، قال الشاعر:
عفا الله عنك كل شاة برجلها         على نفسه يخطي الفتى ويصيب
أراد كل شاة معلقة.
ومن محذوف الجواب قوله: ((وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ)) [النساء:3] الآية فالمحذوف هنا جواب وإن خفتم، فالمعنى: وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فلا تتولوهم، وقوله: فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء)) مستأنف مبتدأ.
قلت: وقال الهادي عليه السلام في هذه الآية: إن هذا من التقديم والتأخير، ثم فسر ذلك وبينه في كلام له بسيط رواه عنه ولده المرتضى عليه السلام في الإيضاح.
قال صنوه الإمام الناصر أحمد بن يحي عليهم السلام الفظه: وفي القرآن أكرمك الله الإستعارة والتمثيل والقلب والتقديم، والتأخير والإضمار والحذف والتكرار والإخفاء والإظهار والتعريض والإفصاح والكناية والإيضاح ومخاطبة الواحد بمخاطبة الجميع والجميع بخطاب الواحد، والجميع بخطاب الاثنين وعجائب القرآن لا تحصى، ولا تعرف بحارها، ولا تدرك قرارها، لذا جعله عز وجل حجته البالغة على خلقه، ونوره الزاهر في بريته، وحقه الدامغ لجميع من خالفه، والحمد لله رب العالمين).
ومنه مفهوم الخطاب، وذلك مثل قوله تعالى: ((فَلاَ تَقُل لَّهُمَا)) [الأنعام:23] ففهم من هذا الخطاب أنه لا يجوز للولد أن يفعل بالوالدين ما كان فوق قوله: أف كالضرب والشتم والغضب، وأمثال ذلك، لأنه لم ينه عن العليل إلا وقد نهى عن الكثير.
ومنه المجاز مثل قوله تعالى: ((فِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ)) [التوبه:60] ومثل قوله تعالى: ((وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ)) [الإسراء:24] فسمى ابن السبيل على المجاز، وكذلك جناح الذل وليس ثم جناح على الحقيقة وإنما هو على المجاز.
 
وأما الغامض فهو الذي لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم كما قال عز من قائل: ((وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ)) [آل عمران:7] فأولئك العلماء الصالحون من ورثة الكتاب ومن تبعهم من ذوي الألباب.
 
وأما القصص والعبر والأمثال والمواعظ والأخبار، وأمثال ذلك فظاهر.
قال إمامنا المنصور بالله عليه السلام وقد سئل عن الوجه في كون بعض القصة في موضع من القرآن وتمامها في موضع آخر: إن ذلك جاء كذلك لمصالح يعلمها الله تعالى لتعلق بعض المعاني ببعض القصة في موضع من القرآن، وبعضها بالبعض الآخر، أو اقتضت الحكمة أن يكون كل شيء من ذلك في موضعه، وكذلك تكرار القصص لولا أن تفصيل ذلك يستغرق زمانا وكتبا لبينا لك من بديع الكلام ومعاني القرآن ما تعلم به وجه الحكمة.
وقد أشار بعضهم إلى شيء من ذلك حيث قال: ومن الكتاب العزيز آيات مكررة قصصه وأحكامه ووعده ووعيده، وذلك لاتساع الكلام والإبلاغ والبيان فكرر ما كرر ذلك لفوائد يعرفها اليقضان منها: التأكيد والرسوخ في النفوس، لأنها أنفر شيء عن الوعظ والنصح.
ومنها: تثبيت النبي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم  عند عظيم ما يرد عليه من ذوي الطغيان، فإن لطراوة التنزيل موقعا ليس لما أنزل منه منذ أزمان.
ومنها: أنه يرد المعنى الواحد بعبارات مختلفة كلها فصيحة الألفاظ صحيحة المعاني يدل على تناهيه في الفصاحة واقتدار قائله على التوسع في البلاغة والإفتتان ثم ما كرر من ذلك خفيف على الآذان، وما ذلك إلا أنه كلام المالك الديان، فحمدا له على ما خصنا به، وعلى ما أظهر لنا من فضله وأبان، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله الذي نسخ بدينه جميع الأديان.
 
 
مقدمة في مدح القرآن
وبعد هذا فلنشرع فيما وعدنا بذكره وتقديمه من تفسير أئمتنا عليهم السلام فنقول وبالله نستعين: قال الإمام الأعظم نجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم الغمر طباطبا ابن إسماعيل الديباج الأكبر ابن إبراهيم الغمر ـ أيضا ـ الشبه ابن الحسن الرضا المثنى ابن الحسن السبط ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم وسلامه:
الحمد لله الذي جعل الهدى فيما نزل من كتابه مكملا.
قال الإمام الناصر احمد بن يحي عليهما السلام: قال الحكماء وأهل العلم والمعرفة بمقدار جوامع الكلم: إن هذه الكلمة وحدها تقوم وتغني عن مائة كتاب لصدقها في معناها وكمال ما افترض الله من فرائضه على خلقه في كتابه الكافي عما سواه فله الحمد والمنة على كل حال.
ونزل برحمته للعباد منه تبيانا كريما مفصلا، فيه لمن استغنى به أغنى الغنى، ولمن اجتنى ثمرات هداه أكرم مجتنى، لا يحتوي على جنائه أبدا محتوي، ولا يدوي على شفائه أبدا مدو، نور أعين القلوب المبصرة، وحياة ألباب النفوس المطهرة، إلف كل حكيم، وسكن نفس كل كريم، وقصص الأنباء الصادقة، ونبأ الأمثال المحققة، ويقين شكوك حيرة الارتياب، وخير ما صحب من الأصحاب، سر أسرار الحكمة، ومفتاح كل نجاة ورحمة، قول أرحم الراحمين، وتنزيل من رب العالمين، نزل به الروح الأمين، فأي منزل سبحانه ونازل وتنزيل، لقد جل سبحانه وتنزيله عن كل تمثيل، وطهر وتقدس إذ وليه بنفسه ونزل به روح قدسه عن قذف الشياطين وأكاذيبها، وافتراء مردة الآدميين وألاعيبها، فأحكم عن خطل الوهن والتداحض، وأكرم عن زلل الاختلاف والتناقض، فجل بآياته مترافدا، وبضياء بيناته مشاهدا، غير متكاذب الأخبار ولا متضائق الأنوار، بل ضحيان النور فتحان الأمور متيحان الأنهار بالحياة المنجية، واسع الأعطان والأفنية، ساطع النور والبرهان، جامع الفضل والبيان، فأنواره بضيائه زاهرة، وأسراره لأوليائه ظاهرة، فما أن يوارى عن أهله الذين استودعوا علمه من سرائره سريرة، ولا يدع ما وضع من نوره من مشكله حيرة، بعزائم حكماته المنزلة، ودلائل آياته المفصلة، فسبحان من جاد به طولا، وجعل سببه موصولا، لقد أجل سبحانه المنة به على العباد، ودلهم به تبارك وتعالى على كل رشاد، فجاد لهم منه بما لا تجود به نفس وإن عظم جودها، لقد جاد لهم منه بكنوز لا تبلى، وأعطاهم به عطية لا يجد لها واجد وإن جهد مثلا، فبذل لهم منه كنز الكنوز، ودلهم به على نجاة وفوز، فتح لهم أبواب الجنان وهداهم به سبيل الرضوان، ونبأهم فيه عن نبأ السموات العلى، وما مهد تحتهن من الارضين السفلى، وما فتق من الأجواء بين الأرض والسماء، وعن خلق الملائكة والجن والأنس فقد نبأهم، وعن كل علم كريم قيد به آثارهم، فقص به عليهم أخبار القرون الماضية، وخيرهم فيه بمن أهلك بذنبه من الأمم العاتية، فكل عجيب من الأشياء، أو قصة كريمة من قصص الأنبياء فقد أوصل فيه علمها إليكم، وأورد عجيب بيانها به عليكم، فعلى كتاب ربكم هداكم الله فاقتصروا، وبه فهو ذو العبر فاعتبروا، ففيه نوافع العلم وجوامع الكلم التي يستدل بقليلها عن كثير من تلبيس قال وقيل، ويستشفى من علمها بتفسير أدنى ما فيها من دليل، فسبيل قصده فاسلكوا، وبه ما بقيتم فتمسكوا، فهو ذروة الذرى وبصر مالا يرى، وعروة الله الوثقى، وروح من أرواح الهدى، سماوي أحله الله أرضه، وأحكم به في العباد فرضه فلا يوصل إلى الخيرات أبدا إلا به، ولا يكشف الظلمات إلا بثواقب شهبه، من صحبه صحب سماويا لا يجهل، وهاديا إلى كل خير لا يضل، ومؤنسا لقرنائه لا يمل، وسليما لمن صحبه لا يغل، ونصيحة لمن ناصحه لا يغش، وأنسا لمن وانسه لا يوحش، وحبيبا لمن حابه لا يبغض، ومقبلا على من أقبل عليه لا يعرض، يأمر بالبر والتقوى، وينهى عن المنكر والأسواء، لا يكذب أبدا حديثا، ولا يخذل من أوليائه مستغيثا، إن وعد وعدا أنجزه، أو تعزز به أحد أعزه، لا تهون لأوليائه معه حجة، ولا تبلى له مآقي أبدا بهجة، لا يخلقه كر ولا ترداد، ولا يلم به وهن ولا فساد، ولايعيا به وإن لكن إنسان، ولا يشبه فرقانه فرقان، ومن قبل ما صحب الروح الأمين والملائكة المقربين فكان لهم هاديا ومبينا، وازدادوا من الله يقينا فاتخذوه هاديا ودليلا، واجعلوا سبيله لكم إليه سبيلا حافظوا عليه ولا ترفضوه، واتخذوه حبيبا ولا تبغضوه، فإنه لا يحب أبدا لهم مبغضا، ولا يقبل على من كان عنه معرضا، ولا يهدي إليه من عاداه، ومن تعامى عنه أعماه، لا يبصر ضياءه إلا من تأمله، ولا يعطي هداه إلا أهله، من ضل عنه أضله، يقلد جهله من جهله، إن أدبر عنه أدبر، أو أقبل عليه بصر، جعله الله يتلون في ذلك بألوان، ويتفنن فيه على أفنان، فهو الهادي المضل، وهو المدبر المقبل، وهو المسمع المبصر، وهو المهين المكرم، وهو المعطي المانع، وهو القريب الشاسع، وهو السر المكتوم، وهو العلانية المعلوم، فمرة يعدي إليه من اصطفاه، ومرة يضل من أبى قبول هداه، ومرة يقبل على من أقبل عليه، ومرة يدبر عن من التوى في الهدى عليه، ومرة يسمع من استمع منه، ومرة يصم من أعرض عنه، ومرة يهين الأعداء، ومرة يكرم الأولياء، يعطي من قبل عطاءه، ويمنع من أبى قبول هداه، يقرب لمن ارتضاه، ويشسع عن من سخط قضاءه، يعلن لأوليائه ويظهر، ويكتم عن أعدائه ويستتر، نور هدى على نور، وفرقان بين البر والفجور، أرشد زاجر وآمر، وأعدل مقسط ومقدر، يوقظ بزجره النومى، ويعظ بأمره الحكماء، ويحيي بروحه الموتى، ولا يزيد من مات عنه إلا موتا، يعدل أبدا ولا يجور، وكل أمر فقدر مقدور، ظاهره ضياء وبهجة، وبطنه غور ولجة، لا يملك حسن أنواره ولا تدرك باطن أغواره، فمن ظهر لظاهر مناظره رأى عجائبه في موارده ومصادره، ومن بطن المستنبطة رأى مكنون محاسنه من غرائب علمه وأطائب حكمه، لباب كل لباب، وفصل كل خطاب، وحكمه من حكم رب الأرباب، اكتفى به منه في هدى ملأ أوليائه، واصطفى به من خصه الله سبحانه باصطفائه، فمصابيح الهدى به تزهر واهجة، وسبل التقوى به إلى الله تلوح باهجة، يحتاج إليه ولا يحتاج، سراجه أبدا بنوره وهاج، يعلم ولا يعلم ويقوم ولا يقوم، فهو المهيمن الأمين، والفاصل المبين، والكتاب الكريم، والذكر الحكيم، والرضاء المقنع، والمنادي المستمع، والضياء الأضوى، والحبل الأقوى، والطود الأعلى، الذي يعلو فلا يعلى، لا يؤتى لسورة من سوره بمثل ولا نظير، ولا يوجد فيه اختلاف في خبر ولا حكم ولا تقدير، فصل كل خطاب، وأصل كل صواب، فجعلنا الله وإياكم من أهله وعصمنا وإياكم بحبله، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليما.
وبعد فإنا لما رأينا ما فيه جوامع الهدى واليقين، وكان الهدى واليقين به مقدمة معتصم كل دين، علمنا متيقنين وأيقنا مستبينين أن لن نصيب رشدا ولن ننال مطلوب هدى إلا به، وعن تفسيره، وبما نور الله به القلوب من تنويره، فنظرنا عند ذلك فيه، واستعنا به عليه فوجدناه بمن الله لكل علم من الهدى ينبوعا، ورأينا به كل خير في الهدى مجموعا، فلا خير في الحياة كخيره ، ولا يهتدي لأحكام الله بغيره، من طلب الهدى في غيره لم يجده أبدا، ومن طلبه به وجد فيه أفضل الهدى، فقصدنا قصده، والتمسنا رشده فأي رشد فيه وجدناه، وإلى أي قصد منه قصدناه، تالله ما غابت عنه من الهدى غائبة، ولا خابت لطالب فيه خائبة، لقد كشف ستور الأغطية، وأظهر مكنون سر الأخفية، فأوجد مطلوب ملتمسها، وأبان ملتبس مقتبسها على ما بلي به قديما من تلبيس ملوك الجبابرة وأتباعها، من علوم العوام المجبرة في توجهها له على أهوائها وتصريفه، وتأويلها له بخطابها على تحريفه، حتى عطل فيهم قضاؤه، وبدلت لديهم أسماؤه، فسمت الإساءة إحسانا، والكفر بالله إيمانا، والهدى فيه عندهم ضلالا، وعلماء أهله جهالا، ونور حِكَمِه ظُلَماً، ونور ضيائه عمى، حتى كادت أن تجعل فاؤه ألفا ، وألفه للجهل بالله فاء، تلبيسا على الطالب المرتاد، وضلالا من العامة عن الرشاد، فنعوذ بالله من عماية العمين، والحمد لله رب العالمين.
فلولا ما أيد الله في كتابه وحججه، وأذكى سبحانه من تنوير سرجه، لأباد حججه بتظاهرهم المبطلون، ولأطفأ سرجه الظلمة الذين لا يعقلون، ولكن الله سبحانه أبى له أن يُطْفَا، وجعله سراجا لأوليائه لا يخفى، وفي ذلك ما يقول سبحانه: ((يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)) [البقره:32] ولعلنا ولا قوة إلا بالله العلي الكبير، وبالله نستعين على ما هممنا به لكتابه من التفسير أن نضع مما علمنا الله فيه طرفا، وأن نصف فيه من وجوه الحق وصفا، نبين عنه بما يحضرنا الله فيه من التبيين، ونعتمد فيه على ما نزل الله به من هذا اللسان العربي العزيز المبين، فإن الله جعله مفتاح علمه، ودليل من التمسه على حكمه فلا يفتح أبدا إلا بمفاتيحه، ولا يكشف ظلمه إن عرضت في فهمه إلا بمصابيحه، فعنه بالله فاستمعوا، وبه وفيه انتفعوا.
واعلموا أنا لن نضع من ذلك إلا قليلا وإن أكثرنا، وإنا وإن بلغنا من تفسيره كل مبلغ فلن نمسك عنه إلا وقد قصرنا، وأن لكل تفسير منه تفسيرا، وإن في قليله تفسيرا كثيرا، ولكل باب منه أبواب، وكل سبب فقد تصله الأسباب، إلا أنا سنقول في ذلك بما يحضرنا الله فهمه، وما نسأل الله أن يهبنا في كتابه علمه.
ونبدأ من تفسير كتاب الله بما نرجو أن يكون الله بدأ من تفسير السورة التي أمر نبيه أن يسأله فيها الهدى، وسماها عوام هذه الأمة فاتحة الكتاب والفرقان، وقال بعضهم اسمها أم القرآن، وذلك مما يدل على من يستدل على أنها أول ما نزل لاكما يقول بعض الجهلة العوام بغير ما دليل ولا برهان، وأن أول ما نزل من القرآن: ((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ)) [العلق:2] ألا ترى كيف يقول: اقرأ ما نقرئك باسم ربك الذي نزل عليك، فأخبر جل ثناؤه أن قد نزل عليه قبلها الاسم الذي أمر بقراءته فيها ولها، وأن تقدمه في القراءة عليها ثم يصير بعد القراءة به إليها، ألا ترى أنه لو كان ما قد قرأ هو ما أمر عليه السلام أن يقرأ لكان إنما أمر بفعل تام، وقول قد تقدم فصول، وإنما اسم ربه الذي أمر ان يقرأ به بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم   الذي قدم له في صدر كل سورة عند أول كل تعليم.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليما.
 
قال الإمام القاسم بن إبراهيم عليه السلام:
بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم
((الْحَمْدُ لِلّهِ)) تأويل ((الْحَمْدُ لِلّهِ)) فهو الشكر لله على نعمه وإحسانه، والتحميد لله والثناء عليه، ومن الحمد قيل: محمود وحميد، كما يقال من الجود: جواد ومجيد.
والله لا شريك له: فهو الذي تأله إليه القلوب، ويستغيث به في كل كرباته المكروب، واليه يجأر الخلق كلهم جميعا ويألهون، وإياه سبحانه يعبد البررة الأزكياء ويتألهون، دون كل إله ورب ومعبود، وإياه يحمدون في كل نعمة قبل كل محمود.
وتأويل ((رَبِّ الْعَالَمِينَ)) فهو السيد المليك الذي ليس معه فيما ملك مالك ولا شريك.
وتأويل قوله سبحانه: ((الْعَالَمِينَ)) فيراد الخلق أجمعون، الباقون منهم والفانون، والأولون منهم و الآخرون.
وتأويل ((الرَّحْمنِ)) فهو ذو الغفران والمن والإحسان.
وتأويل ((الرَّحِيمِ)) فهو العفوُّ عن الذنب العظيم، والناهي عن الظلم والفساد لما في ذلك من رحمته للعباد ضعيفهم وقويهم وفاجرهم وبرهم.
وتأويل ((مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ)) فهو مالك أمر يوم الدين، الذي لا ينفذ أمر في ذلك اليوم غير أمره، ولا يمضي فيه حكم غير حكمه، والمَلِكُ: من المُلْكِ، والمالك : من المِِِِلْكِ، وهما يقرآن جميعا، وكلاهما معا فلله، فهو يوم الجزاء والثواب والعقاب، وإنما سمي الدين لما يدان أي يجازى. قال: معنى يوم الدين فهو يوم يدان العاملون أعمالهم، ويجزون يومئذ بهداهم وضلالهم.
 ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ)) فهو: نوحد ونفرد أنت يا معبودنا لا غيرك.
 ((وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) نسأل العون على أمرنا وتوفيقنا لما يرضيك عنا.
 ((اهدِنَــــا)) وفقنا وأرشدنا.
 ((الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ)) والصراط : هو السبيل الذي ليس فيه زيغ ولا ميل قال جرير:
أمير المؤمنين على صراط            إذا اعوج الموارد مستقيم
و((المُستَقِيمَ)) فهو الطريق الواضح الذي افترضه الله إلى الطاعة المعتدل الذي ليس فيه عوج ولا ميل، فهو لا يجور بأهله عن قصده، ومنه قوله تعالى: ((وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ)) [الأعراف:86]. ((صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ)) يقول: طريق الذين أنعمت عليهم من عبادك الصالحين الذين هديتهم ووفقتهم لرشدهم ((غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ)) تأويل ذلك غير المغضوب عليهم منك.
 ((ولا الضَّالِّينَ)) يقول: ولا صراط الضالين بالهوى والعمى عنك، لأنه قد ينعم جل ثناؤه في هذه الدنيا على من يضل عنه ومن لا يقبل ما جاء من الهدى والأمر والنهي، ولمن يغضب جل ثناؤه عليه من الكافرين، يقول: اهدنا صراطا غير صراط الذين غضبت عليهم، والمغضوب عليهم في هذا الموضع فهم اليهود ((ولا الضَّالِّينَ)) يقول: ولا صراط الضالين، والضالون: فهم في هذا الموضع النصارى.اهـ
وروى المرتضى لدين الله عن أبيه الهادي إلى الحق عليهما السلام في تفسيره هذه السورة المباركة مثل هذا بعينه سواء سواء (.
 
ولنذكر من أحكام هذه السورة المباركة ما ذكره إمامنا المنصور بالله القاسم بن محمد رحمة الله عليه في تفسيره في آيات الأحكام باللفظ: فيها ـ يعني سورة الحمد ـ خمس آيات، الأولى: قال الله سبحانه: بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم الباء متعلقة بمحذوف يحتمل أن يكون اقرءوا أيها المؤمنون، أو ابتدءوا قراءة القرآن بسم الله الرحمن الرحيم.
يدل على هذا التفسير قوله تعالى: ((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)) [العلق:1] واسم الرب تبارك وتعالى الله، ومن أسمائه سبحانه الرحمن الرحيم، فإذا احتمل الأمر كما ذكرنا، ولا دلالة على المكلف، قَرَأَ بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم التي وضعها الله فيها.
وسورة الحمد واجبة في كل صلاة واجبة، ولا تنعقد صلاة يحسنها بغيرها كما هو المعلوم من الدين.
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: (كل صلاة لا يجهر فيها بـ بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم  فهي آية اختلسها الشيطان).
والبسملة من القرآن، وذلك معلوم من الدين، وهي آية من كل سورة إلا براءة عند العترة، وعند قالون من قراء المدينة، وعند قراء مكة والكوفة وفقهائها.
والدليل على ذلك إثباتها في المصحف وأخبار صحيحة. اهـ.
واعلم أن الجهر بها واجب في كل صلاة مكتوبة، والدليل عليه مارواه المحققون من علماء الحديث من عموم دليل الجهر بــ بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم .
وروى بعضهم تواتر الجهر بها عن علي بن أبي طالب عليهم السلام.
ولما رواه إمامنا المنصور بالله القاسم بن محمد رحمة  الله عليه عن آل رسول الله صلى الله عليه وعليهم قال عليه السلام: إن الجهر بها واجب في كل المكتوبات لما رواه أهل البيت عليهم السلام من طرق كثيرة منها: مارواه عن جعفر الصادق عن أبيه عن جده عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (كل صلاة لم يجهر فيها بــ بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم فهي آية اختلسها الشيطان الرجيم) وفي الشفاء ([8]) نحوه ولم يفصل.
ومنها: مارواه أيضا عن علي عليه السلام وعمار بن ياسر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم  كان يجهر في المكتوبات. فرويا التعميم في فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومنها: مارواه الهادي عليه السلام في الأحكام عن أبيه عن جده عن أبي بكر بن أويس عن الحسين بن عبد الله بن ضميرة عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا علي من لم يجهر في صلاة بــ بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم فقد أخدج صلاته) ولفظ الصلاة إذا أضيف أفاد العموم إذا لم تقم قرينة على التخصيص، وكذلك حكم كل جنس أو اسم جنس مضاف يشهد بذلك قوله تعالى: ((وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا)) [الإسراء:110] وقوله صلى الله عليه وآله وسلم  الحديث المشهور: (يقول ابن آدم مالي مالي) ألا ترى أن العموم في كلا الصورتين يسبق إلى الفهم من غير قرينة، وذلك من أقوى أدلة الحقيقة، ولا يضرنا خلاف من خالف في ذلك من الأصوليين.
ومنها: مارواه الهادي عليه السلام في الأحكام أيضا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم  أنه قال: (كل صلاة لا يجهر فيها بــ بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم فهي آية اختلسها الشيطان).
هذا غير الأخبار المجملة نحو مارواه عليه السلام عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يزل يجهر بـ بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم حتى قبض.
وروى زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي عليه السلام: أنه كان يجهر بــ بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم) .
وأيضا قال في حاشية الفصول: قال في الأمالي ما لفظه: قال محمد:  أجمع آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم  على الجهر بـ بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم  قال عليه السلام قلت: ولم يخص فريضة من فريضة ، والأصح أن يكون ذلك ردا على من لم يأت بالبسملة مع الفاتحة والسورة، ويكون حكمها أنه يجهر بها في صلاة الليل، ويخافت بها في صلاة النهار، لأن تظاهر الأخبار بلفظ الجهر، ولا يقبل ذلك لا لغة ولا عرفا فلو كان كذلك لروي بغير اللفظ وكان يقول صلى الله عليه وآله وسلم: من لم يأت في صلاته بـ بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم أومن لم يقرأ، وكان يجب أن يروى أنه كان صلى الله عليه وآله وسلم  يأت بــ بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم  أو كان صلى الله عليه وآله وسلم  يقرؤها، وكذلك ما جاء به من حكاية إجماع أهل البيت عليهم السلام).
قلت: وأما قوله: (من قال إنا نخصص أدلة الجهر بالبسملة بالقياس على سائر ألفاظ الفاتحة ففاسد لأن البسملة آية من سورة  الفاتحة خصت حكمها عن حكمها الأخبار الصحيحة، وأوجبت عموم الجهر بها الأدلة الصريحة فلا قياس يصح التخصيص به مع أنه إن يسلم على التنزيل صحة القياس المذكور لم يصح التخصيص به لما تقدم من النصوص، لأنها لم تفصل وذلك لأن دلالة النصوص المتقدمة عامة، وعمومها لفظي، و القياس عام وعمومه معنوي، ودلالة اللفظي أقوى، بدليل أنهم لا يصيرون إلى المعنوي الذي هو القياس إلا عند تعذر اللفظي، وذلك إجماع فتخصيص الأضعف بالأقوى أولى، كيف وقد أكد العموم والإطلاق في تلك الأدلة حتى يزيل ذلك الوهم، وتلك المقالة إزالة لا يكون معها دلالة ولا عليها تخصيصا ولا تقديرا لفظ كل ونحوه حتى قال إمامنا المنصور بالله عليه السلام أنه لا يجوز تخصيصه إلا بالمقارن من لفظ متصل نحو قوله تعالى: ((كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ)) [القصص:88] أو قرينة حالية كما سيأتي ذلك إن شاء الله.
قال عليه السلام: ووجه ذلك أن لفظ كل ونحوه موضوعة لتقرير الشمول، ودفع توهم عدمه، نحو: جاءني القوم كلهم، أوكل القوم، لئلا يتوهم أن بعضهم لم يجيء لكنك لم تعتد به أو أنك جعلت الحكم من بعضهم كالحكم من كلهم بناء على أنهم في حكم شخص واحد لسبب من الأسباب كقوله تعالى: ((فَعَقَرُوهَا)) أي ناقة صالح عليه السلام، وإنما عقرها قدار بن سالف وحده، فنسب إليهم لسبب رضائهم بذلك، أو لتركهم الإنكار والذب عنها، وهم يقدرون على ذلك، وإذا كان الأمر كذلك وأتى بلفظ كل أو نحوها مرادا به البعض دون الكل مجردة عما يدل على ذلك حال إطلاقها بطلت فائدتها وصارت عبثا، ولو في وقت من الأوقات، وذلك لا يجوز على الحكيم لغنائه عن فعله، وقدرته على إزاحته، وعلمه بكونه نقصا، وأما إذا قارن المخصص لم يكن كذلك لأن فائدتها توجه عند ذلك إلى الباقي، ويعلم أنه لا توهم ولا تجوز فيه بخلاف سائر ألفاظ العموم فوقوع التوهم من غير الله وغير رسله فيما عصمهم من التوهم فيه من تبليغ الشرائع كثير، وكذلك التجوز فلم تبطل فائدتها بتأخير التخصيص إلى وقت الحاجة إلى آخر كلامه عليه السلام.
ففي هذا بحمد الله لمن أنصف كفاية لمن له من ربه هداية، فإن الأمر بحمد الله في ذلك واضح وضوح النهار، ولكنه لا يدرك نور الشمس من سلب نور الأبصار فلله القائل:
إذا لم يكن للمرء عين بصيرة           فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر
وكما قال بعضهم:
ومن يك ذا فم مر مريض           يجد مرا به الماء الزلالا
واعلم أن في أحاديث الجهر بالبسملة من طريق أئمتنا عليهم السلام وغيرهم أكثر مما ذكر منها ما قدمنا ، ومنها: ما روى إمامنا المنصور بالله عليه السلام عنهم في الإعتصام عن أمالي أحمد بن عيسى ثلاثة وثلاثين حديثا في الجهر بــبسم الله الرحمن الرحيم .
وفي الجامع الكافي قال: إن أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم  أجمعوا على الجهر بــ بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم  في السورتين، وعلى القنوت في الفجر، فمن زعم أن آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أجمعوا على بدعة فقد أساء القول، وخالف ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم  واعتدى في القول.
قال: وروى محمد بأسانيده عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم  أنه كان يجهر  بــ بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم).
قال: وروي الجهر أيضا عن علي عليه السلام والحسين بن علي وابن عباس وعدد جماعة من أكابر أهل البيت عليهم السلام استغنينا بإجماعهم عن تعداد أفرادهم.
ثم قال في الجامع الكافي: وعن أبي بكر وعمر وعمار بن ياسر، وابن عمر وجابر بن عبد الله، وعبدا لله بن الزبير، وعن أبي عبد الله الجدلي وابن مغفل وسعيد بن جبير وطاووس ومجاهد والزهري وأبي عاصم أنهم كانوا يجهرون بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم.
ثم ذكر عليه السلام بعد هذا أخبار فيها كثرة في الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم قال عقيبها: وهذه الأخبار المتقدمة تدل على وجوب الجهر في جميع الصلوات لأن منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (كل صلاة لا يجهر فيها بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم فهي آية اختلسها الشيطان) ولم يفصل، ولأن لاختصاصها بالذكر والنص عليها بالجهر شأنا، ولولا ذلك ما كان للأخبار المتقدمة فائدة إذ كان يكفي أن يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم من أم القرآن، أومن القرآن فيجهر بها في الجهر ويسر بها في السرية.
والذي يدل على ما ذكرناه ما ذكره جار الله في الكشاف من أن بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم كلمة التقوى.
قال عليه السلام : يدل سياق الآيات لأن سبب نزولها منع المشركين النبي صلى الله عليه وآله وسلم  من دخول المسجد الحرام عام الحديبية فصالحهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم  وأمر عليا أن يكتب بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم فمنعوه من ذلك، ومن أن يكتب محمدا رسول الله، فأنزل الله تعالى سورة الفتح وفيها قوله تعالى: ((هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا)) [الفتح:25] إلى قوله: ((فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا)) [الفتح:26] إلى آخر السورة.
ثم قال عليه السلام: وقد ثبت التخصيص لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (صلاة النهار عجماء)بما ذكرناه. يعني بما ذكر من الأخبار في الجهر بالبسملة.
ويحتمل أن الله سبحانه أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم  أن يجهر بها إرغاما لأنوف الكافرين، وشَدّاً لظهور المؤمنين، لأن المؤمنين رضي الله عنهم كرهوا محوها، والمشركين كرهوا إثباتها كما هو مذكور في سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ثم قال عليه السلام: ولأنه قد وقع الجهر بالتكبير والتسليم فيها أيضا ولم يخرجها عن كونها عجماء، وثبوت الجهر في صلاة الجمعة والعيدين والكسوف، على أن راوي (صلاة النهار عجماء) كان عاملا لإمام الفئة القاتلة لعمار على المدينة.
وقد روي أن رواية الجهر عنه صلى الله عليه وآله وسلم  رواتها فوق عشرين صحابيا، ورواية الإخفاء لم يروها إلا ابن مغفل وهي ضعيفة، وأنس وهي معلة.
ثم قال عليه السلام: وقال سعد الدين التفتازاني في التاريخ مالفظه: أما حديث الجهر بالتسمية فهو عندهم من قبيل المشهور حتى أن أهل المدينة احتجوا على مثل معاوية، ورده على ترك الجهر، وهو مروي عن أبي هريرة وأنس إلا أنه ـ يعني أنسا ـ اضطربت رواياته فيه لسبب أن عليا رضي الله عنه كان يبالغ في الجهر، وحاول معاوية محو آثاره، وبالغوا على الترك فخاف أنس.
وروى الذهبي في تذكرة الحفاظ عن ابن شهاب أنه كان يقول: أول من قرأ بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم بالمدينة سرا عمرو بن سعيد بن العاص.
ثم قال عليه السلام بعد هذا: قلت: شهدت الأصول من الكتاب والسنة بإغاضة الكافرين ومراغمتهم قال الله سبحانه: ((وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ)) [التوبه:120] الآية وقال سبحانه: ((وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيراً وَسَعَةً)) [النساء:100] وما يأتي إنشاء الله من شرعية الرمل في طواف القدوم، والسعي بين الميلين لإغاظة المشركين، وإرغاما لأنوفهم حيث قالوا: ((قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا)) [الفرقان:60] وما تقدم ذكره أنهم كرهوا أن يكتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم  في عام الحديبية في كتاب الصلح بينه صلى الله عليه وآله وسلم  وبينهم بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم فألزم الله المسلمين كلمة التقوى, وكانوا أحق بها وأهلها وهي بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم.
وشرع الله الجهر بها كما قدمنا من الأدلة إغاظة للمشركين، وإرغاما لأنوفهم.  انتهى ما نقلناه من الإعتصام.
يزيد هذا وضوحا ما ذكره الرازي في -تفسير قوله تعالى: بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم فإنه ذكر في الجهر بها في كل صلاة حججا كثيرة، وأخبارا شهيرة إلى قوله في كلام له طويل:
قالت الشيعة: السنة هي الجهر بالتسمية سواء كانت في الصلاة الجهرية أو السرية، وجمهور العلماء يخالفونهم فيه.
ثم قال: في الحجة: الثالث: أن قوله: بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم لاشك أنه ثناء على الله، وذكر له بالتكريم فوجب أن لا يكون الإعلان به إلا مشروعا كقوله تعالى: ((فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا)) [البقره:200] ومعلوم أن الإنسان إذا كان مفتخرا بأبيه غير مستنكف فإنه يعلن ذكره ويبالغ في إظهاره، أما إذا أخفى ذكره أو أسره دل على كونه مستنكفا منه، فإذا كان المفتخر بأبيه يبالغ في الإعلان والإظهار وجب أن يكون إعلان ذكر الله أولى، عملا بقوله تعالى: ((فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا)) قال: ولهذا السبب نقل أن عليا رضي الله عنه كان مذهبه الجهر بـ بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم في جميع الصلوات.
قال: وأقول إن هذه الحجة قوية في نفسي راسخة في عقلي، لا تزول بسبب كلمات المخالفين.
ثم قال: الحجة الرابعة: مارواه الشافعي بإسناده أن معاوية قدم المدينة فصلى لهم، ولم يقرأ بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم ولم يكبر عند الخفض إلى الركوع والسجود، ثم أنه أعاد الصلاة مع التسمية والتكبير.
وقال الشافعي: إن معاوية كان سلطانا عظيم القوة، شديد الشوكة. فلولا أن الأمر بالتسمية كالأمر المتقرر عند كل الصحابة من المهاجرين والأنصار، وإلا لما قدروا على إظهار الإنكار عليه بسب تركه التسمية ثم قال:
الحجة الخامسة: روى البيهقي في السنن الكبرى، عن أبي هريرة قال: كان رسول  الله صلى الله عليه وآله وسلم  يجهر في الصلاة بـ بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم.
ثم إن الشيخ البيهقي روى الجهر عن عمر بن الخطاب، وعن ابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، وأما أن علي بن أبي طالب كان يجهر بالتسمية فقد ثبت بالتواتر، ومن اقتدى في دينه بعلي بن أبي طالب كان على الحق، والدليل عليه : (اللهم أدر الحق مع علي حيث دار). انتهى ما نقلناه من تفسير الرازي.
فإن قال قائل: رويتم عن الشيعة الجهر بـ بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم في جميع الصلوات والتواتر بذلك أنه مذهب أمير المؤمنين علي عليه السلام فإن كان كذلك فلم خفي ذلك وانتشر خلافه؟.
قلنا ولا قوة إلا بالله: الأصل في ذلك ما هو المعلوم عند أهل السير والأخبار أن معاوية لعنه الله لما تغلب صير عداوة أمير المؤمنين علي عليه السلام طريقة وسنة حتى كتب إلى الوالي من جهته أن اقتل من كان على دين علي واضرب عنق حجر بن عدي لأنه لم يتبرأ من علي وأنكر نسبه.
وقد روى العلامة ابن أبي الحديد أن أبا جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السلام قال لبعض أصحابه: يا فلان ما لقينا من ظلم قريش إيانا، وتظاهرهم علينا، وما لقي شيعتنا ومحبونا من الناس، إن رسول الله قبض وقد أخبر أنّا أولى الناس بالناس فتمالت علينا قريش حتى أخرجت الأمر عن معدنه، واحتجت على الأنصار بحقنا وحجتنا، ثم تداولها قريش واحد بعد  واحد. إلى قوله عليه السلام: ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعا يتقربون به إلى أوليائهم وقضاة السوء، وعمال السوء في كل بلدة فحدثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة، ورووا عنا ما لم نقله أو نفعله ليبغضونا إلى الناس، وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد الحسن عليه السلام فقتلت شيعتنا بكل بلدة، وقطعت الأيدي و الأرجل على الظنة، ومن ذكر بحبنا والإنقطاع سجن أو نهب ماله، أو هدمت داره، ثم لم يزل البلاء يشتد ويزداد إلى زمن عبيد الله بن زياد قاتل الحسين، ثم جاء الحجاج فقتلهم كل قتله، وأخذهم بكل ظنة وتهمة، حتى إن الرجل يقال له: زنديق أو كافر أحب إليه من أن يقول: شيعة علي، وحتى صار الرجل الذي يذكر بالخير، ولعله يكون ورعا صدوقا يحدث بأحاديث عظيمة من تفضيل بعض ما قد سلف من الولاة، ولم يخلق الله شيئا منها ولا كانت ولا وقعت، وهو يحسبها أنها حق لكثرة من قد رواها ممن لم يعرف بكذب ولا قلة ورع.
قال ابن أبي الحديد: وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق ألا تجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة، وكتب إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان أن انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب عليا وأهل بيته فامحوه من الديوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه، وشفع ذلك بنسخة أخرى: من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكلوا به، وهدموا داره فلم يكن البلاء أشد ولا أكثر منه بالعراق، ولاسيما بالكوفة حتى إن الرجل من شيعة علي عليه السلام ليأتيه من يثق به فيدخله بيته فيلقي إليه سره، ويخاف من خادمه ومملوكه، ولا يحدثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمن عليه، فظهر حديث كثير موضوع بهتان منتشر، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة، وكان أعظم في ذلك بلية القراء المرآؤون، والمتصنعون الذين يظهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الأحاديث ليحضوا بذلك عند ولاتهم، ويقربوا مجالسهم، ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل، حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديانين الذين لا يستحلون الكذب فنقلوها ورووها، وهم يظنون أنها حق، ولو علموا أنها باطلة لما رووها، ولا تدينوا بها، فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي عليه السلام، فازداد البلاء والفتنة، فلم يبق أحد من هذا القبيل إلا خائف على دمه، أو طريد في الأرض، ثم تفاقم الأمر بعد قتل الحسين بن علي عليه السلام، وولي عبد الملك بن مروان واشتد على الشيعة، وولى عليهم الحجاج بن يوسف، فتقرب إليه أهل النسك والصلاح والدين ببغض علي عليه السلام وموالاة أعدائه إلى آخر كلامه عليه السلام.
وكانوا لا يزالون يلعنون عليا عليه السلام على المنابر، ويدعونه أبا تراب، حتى ولي عمر بن عبد العزيز فمنع من ذلك فقال كثير عزة:
وليت فلــم تشتم عليا ولم تخف
بريـا ولم تتبع سجـية مجــرم
وقلت فصدقت الذي قلت بالذي
فعلت فأضحى راضيا كل مسلم
ورد فدك على أولاد علي، وروي ردها على محمد بن علي الباقر، وهو المعروف بالباقر، وهو الذي جاءه جابر بن عبد الله الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن رسول الله أمرني أن أقرأ عليك السلام وأبوه علي بن الحسين سمي سيد العابدين.
وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم  قال للحسين: (يولد لك غلام يسمى سيد العابدين).
وروي في الخبر (أنه ينادى يوم القيامة: ليقم سيد العابدين فيقوم علي بن الحسين عليه السلام).
واعلم أنها مازالت لعنة أمير المؤمنين، ولعنة أولاده ظاهرة إلى زمن من عمر المذكور، وعلى هذا روي عن كثير عزة أنه قال في ذكر اللعنة:
طبت وطــاب أهلـوك
أهـل بيت النبي والإســلام
لعن الله من يسب عليـــا
وبنيه من ســـوقة وإمـــام
تأمن الطير والوحوش ولا
يأمن أهل النبي عند المقـام
وكان العالم يمنع من إظهار علمه، ولا يجسر على نشره، و المتعلم لا يجسر على الإختلاف إليه.
وروي أن سفيان الثوري دخل على الصادق فقال جعفر الصادق عليه السلام لسفيان: يا أبا عبد الله أنت رجل مطلوب، وللسلطان علينا عيون فاخرج عنا غير مطرود.
وروي أن أصحاب أبي حنيفة كانوا إذا تكلموا في المسائل في مجلس أبي حنيفة وأرادوا أن يحكوا قول علي عليه السلام قالوا: قال الشيح، ولم يفصحوا باسمه خوف السلطان فلما انقضى ملك بني أمية لعنهم الله في سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وصار الملك إلى بني العباس، وقويت عداوتهم أيضا ومعاداتهم لأهل بيت الرسول صلوات الله عليهم، والعلماء منهم فكان الفضلاء يقتلون بضروب من القتل.
قتل علي عليه السلام في الصلاة في شهر رمضان، وسم الحسن عليه السلام على يدي امرأته جعدة بنت الأشعث بن قيس.
وروي عنه عليه السلام أنه دخل الخلاء ثم خرج فقال: قد سقيت السم مرارا، وما سقيت مثل مرتي هذه، ولقد مشت طائفة من كبدي.
وأما الحسين فخبره مشهور، وروي أيضا أنه لما قتل، ورد كتاب عبيد الله بن زياد بأن توطأ الخيل على ظهره ففعل ذلك وحز رأسه، وسيق أهله ونساؤه على الأقتاب إلى دمشق، وصلت بعده زيد بن علي عليهما السلام، وهو أحد الأئمة وقتل ابنه يحي في أيام أبيه والنفس الزكية هو محمد بن عبد الله، وهو أحد الأئمة الزيدية، ثم بعده أخوه إبراهيم بن عبد الله، فكان الفضلاء من أهل البيت والعلماء منهم بين مقتول ومطرود يخفي نفسه ويكتم نفسه.
فكيف ينتشر علمهم عليهم السلام  والحال هذه؟ وكيف يرغب الناس في الإختلاف إليهم والإقتباس منهم.
وروي أن القاسم بن إبراهيم عليهما السلام، وهو أحد أئمة الزيدية كان متواريا أربعين سنة فما زالت هذه حالهم إلى أن ذهبت دولة العباسية بظهور الجيل والديلم، وخفي علمهم وفضلهم عليهم السلام.
وأما غيرهم من الفقهاء فكانوا يلون الولايات العظيمة، فيكون ذلك سببا لظهور علمهم، ولي أبو يوسف القضاء وانتشر علم أبي حنيفة، ثم ولي محمد بن الحسن ([9]) وولي من أصحاب أبي حنيفة الحسن بن زياد وكذلك غيرهم وقد كان الأئمة من العلماء مثل أبي حنيفة والشافعي وغيرهما يميلون إلى أهل البيت عليهم السلام  الميل العظيم، ويرون لهم التعظيم والتقديم إلا أنهم كانوا يخافون السلطان ويخشون سطوته فلم يكن السبب في خفاء علم أهل البيت عليهم السلام  لقلة علمهم، ولقلة الأئمة فيهم، ولكن السبب ما ذكرناه، وهذا ظاهر مكشوف، ومن نظر في الأخبار والسير عرفه ضرورة.
قال الوالد العلامة شيخ العترة شمس الدين احمد بن صلاح الشرفي([10]) رحمة الله عليه في سيرته ما لفظه:
واعلم أن الجهر بـ بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم شعار أهل البيت عليهم السلام جميعا وشيعتهم، والإسرار بها هو شعار أعدائهم.
وكان معاوية يبالغ في نقض شعار أهل البيت عليهم السلام، ويأمر بالإسرار بها في الأقطار، وكان من ملك من أهل البيت عليهم السلام  وشيعتهم رضي الله عنهم يأمر بالجهر بـ بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم .
قلت : ومما يدل على ذلك ما ذكره الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة عليه السلام حيث قال ما لفظه: وقد كان الناس فريقين حربيين وإسلاميين، فأهل الإسلام في طاعة رجل يزعم أنه إمام ، ويصدقه الأكثر، وينقاد له الأقل، ولأهل الحرب دار، ولأهل الإسلام دار، ولم يقع لأحد من أهل البيت عليهم السلام استقرار في جهة إلا القليل منهم الداعيان: أبو محمد الحسن ([11])، وأبو عبد الله([12]) ابنا زيد بن محمد بن إسماعيل بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، فإنه لما تمكن الحسن كتب إلى بعض عماله قد رأينا أن تأخذ أهل عملك بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وما صح عن أمير المؤمنين في أصول الدين وفروعه بإظهار تفضيله على جميع الأمة، وتنهاهم عن القول بالجبر ومكايدة الموحدين القائلين بالعدل والتوحيد، وعن التحكك بالشيعة، وعن الرواية في تفضيل أعداء الله، وأعداء أمير المؤمنين، وتأمرهم بالجهر بـ بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم وبالقنوت في صلاة الفجر، وتكبير خمس على الميت، وترك المسح على الخفين، وبإلحاق حي على خير العمل في الأذان والإقامة، وأن تجعل الإقامة مثنى مثنى، وتحذر من تعدى أمرنا فليس له إلا سفك دمه، وانتهاك محرمه.
ففي هذا ونحوه تنبيه كاف لمن تدبر وعقل ما كان من تغيير كثير من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وتحريف كثير من أحكام الله مع اضطهاد الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر في كل زمان إلا القليل منهم فالله المستعان.
فإن قال قائل: إن أحاديث الجهر بالبسملة في الصلاة لاشك في صحتها، ولكن المراد بها في الصلاة التي لا يجهر فيها بالقراءة.
قلنا: هذا تخصيص يفتقر إلى دلالة، وهي مفقودة، مع أن من قال بذلك إنما هو تأويل المخالف وتفسيره، ولم يتعبد بذلك إذ هو مجرد دعوى تخصيص العموم من غير تخصيص وهو لا يجوز لأنه خروج من العموم بغير حجة فهات الدليل على ذلك إن كان فإنك في محل الإحتجاج الذي لا يقتصر فيه على مجرد الدعوى، وإلا وجب التحكم للنص.
وأما المذهب ما لم يكن عن دليل قاطع فلا يعارض الوجوب، ولا يخصص العموم لأن اللفظ عام والعلة الموجبة لهذا ا لحكم عامة فالتخصيص حينئذ تحكم محض.
قال الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة عليه السلام: لأن العموم دلالة يعمل بها وإخراجه من الإستدلال بظاهره لغير وجه يقتضي خروجه عن كونه دليلا لا يجوز.أهـ.
ولما كان لفظ الصلاة هاهنا عاما، ولا دليل يوجب التخصيص وجب اجراؤه على عمومه، لأن لفظ الصلاة إذا أضيف أفاد العموم إذا لم تقم قرينة كما مر يشهد بذلك قوله تعالى: ((وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا)) [الإسراء:110] فقوله : ((وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ)) جنس مضاف، والجنس المضاف عند  الأصوليين عام، والعام من الكتاب والسنة يجب التمسك به حتى يعلم مخصصه.
وأما حديث (صلاة النهار عجماء) إن صح فقد ثبت تخصيصه كما مر، هب أنا سلمنا صحته على التنزل فإن قوله: (صلاة النهار عجماء) عام في البسملة وغيرها وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (كل صلاة لا يجهر فيها بـبسم الله الرحمن الرحيم فهي خداج) خاص فيه، عام في كل صلاة.
ولذلك نظائر من أمثلته عند أهل المذهب: (إنما تغسل ثوبك من البول) إلى قوله: (سافح) فهذا عام في كل خارج قيئا كان أو غيره، وقوله: (أودسعة تملأ الفم) خاص، الخارج منه عام لأنواع القيء دما كان أو غيره فرجحوا إيثار عموم الخصوص، وأنه لا ينقض ولا ينجس من الدم إذا كان قيئا إلا ما كان ملء الفم فكذلك مسألة الجهر بالبسملة سواء.
قال إمامنا المنصور بالله عليه السلام: وذلك أن لفظ عجماء عام في جميع الأذكار، وقد عارضه التعميم بالجهر بالبسملة، وهو  أخص بالمقصود، لأنه نص في البسملة، وهذا مما لا يختلف المحققون من الأصوليين في ترجيحه وإيثار التخصيص به.
والوجه في ذلك أنه لو لم يؤثر التخصيص به لكان إبطالا للفظه، وإهمالا لمعناه بلا دليل ولا مرجح، وذلك لا يجوز، لأنه خطاب حكيم لا يجوز إهماله.
وأيضا لفظ العام الأخص بالمقصود يجري مجرى المبين، والعام الغير الأخص يجري مجرى المجمل، ومن الواجب بناء المجمل على المبين فيكون جمعا بين الدليلين.
فإن قال: إن الإسرار بالبسملة في العجماوين قد صار إجماعا من المتأخرين كما قال بعضهم، لأنه لم يرو عن أحد منهم الجهر بها فيهما فلم لا يكون ذلك تخصيصا لما ورد من عمومات تلك الأحاديث؟.
قلنا ولا قوة إلا بالله: إن هذه شبهة لا حقيقة لها، وإن كانت مرتسمة في الأذهان وواقعة عند أهل الزمان، ونكتفي في إزالة هذه الشبهة وبيان بطلانها بما قد أجاب به عما ذكرت بعينه إمامنا  المنصور بالله رحمة  الله عليه فإنه قد أشبع الفصل في الجواب، وأذهب من هذه الشبهة كل شك وارتياب بما لاشيء أبلغ منه من الأدلة الواضحة والبراهين اللائحة، فشفى بحمد الله الغليل بواضح الدليل حيث قال: إن ذلك لم يكن إجماعا فيصح التخصيص به، أما أولا: فقال بجواز الجهر فيهما زيد بن علي، وأحمد بن عيسى ([13]) والناصر، وأبو عبد الله الداعي ([14]) والمؤيد بالله ([15]) والمنصور بالله فإن الجهر والإسرار عند هؤلاء هيئة.
قلت: إلا في بـ بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم فإن الجهر بها وحدها عند المؤيد بالله عليه السلام واجب ذكر ذلك في الإجادة في الجمع بين الزيادات والإفادة.
قال عليه السلام: وفي الشفا ما معناه: أن ذلك مذهب سائر العترة ماخلا القاسم والهادي وأسباطهما الأوائل عليهم السلام  جميعا، وذلك يتناول البسملة وغيرها، وإذا كان كذلك لم يكن ذلك إجماعا، أعني الذي ذكرتموه لتصريح هؤلاء بالجواز، ومع ذلك إذا عمل بما قلته عامل أمن من مخالفة الإجماع قطعا واحتاط لدينه بالعمل بما اقتضته النصوص.
وأما ثانيا : فإن إجماع المتأخرين على ذلك لأنهم لم يحيطوا بجميع الأقوال. ثم قرر عليه السلام هذا الإستدلال وبينه إلى قوله: فإذا كان الأمر كذلك فما ظنك بمن لم يشتهر له كتاب من معاصريهم، وممن جاء بعدهم، لأنه ليس كل مجتهد بمصيب، وما ظنك بأهل الديار البارحة في أقطار الأرض، وفي هذا بحمد الله كفاية كافية في عدم ثبوت ذلك فيكف يصح  التخصيص بما لم يثبت.
وأيضا : قد صح لنا عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه في الشفاء وغيره أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (كل صلاة لم يجهر فيها بـ بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم فهي آية اختلسها الشيطان) فذلك يفيد التعميم بضرورة الوضع لأن لفظ كل ونحوه للشمول لغة بلا شبهة، ولم يرو عنه ولاعن فاطمة والحسن والحسين عليهم السلام  جميعا خلاف ما أفاده ذلك اللفظ كذلك على التحقيق من قول ولا فعل، وهم صدر العترة وإجماعهم متيقن لكونهم عليهم السلام  يجتمعون على الفرض، ويأويهم المنزل حتى قال المؤيد بالله والمنصور بالله، والأمير الحسين والإمام يحي عليهم السلام  جميعا: إن إجماع العترة لم يقع إلا منهم فقط أعني الأربعة عليهم السلام، وإذا كان كذلك علمنا عدم وقوع الإجماع من متأخري العترة على عدم الجهر بالبسملة إلا في العجماوين، لأنه إن وقع أدى إلى إحدى باطلين، وذلك إما أن يكون نسخا للإجماع الأول وهو باطل، لأن النسخ لا يقع إلا بالوحي بلا شبهة، وقد ارتفع.
وإما أن يكون أحد الإجماعين حقا وما يقابله باطلا، وذلك باطل أيضا، لأن الأدلة القطعية نحو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إني تارك فيكم) الخبر يقضي أن لا يقع، وأيضا: إن لفظ كل ونحوه له حكم مختص من بين سائر ألفاظ العموم، وذلك أنه لا يجوز تخصيصه إلا بالمقارن من لفظ متصل نحو قوله تعالى: ((كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ)) أو قرينة حالية كقضية العقل المبتوتة القاضية بخروج السماء والأرض من شمول قوله تعالى: ((تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ))، وخروج ذاته تعالى وأفعال الخلق من شمول قوله تعالى: ((إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)) [القمر:49] في قراءة النصب.
وقد ذكر في الفصول ما يقرب من هذا المعنى، ثم بين عليه السلام الوجه أن لفظ كل كذلك في كلام طويل إلى قوله: وإذا كان الأمر كذلك وقلنا بثبوت ذلك الإجماع أدى إلى أحد ثلاثة أمور كلها باطلة لا محالة، وذلك لم يخل إما أن يكون هذا الإجماع ناسخا لبعض ما تناوله ذلك العام، أو أن العام لم ينسخ شئ من معناه، وإنما هذا الإجماع باطل، لأنه وقع على خلاف حق ثابت لم ينسخ، أو أن الإجماع حق، وأن لفظة (كل صلاة) لم تثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الأول باطل، إن النسخ لا يقع إلا بالوحي، وقد ارتفع الوحي، والثاني باطل أيضا لعصمتهم من الإجتماع على الباطل بالأدلة القطعية، والثالث باطل أيضا، لأن قوله صلى الله عليه وآله وسلم  :(كل صلاة لم يجهر فيها بـ بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم فهي آية اختلسها الشيطان) قد صح لنا عن آبائنا من شيوخ العترة وأئمتهم عليهم السلام  جميعا، وما أدى إلى الباطل كان باطلا وشاهدا لضده بالصحة، وأنه حق بلا مرية والله أعلم وأحكم.أهـ.
ففي هذا بحمد الله لمن تأمله بعين الإنصاف مايشفي غليل الصدور، ويوضح ملتبسات الأمور، ولكن لمن لم يُعْمه إلف ما قد ألفه من العادة التي لها سلطان قوي، فإنا قد رأينا كثيرا ممن قد ألف شيئا ووافقه لم يكد أبدا أن يفارقه، فالإشتغال بإيراد واضح الأدلة عليه عناء، والرجاء لاستضائه بنوره منى، ونحن إنما وضعنا ما وضعنا منها إثباتا لحجة وإزالة للمعذرة ((لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ)) [الأنفال:42].
ونحن لما صح ذلك من طرائق أئمتنا عن علي عليهم السلام  جميعا، نِعمَ المتبوع صلوات الله عليه اتبعناه فنحن بحمد الله لا نستوحش من كلامات المخالفين سلوك طريق أمير المؤمنين وسيد الوصيين علي بن أبي طالب عليه صلوات رب العالمين، الذي قوله حجة، وفعله بيان للحق كما قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (علي مع الحق والقرآن ، والحق والقرآن مع علي) ([16]) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : (إذا اختلفتم في شيء فكونوا مع علي بن أبي طالب) عليه السلام وغير ذلك مما لا يحصى كثرة.
وقال إمامنا المنصور بالله عليه السلام عقيب هذه المسألة بعينها ما لفظه: وأما ما روي في كتب العامة مما ينقض رواية  أهل البيت عليهم السلام فإنهم قد رووا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  لما حضرته الوفاة قال: (ائتوني بالكتف والدواة أو اللوح والدواة أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده) فقالوا: إن رسول الله يهجر وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قد غلب عليه الوجع، وقالوا: حسبنا كتاب الله. وفي رواية ما معناه أنه كثر الكلام وارتفعت الأصوات فبعضهم يقول: لابد أن يكتب، وبعضهم يقول: لا، حتى أتعبوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فحوّل وجهه مغضبا وقال: (اخرجوا عني).
ورووا أحاديث كثيرة بطرق لهم شتى وألفاظ مختلفة في البخاري ومسلم وغيرهما في أنه لابد أن يطرد عن الحوض طائفة من أصحابه صلى الله عليه وآله وسلم، ويقال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك.
وفي بعض الروايات عن أبي هريرة أنه قال: (حتى أرى أنه لا يسلم إلا مثل همل النعم.
ورووا عن بعض أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا أبريء من النفاق إلا عمر) وجميع ذلك الذي يروى يقضي ببطلان روايات العامة إلا ما وقع الإجماع عليه أو وافق كتاب الله، والوجه في ذلك أنه لا يخلو إما أن يكونوا صادقين فيما رووا في الصحابة من ذلك أو كاذبين، إن كانوا صادقين فقد رووا عن المنافقين والمحدثين بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  كما في حديث الكتف والدواة، والله يقول: ((وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْر َسَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا)) [النساء:115] وكفى بذلك جرحا، وإن كانوا كاذبين فقد لزمتهم التهمة في جميع ما رووا إلا ما وقع الإجماع عليه، ووافق الكتاب ولا محيص لهم عن ذلك ولا مدفع إلا بالمكابرة الشاهدة بباطلهم، وقد وقع الإجماع على كثير مما روي في أهل البيت عليهم السلام  مما يقضي بعدالتهم ورجوع الناس إلى روايتهم.أهـ.
 
عدنا إلى ما ذكره إمامنا عليه السلام من تفسير آيات الأحكام من هذه السورة المباركة فقال عليه السلام:
الآية الثانية: ((الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) هذه اللام للملك والإختصاص.
دلت الآية الكريمة على أن جميع المحامد التي تليق بذي العزة والجبروت لله خاصة فلا يجوز إطلاق شيء مما كان كذلك من المحامد على غير الله سبحانه إلا ما خصه دليل.
وتدل على أن جميع ما تضمن مدحا من الأسماء فإنه لله سبحانه ولا يقصر على مارواه أبو هريرة من الأسماء الحسنى.
الثالثة : ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) دلت على أن عبادة الله وطلب الإستعانة من أخلاق المؤمنين، وأن الواجب على عباد  الله الملازمة لهما.
الرابعة: ((اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ(6)صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ)) دلت على وجوب الدعاء إلى الله سبحانه، وطلب الهداية منه إلى طريق الحق التي هي طريق الذين أنعم الله بأن هداهم إليها، وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض).
الخامسة : ((غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ)) دلت هذه الآية الكريمة على تحريم الإقتداء بالمغضوب عليهم، وهم كل من لم يؤمن، وكذلك كل ضال، وهم الذين وصفهم الله بقوله سبحانه: ((قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالا)) [الكهف:103] الآية.
 
عدنا إلى ما نحن بصدده من تفسير الإمام القاسم بن إبراهيم من رواية ولده محمد بن القاسم عنه عليهم السلام جميعا.
 
بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم
قوله عز وجل: ((قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس)) قال القاسم بن إبراهيم صلوات الله عليه: هذا أمر من الله لنبيه أن يتعوذوا وأن يقولوا هذا القول، ومعناه: أستجير وألوذ برب الناس، فالرب: هو السيد المليك مالكهم وفاطرهم، والقادر عليهم والرازق لهم ((مَلِكِ النَّاسِ)) الملك: فهو الذي ليس في ملكه شريك [معارض]  ((إِلَهِ النَّاسِ)) والإله: فهو الذي تأله إليه ضمائر القلوب، وهو الرب الذي ليس بصنيع ولا مربوب.
وتأويل ((مِن شَرِّ)) فهو من كل مفسد مضر. وتأويل ((الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ)) فهو ما وسوس في الصدور  ((مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ)) والموسوس فقد يوسوس بحضوره في الصدور ويخنس، وقد تكون الوسوسة من الموسوس في الصدور ما يكون فيه من الذكر والخطر، وخنوس الوسواس: مفارقته وغيبته عن الصدور، ووسوسته فما ذكرنا من الخطر والحضور وما ذكر الله عز وجل في ذلك من الوسواس فقد يكون كما قال الله سبحانه: ((مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ)) والناس: فهم الآدميون فأمر الله نبيه أن يتعوذ من شر شياطين الجن والأنس، فهم المغوون المردة الملاعين من جني وإنسي.
وفي ذلك ما يقول الله سبحانه: ((شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ)) [الأنعام:106] وشياطين الإنس أقوى على الإنسان وأشد عليه من شياطين الجن.
وتأويل ((الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ)) فهو الشيطان الخانس فهو يخنس عن أعين الناس فلا يرونه، ومعنى يخنس: فهو يعني فلا يُرى، فهو الشيطان عليه لعنة الله يوسوس بحضوره في الصدور من الذكر والخطرة بالوسوسة والإغواء والفسق والردى حتى يدخل بحب المعاصي في الصدور، وقد تكون الوسوسة من الفريقين بالمشاهدة والمحاضرة، وقد تكون منهما الوسوسة بالذكر والخطرات الخاطرة، وأي ذلك كان في الصدور بخاطرة تخطر، أو حضور فهي وسوسة كما قال سبحانه من شيطان أو إنسان بما يجول منهما في الصدور والجنان قال الشاعر:
وكم أخطر في بال           ولاأخطر في بالي
 
بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم
تأويل ((قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)) [الفلق:1] أعوذ: هو أستجير، وتأويل الرب: فهو السيد المليك الكبير، وتأويل الفلق: فهو الفجر إذا انفلق، كذلك يقول الناس: انفلق الفجر وبدا إذا تبين وظهر وأضاء، وفي ذلك وبيانه أشعار كثيرة لا تحصى لشعراء الجاهلية الأولى،  ((مِن شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ)) فأمر الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم  أن يستعيذ به من شر خلقه في النهار كله، وأن يستعيذ به من شر جميع خلقه في ليله، ولا يكون شرا إلا في ليل أو نهار وإلا بعد غسق أو انفجار، والفلق: فأول الفجر وفلوقه قال لبيد:
الفارج الهم مسودا عساكره            كما يفرج جنح الظلمة الفلق
والغسق: فأول الليل، وغسوقه: ظلمته كما قال ابن عباس: غسق الليل أول الليل وظهوره وظلمته، فقد أتى على ذلك كله استجارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  واستعاذته، وغسق الليل ووقوبه: فهو وجوبه.
وأمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم  مع استعاذته به من شر الليل والنهار أن يستعيذ به لا شريك له من شر السواحر والسحار، والسواحر: هن النفاثات في العقد [وأمره أن يستعيذ به من شر الحاسد عند الحسد إذا حسد] والنفث: هو التفل على العقدة إذا عقدت، والعُقُدُ: فهي جمع عقدة يعقدها الساحر في خيط وسواء كان العقد كبير أو غير كبير، وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالإستعاذة من شر الحاسد عند حسده [من مباينته بحسده] وتأويل ((إذا)) هاهنا: عند، وسواء قيل عند أو: إذا، معنى هذا فهو معنى هذا [معناه وشر الحاسد ما يكون من ضره ومكره وعداوته وكيده وغير ذلك] وليعلم إن شاء الله من قرأ تفسير هذه السور الثلاث وما بعدها من التفسير أن كل ما فسرنا من ذلك كله فقليل من كثير، وأن كل سبب من كلمات الله فيه فموصول بأسباب عند من خصه الله بعلمها من أولي النهى والألباب، لاينتهى فيه إلى استقصائه، ولا يوقف منه على إحصائه، كما قال سبحانه: ((قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي)) [الكهف:109] فكلام الله جلَّ ثناؤه في الحكمة والتبيين والهدى فما لا يدرك له أحد غير الله منتهى ولا مدى، وكلام غير الله في الحكمة وإن كثر وطال، وتكلم فيه قائله بما شاء من الحكمة فأقصر أو أطال فقد يدرك غيره من الخلق غايته ومنتهاه، وكل وجه من وجوه كلامه فلا يفتح وجها سواه، لأن علمه ينفد وكله يحصى ويعد، وكلمات الله سبحانه كما قال الله سبحانه لا تنفد بإحصاء ، ولا يؤتى على ما فيها من خفايا العلم باستقصاء، وقليل علمها فكاف بمن الله كثيرا، وكلها فضياء ونور وهدى وتبصير.
 
بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم
 ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)) الأحد: هو الواحد عزة، وقوله سبحانه: ((اللَّهُ الصَّمَدُ)) الصمد: هو النهاية والمعتمد الذي ليس وراءه مصمود، ولا سواه إله معبود ((لَمْ يَلِدْ)) تبارك وتعالى ولدا فيكون لولده أصلا ومحتدا  ((وَلَمْ يُولَدْ)) فيكون حدثا مولودا، أويكون والده قبله شيئا موجودا ((وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ)) والكفؤ: فهو المثل والنظير، والأحد: فهو ما قد تقدم فيه منّا البيان والتفسير، فهو الله الأحد الواحد الذي ليس كالآحاد فيكون له ند في وحدانيته من الأنداد، وأنه هو الأحد الصمد والنهاية في الخيرات والمعتمد، الذي { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)) ((يعلم ما في السموات والأرض وهو العليم الخبير)).                                                     
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                             
 
بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم
((تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)) أبو لهب: هو عبدا لعزى بن عبد المطلب، وتأويل ((تَبَّتْ)) فهو خابت وخسرت فيما رجت وقدرت، واليدان: فهما اليدان المعروفتان، وهما مثل قد كان يضرب به لمن خاب وخسر فيما يطلب ((وَتَبَّ)) يعني أبا لهب كله فيما عليه من أمره وماله.
 ((مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ)) تأويله: ما أجزأ عنه ماله وكسبه إذا هلك عند الله سبحانه وعطب بضلاله وسيء أعماله.
((سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ)) وذات اللهب من النيران: فهي ذات التوقد الشديد والإستعار ((وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ)) تأويله: فقد تبت امرأته معه تَبَابَه في الهلكة والعطب، وتأويل ((حَمَّالَةَ الْحَطَبِ)) فقد يكون حملها للنمائم والكذب الذي كانت تكذبه على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وتأتي به زوجها وتنقله إليه، وتنقله إلى غيره ممن كان من الكفر في مثل ما هي، وما هو فيه لتفسد بكذبها وتغري، وتكثر نمائمها وتسري على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله كما يكثر ويسري الكذوب النمام ((فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ)) جيدها: فهو عنقها، والجيداء من النساء: فهي التي قد تم في طول العنق خلقها.
وتأويل ((حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ)) فهو الحبل الوثيق المحصد، وقد يكون حبل من قِدّ، والقدُّ: فقد يكون من جلود الإبل، وهو أوثق ما يكون من الأحبال، وهو مثل يضرب لمن يحمل كذبا أو زورا يلقي به بين الناس عداوة وشرورا، وقد قال بعض من فسر فيما ذكرنا من أمر أبي لهب وأمرِها: أن تفسير حملها للحطب إنما كانت تحمل الشوك فتطرحه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  في ممره ومسلكه، وقالوا: إن ((حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ)) هو حبل من ليف.
 
بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم
 ((إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا)) تأويل جاء: هو أتى، وتأويل النصر: هو ما يفعل من الظهور والقهر والفتح من الله فهو حكم الله بالإمضاء فيما حكم به وأوجبه من الجزاء لمن أحسن بإحسانه، ومن عصى بعصيانه، وهو الذي طلب شعيب عليه السلام ومن آمن معه من الله فقالوا: ((رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ)) [الأعراف:89] يريدون احكم بيننا وبينهم بالحق يا خير الحاكمين فاجزهم جزاءهم وعجل إخزاءهم.
وتأويل ((وَرَأَيْتَ النَّاسَ)) فهو رؤيتهم يدخلون فيما جئت به من الملة والدين، والأفواج من الناس: فهو ما يرى من الجماعات التي تأتي من القبائل والنواحي المختلفات، شبيه بما كان يفد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  من وفود القبائل والبلدان من عقيل وتميم وأهل البحرين وعمان، ومن كل الأمم فقد كان وفد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  وقدم وآمن بالله [جل ثناؤه] وبرسوله وأسلم.
((فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ)) تأويل فسبح: فاخشع واشكر لله حامدا له فيما يرى بعينه من إظهار الله له ولدينه، وصدق وعده في إظهاره على من ناواه، وما أراه من ذلك بنصره له بكل من والاه في أيام حياته، وقبل حمام وفاته، وتأويل ((وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا)) فأمره بالإستغفار إذ تم ما وعده الله من الإظهار، وتأويل التواب: فهو العوَّاد بالرحمة وبالنعمة منه بعد النعمة، وقد ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  لما أنزلت  ((إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ)) إليه وأُمر فيها بالإستغفار، ورأى ما رأى من الإظهار قال عليه السلام: (نعيت إليَّ نفسي وأخبرت بعلامات موتي) فصدق في ذلك كله نصر الله والفتح من الله: الخبر حين أتاه من الله الفتح والنصر فتوفي صلى الله عليه وآله وسلم  ظاهرا منصورا، وقبضه إليه بعد أن جعل ذنبه كله له عنده مغفورا، وفي ذلك ما يقول الله سبحانه فيه صلوات الله عليه وآله: ((إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا(1)لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا(2)وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا)) فنحمد  الله على ما خصه في ذلك من نعمائه، ونسأل الله أن يزيده في الدنيا والآخرة من كراماته.
 
بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم
((قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ(1)لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ(2)وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ(3)وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ(4)وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ(6)))
فهو أمر من الله جلَّ جلاَلُهُ  ثناؤه لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم  أن يقول لمن كفر بربه ولم يوقن بما أيقن من توحيد الله به: لست أيها الكافرون بعابد ما تعبدون مع الله، ولستم عابدين من التوحيد بما أنا به عابد لله، وما أنا على حال بعابد لما تعبدون من الأصنام، ولا أنتم بعابدين لله بالتوحيد والإسلام، وكذلك من الله الأمر فيمن أشرك بالله ما كانت الدنيا وإلى يوم التناد، فليس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  بعابد لغير الله، ولاهم بالتوحيد لله بعابدين، والصدق -محمدا الله- ذي المن والطول في ما أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أن يقول به من القول لا مرية في ذلك ولا شبهة، ولا يختلف فيه بمن الله وجهه، ولذلك وكد فيه من القول ما أكد، وردد فيه من التنزيل ما ورد.
 
بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم
((إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ)) تأويله: آتيناك، وآتيناك: وهبناك الكوثر، والكوثر: فهو العطاء الأكبر، وإنما قيل: كوثر من الكثرة كما يقال: غفران من المغفرة، فعرف الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم  وغيره من عباده بما من به عليه من نعمته، ومنّه وإرشاده التي أقلها برحمة الله كثير، وأصغرها بمن الله كبير لا يظفر به إلا بمن الله، ولا يصاب أبدا إلا بالله.
وتأويل ((فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر(2)إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)) فأمر منه سبحانه لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم  بأن يصلي صلاته كلها لربه، وربه فهو الله تبارك وتعالى، الذي أنعم عليه من النعم والكرامة بما أنعم به؛ لأنه قد يصلي كثير من المصلين لغير الله مما يعبدون، ويصلي أيضا بعض أهل الملة بالرياء وإن كانوا يقرون ويوحدون، وأمره سبحانه إذا نحر شيئا من النحائر قربانا لربه ألا ينحره عند نحره له إلا لله وحده ربه، لأنه قد كان ينحر أهل الجاهلية للأصنام والأوثان، ويشركون في نحائرهم بينها وبين الرحمن، ويذكرون أسماء آلهتهم عند نحرها، ويذكرون الله جلَّ ثناؤه عند ذكرها، وفي ذلك ما يقول الله سبحانه: ((وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَراسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ)) يعني اسمه خالصا، وما لم يكن له جلَّ ثَنَاؤُهُ من النحائر والذبائح خالصا.
وأخبر سبحانه رسول الله صلَّى الله علَيهِ وآلِه وسلَّم أن من شنأه فأبغضه من البشر فهو مخذول ذليل أبتر ليس له عِزٌّ مع بغضه له وشنآنه [ولا منتظر إكراما من الله جل ثناؤه لرسوله صلَّى الله علَيهِ وعلى آله وإخزاء لمن شنئه] وأبغضه ولم يؤد إلى الله في محبته فرضه، فنحمد الله على ما خص به رسوله من كراماته، وأوجب على العباد من محبته وولايته، وقد قيل: إن الكوثر نهر في الجنة خص الله رسوله به وجعله جلَّ ثَنَاؤُهُ في الجنة له، وقالوا: إن شانئه الأبتر المذكور في هذه الآية قصره هو عمرو بن العاص السهمي خاصة وتأويل ذلك إن شاء الله وتفسيره هو كل من شنأه عمرو كان أو غيره.
 
بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم
((أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ(5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7))).
قال عليه السلام: تأويل ((أَرَأَيْتَ)): هو تعريف وتبيين من الله وتوقيف لرسول الله صلَّى الله علَيهِ وآلِه وسلَّم  ولمن آمن بما أنزل من الوحي والكتاب إليه لا رؤية مشاهدة وعيان، ولكن رؤية علم وإيقان، كما يقول القائل لمن يريد أن يعرفه شيئا إذا لم ذلك الشيء له ظاهرا جليا: أرأيت كذا وكذا يعلم علمه يريد بـ أرأيت توقيفه على أن يعرفه ويعلمه على حدود ما فهمه منه وأعلمه، فأعلم الله سبحانه رسوله صلَّى الله علَيهِ وآلِه وسلَّم  ومن نزل عليه معه وبعده هذا البيان، أن الذي يكذب بيوم الدين من الناس أجمعين، ويوم الدين: فهو يوم يجزي الله جلَّ ثَنَاؤُهُ  العاملين بما كان من أعمالهم في هداهم وضلالهم، وهو يوم البعث حين يدان كل امرء بذنبه، ويرى المحسن والمسيء جزاء العامل منهما يومئذ بعينه، وتكذيب المكذب بيوم الدين: فهو ارتيابه وإنكاره فيه لليقين، وذلك ومن كان كذلك فهو الذي يدع اليتم، ولا يحض على طعام المسكين، لارتيابه فيه وتكذيبه ولقلة يقينه به.
دَعُّ اليتيم، ودَعُّه له: هو دفعه عن حقه ومنعه، وتكذيب المكذب بالدين، ولم يحض غيره على إطعام المسكين، وفيه وفي أمثاله ما يقول الرحمن الرحيم: ((وَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ)) يعني من غير أبرار المتقين، وهم الفجرة الظلمة المنافقون، ((الَّذِينَ هُمْ)) كما قال الله سبحانه: ((عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ)) والساهون: فهم الذين عن صلاتهم ووقتها لاهون، ليس لهم عليها إقبال، ولا لهم بحدود تأديتها اشتغال، فنفوسهم عن ذكر الله بها ساهية، وقلوبهم بغير ذكر الله فيها لاهية ((الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ)) وهم المراؤن الذي ترى منهم عيانا الصلاة، وقلوبهم بالسهو والغفلة عن ذكر الله مملاة.
((وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ)) وهو ما جعل الله فيه العون من المرافق كلها التي يجب العون فيها لأهلها من غير مفروض واجب الزكوات، وما ليس فيه كثير مؤنة من المعونات، مثل نار تقتبس أو رحى أو دلو يلتمس، وليس في بذله إضرار بأهله، وكل ذلك وما أشبهه فماعون يتعاون به ويتباذله بينهم المؤمنون، ومانعوه بمنعه له من طالبه فمانعون، وهم كلهم بمنعه لغيرهم فذامون، وما ذكر الله سبحانه من قوله: ((فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ)) فقول لمن كان قبله من ذكره بمنع الماعون موصول في الذم والتقبيح وما يعرف في التقبيح فصغيره صغيرة، وكبيره كبيرة، وكله عند الله فمسخوط غير رضى، وخلق دني من أهله غير زكي، تجب مباينته ولا تحل مقارنته، إلا لعذر فيه بين، وأمر فيه نير والحمد لله مقبح القبائح، والمنان على جميع خلقه بالنصائح الذي أمر بالبيان والإحسان، ونهى عن التظالم والعدوان.
 
بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم
((لإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ)) المعنى: هو الفهم وإيلافهم، فقريش من أنفسهم وحليفهم، ومن جاورهم في الحرم ولفيفهم، فكل من كان يسكن في الحرم في مسكنهم، ويأمن بمكانه معهم في الحرم بأمنهم، ويرحل معهم إذا أراد أمنا الرحلتين، وينتقل معهم الطعام والإدام معهم في السنة نقلتين لا يعرض لهم أحد من العرب بقطع في الطريق، وليسوا في شيء مما فيه غيرهم من الخوف والضيق، والعرب كلهم خائفون جياع، وهم كلهم آمنون شباع، لحرمة البيت عند العرب وتعظيمه وإجلاله، ولإكبارهم القطع على سكان الحرم، ونُزَّاله، فذكرهم في ذلك تبارك وتعالى بنعمته، وبما من به تعالى من بركة الحرم وحرمته.
وفي ذلك وذكره وما ذكرنا من أمره ما يقول الله سبحانه: ((أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)) وفيه ما يقول الله سبحانه : ((أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُون)).
وتأويل ((فَلْيَعْبُدُوا)) هو فليوحدوا، ومعنى فليوحدوا: فهو ليخلصوا، ومعنى ليخلصوا: فهو ليفردوا بعبادتهم.
وليخصوا ((رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ (4))) الذي بمكانهم منه، وبما كان من مجاورتهم له أطعموا من جوع، وأُومنوا من خوف، فلم يجوعوا جوع الجائعين، ولم يخافوا خوف الخائفين، فكلهم يعلم ويقول: إن البيت بيت الله ذي الجلال والإكرام، لا بيت ما عبدوا دونه من الملائكة والأصنام، وأن الله سبحانه هو الذي حرم الحرم، وجعل له تبارك وتعالى الجلالة والكرم، لا الملائكة المقربون، ولا الأصنام التي يعبدون، وأمرهم جلَّ ثَنَاؤُهُ  أن يعبدون وحده، وأن يوجبوا شكره وحمده على ما صنع لهم وأولاهم، ووهب لهم بحرمة بيته وأعطاهم.
 
بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم
((أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِم
بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ)).
معنى  ((تَرَ)) في مخرج التأويل: ليس هو برؤية العين، ولكنه علم اليقين، لأن رسول الله صلَّى الله علَيهِ وآلِه وسلَّم  لم ير ذلك بعينه، ولكنه رآه بعلمه ويقينه، وبما ذكر الله جلَّ ثَنَاؤُهُ  عنه ووصفه الله به منه، وسواء قيل: ألم تر، أو قيل: ألم تعلم معناهما واحد في اليقين و العلم.
وتأويل ((كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ)) هو كيف صنع، وأصحاب الفيل: فهم من جاء معه، أو بعث به وإن تخلف عنه، فكل من كان للفيل صاحبا من بعث وإن لم يصحبه، ومن كان له مصاحبا.
وتأويل ((كَيْدَهُمْ)) فهو إرادة مريدهم، والإكادة: فهي الإرادة كما قال الشاعر:
كادت وكدت وتلك خير إرادة       لولا الوشاة بأن نكون جميعا
وذلك أن أصحاب الفيل كادوا، ومعنى ذلك هو أرادوا أن يخربوا الكعبة ويجعلوها متهدمة خربة، لأن العرب خربت كنيسة كانت يومئذ للحبشة، وكان يومئذ فيهم وملك عليهم رجل من العرب من أهل اليمن يقال له: أبرهة بن الصباح، وكان يدين دينهم فهو الذي بعثهم فأرسل الله سبحانه على أصحاب الفيل كما قال تبارك وتعالى: ((طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ)). لا يصيب حجر منها أحدا إلا قتلته وأهلكته، ولم يكن له بقاء معه ولا بعده، والطير الأبابيل: فهي الطير الكبير الأراعيل التي تأتي من كل جهة، ولا تأتي ناحية واحدة، والسجيل: فهو فيما يقال: الطين المستحجر الصلب الذي ليس فيه لين، فهو لا يقع على شيء إلا حطمه وفَتَّهُ وهشمه، وجعله كما قال الله سبحانه كالعصف المأكول، والعصف: فهو عاصفة قصب الزرع البالي المدخول الذي قد دخل وأكل وتناثر تهلهل، والمأكول منه فهو الذي جُوِّف له، والذي قد أنهيت جوفه كله.
 
بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم
 ((وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ (2)يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4)وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ (9))).
تأويل ما ذكر الله من الويل: ما يعرف من الحرقة والعويل، و الخزي الكبير العظيم الجليل، والهمزة من الناس: فهو من يغتاب صاحبه ويغمزه، والهمزة واللمزة: فهو الذي يعيب حقا أو محقا ويهمزه، والهمزة: فهو الباخس المغتاب، واللمزة: هو الهامز العياب، وجمعه للمال: فهو اكتنازه له واجتهاده، وتعديده له: فهو إرصاده له وإعداده بما في يده من ماله لما يخشى من نوائب حاله.
وتأويل ((يَحْسَبُ)) هو أيحسب استفهاما وتوقيفا وتبيانا له وتعريفا على أن ما جمع وأعد من مال لنوائب مكروه بحال لن يخلده فينقذه، ولن يدفع عنه ويقيه فيه ما يخشى ويتقى من مكروه النوائب، كيف لا وهو لا يدفع عنه من الموت أكبر المصائب، لا ينتفع عند الموت به، ولا بكده فيه وكسبه، وكذلك كلما أراده الله به من ضر سوى الموت، فليس يقدر له بجمع ماله وإعداده على خلاص ولا فوت في عاجل دنياه، وكذلك هو في مثواه يوم القيامة إذا نبذ في الحطمة، ونبذه فيها إلقاؤه إليها، والحطمة: فهي الأكول لأهلها باستعارها وحرها، وهي النار التي جعل الله وقودها كما قال سبحانه بما جعل من حجارتها وأهلها في قرارها، وفي ذلك ما يقول تبارك وتعالى للمنذرين: ((فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)) [البقرة:24] فنار الآخرة جعلت نارا فطرها الله يومئذ افتطارا، من غير حديد ولا حجر ولا شجر، ولا أصل لها قبلها مفتطرة كما نراه من هذه النار التي جعل أصلها من الحجر والأشجار كما قال سبحانه: ((أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ)) [الواقعة:72] ولو كانت نار الآخرة كهذه النار لكان وقودها بما توقد هذه النار من أشجار، ولكن الله عز وجل جعل أصلها حجارتها التي فيها وأهلها فتوقدت واستعرت لذلك بهم كما يوقد أهل هذه النار نارهم بحطبهم، فأهلها حطبها كما هم حصبها كما قال الله سبحانه: ((إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ)) [الأنبياء:98] فأهل جهنم بخلودها ودوام وقودها فيها خالدون لا يفنون أبدا، ولا يبيدون، كما يعود الحطب رمادا خامدا ورفاتا جامدا، كذلك تعود جلود أهل النار نار الآخرة رفاتا، وشيئا هامدا باليا مائتا فيجدد الله ذلك بعد بلائه، وتهافته تجديدا ليخلد  الله بالتجديد له أهل النار فيها تخليدا كما قال سبحانه: ((كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا)) [النساء:56] فنار الآخرة أبدا بحجارتها وأهلها موقدة وحجارتها وجلود أهلها كلما بليت فمعادة، تقدير من عزيز حكيم لبقاء عذاب الجحيم.
وتأويل قوله: ((الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ)) فهو ما يصل إلى قلوب أهلها من الكرب والشدة، وتأويل ((عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ)) فهو مطبقة مغلقة، وإغلاق جهنم فهو ما ذكر الله عز وجل من أبوابها، والإيصاد للأبواب الذي هو التغليق عليهم فهو من شدة عذابها وما ذكر الله من الإطباق والغلق فهو أكبر الغم والألم والحرق كما قال سبحانه: ((كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ)).
وتأويل ((فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ)) بعد ذكره تبارك وتعالى المؤصدة، فهو ما يغلق به أبواب جهنم المؤصدة المطبقة في عمد معروضة على أبوابها ممدودة، كالمهاج والأوصاد التي تجعل على الأبواب المغلقة، ونحو ذلك من الإغلاق والغلق فأوثق ما يغلق به كل مغلق أراد إغلاق الباب، أو إطباقا وذلك أنه يأخذ ما في طرفي المغلق كله، وليس يأخذ ذلك من الإغلاق كلها غلق، وإنما يغلق كل غلق من الأبواب ما يغلق إن كان قفلا، فإنما يغلق واسطة الأبواب، وإن كان غير ذلك فإنما يغلق جانبه من كل باب، فأما المهج والرصد فيغلق الباب كله، ويستقصى في الغلق آخره وأوله، ولاسيما إذا كان ممتدا ثابتا مهجا كان أو رصدا، فأبواب جهنم وإغلاقها كلها كالمقامع التي ذكر الله من الحديد لا تبيد كما مقامع أهلها فيها إذا أرادوا أن يخرجوا منها حديد، كما قال سبحانه: ((وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ)) [الحج:21] ألا فسبحان من جمع في جهنم ما جمع من أنواع الخزي والضيق للظلمة الملحدين فقيل في يوم البعث لهم جميعا : ((ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ)) [الزمر:72].

 

بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم
  ((وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْر)) فالعصر: قد يكون من آخر النهار، ويكون من الدهر، فأشبه ذلك والله أعلم بالتأويل، ومايصح فيه من الأقاويل، أن يكون العصر الذي بعد الظهر لاالعصر الذي من الدهر، وإن كان كل ذلك وقتا، وكان ذلك لكلا الوقتين نعتا، كان أفضل الأوقات ماكان لصلاة من الصلوات، وكان تأويل القسم به أشبه وأفضل وأوجه والله أعلم وأحكم.
وكان تأويل أنه قسم كما أقسم بالفجر والليالي العشر لفضلهما وقدرهما، وماذكر الله من أمرهما.
والعصر والأعصار من النهار: فهو بعد الظهر والإظهار، وإذا كان الدهر وقتا كله كان ماكان منه للصلوات هو أفضل، والأفضل هو الأولى بالتقدم في القسم وغير القسم.
وأما تأويل الخسر: فهو النقص في الخير والبر، ولم يكن من الناس في خير ولابر فهو كما قال الله عزوجل: ((لَفِي خُسْر)) وكل الناس فغير مفلح ولارابح إلا من عمل لله بعمل صالح كما قال الله سبحانه: ((إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)).
وتأويل الإيمان: فترك كبائر العصيان، وتأويل: ((وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)) فهو عملهم لله صالحات، وهي أولى الأعمال بهم، لما فيها من رضى ربهم، وصلاحهم وصلاح غيرهم.
وتواصيهم بالحق: فهو تآمرهم بطاعة الحق، وتواصيهم بما ذكر من الصبر: هو تآمرهم بالمقام على البر، وعلى مايعارضهم في المقام عليه من اليسر والعسر، ومايقاسون فيه من منابذة المبطلين، ومن ليس بمراقب، ولامتق لرب العالمين، من الفجرة المستهزين و الجورة المتغلبين المتمردين.
 
بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم
 ((أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِر)) فتأويل ((أَلْهَاكُمُ)) هو أغفلكم عما عليكم في المعاد، ولكم بما أنتم فيه من تكاثركم بالولد والمال والعشائر وتفاخركم بما في ذلك عندكم من الخيلاء والمفاخرة، ولذلك وبه شغلوا وألهوا فغفلوا بكدهم فيه وكدحهم وتكالبهم عليه، وشحهم عن رشادهم، وتيقن معادهم، ولما في التكاثر بالأموال، ومافي التشاغل بالتكاثر من الإشتغال طهر الله منه خيرته من الرسل والأبرار، فلم يكونوا بأهل مكاثرة ولابتجار.
وتأويل ((زُرْتُمُ الْمَقَابِر)) هو مصيرهم اليها، واتصالهم بالآخرة، وإشرافهم عليها.
وتأويل ((كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ)) هو تكرير من الله تبارك وتعالى في ذلك كله عليهم للتعريف والتبيين، ألا ترى كيف يقول سبحانه: ((لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا
عَيْنَ الْيَقِينِ)) يقول جل ثناؤه: لترون ماوعدتم منها رأي العين عين يقين.
وتأويل ((ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)) هو: لتوقفن حينئذ على ماكنتم فيه قبل متوفاكم، وفي حياتكم ودنياكم من النعيم والمن العظيم، الذي كانوا ينعمون به في الحياة الدنيا وبقائها، وقبل ماصاروا إليه من الآخرة وشقائها، وليس مما نزل من الله عزوجل من آياته في هذه السورة ولاغيرها طويلة ولاقصيرة إلا وفيها بمن الله دلالات خفية باطنة وظاهرة منيرة، ففي أقل ظاهرها ماكفى وأغنى، وفي خفيها من الحكمة والبركة مالايفني.
((الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ)) فالقارعة: ماهال من الأمور وقرع، وهجم على أهله بغتة بأهواله فأفزع.
وأما تأويل ماأدراه فهو: تعظيم منها لمرآه، وماسيعانيه فيها ويراه من الأهوال والأمور الفادحة، وجزاء الأعمال الصالحة والطالحة، حين تقوم القيامة، وتدوم الحسرة والندامة على كل خائب وخاسر، وظالم معتد فاجر، ألا تسمع كيف يقول سبحانه عند بعثه فيها لخلقه المبعوث: ((يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ)) وتأويل ((يَكُونُ)) فهو يصير، والفراش: فطير صغير خفيف عند من يراه حقير، من همج الأرض والطير تمثل به العرب في الكثير، لأنه كثير ضعيف، وطير محتقر خفيف، فتقول إذا استكثرت شيئا أواستضعفته، واستقلت وزنه فاستخفته: ماهذا إلا كالفراش في الخفة والقلة، وللقوم إذا استكثروهم كالفراش في الكثرة والجمَّة.
انبثاثه: فهو انبعاثه متحيرا وطائرا في كل وجهة من الجهات، يموج ويصدم بعضه بعضا في تلك الوجوه المختلفات، فمثَّل الله سبحانه الناس في يوم البعث بما وصفنا من الفراش المنبث، الذي يموج بعضه في بعض، ويسقط تهافتا على الأرض لما ذكرنا من كثرته، وموجه وحيرته واختلاف جهاته، ويومئذ يدعوهم من تلك النواحي المختلفات الداعي فيستجيبون لدعوته كلهم جميعا باستماع، كما قال سبحانه: ((يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ)) [طه:108] تأويلها: لااختلاف لهم بعد معه كما كانوا يختلفون في المذاهب قبل دعائه، وماسمعوا وهم في حيرتهم من ندائه كما قال سبحانه: ((وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ)) [ق:41] وهو يوم الإصاخة بالأسماع، لتسمع صوت المنادي الداعي، وفي ماذكرنا من هذه الإصاخة ماقيل في يوم الصاخة: ((فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)) [عبس:33-37].
وتأويل: ((وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ)) فالعهن: هو الصوف الناعم، الذي ليس يفرد وذلك من الصوف، فما يلين للنفش في اليد وينتفش ويتجافى، ويعود خفيفا أجوفا وقد تفرقت أجزاؤه، وبان جفاؤه فعاد قليله كثيرا، وصغيره كبيرا لتحلله وتمزقه، وتزايله وتفرقه، كذلك تبلى الجبال إذا بليت، وتفنى يوم القيامة إذا فنيت، فتكون كالسراب الرقراق، في الفناء والهبي والإمتحاق، وفي جزاء الأعمال بعد تلك الأهوال يقول الله سبحانه: ((فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ)) تأويلها: من ثقل في الوزن بره وإحسانه فيسعدُ بثقله، وثَقُلَ بعمله.
وتأويل ((ِفي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ)) فهو في عيشة مرضية زاكية، وإنما يعرف أمر الخفة يومئذ واليوم والثقل بما يعرف منها اليوم في الحال والقدر والعمل، وليس نعلم الخفة والثقل يومئذ في المقادير والأوزان بمثاقيل يوزن بها من خف وثقل وجريان، ولكنه يعرف والله محمود بما ذكرنا من العبرة والبيان، وماتعرفه العرب العاربة في اللسان واللغة.
 ((وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ)) فتأويله: من خف به فسقه وعداوته ((فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ)) تأويل أمه: فهو من مصيره ومهواه، وما أمه! ألا تسمع كيف يقول سبحانه: ((وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ)) فكانت النار الحامية التي صار اليها أمه التي نسبه الله إليها، إذ كانت له مقرا ومأوى، وقرَّبه فيها المصير والمثوى، والنار الحامية: فهي التي لايطفيها مطفية ماكانت باقية أبدا، و التي من دخلها كان فيها مخلدا.
 
وسألت أبي رحمة الله عليه عن قول الله سبحانه: ((وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا)) فالعاديات من كل ذات ظلف أوحافر صلب أوخف: من كل بهيمة جنية وحشية أوأنسية.
وتأويل قوله: ((ضَبْحًا)) فهو عدوا ومرحا، و((فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا)) فهو مايورين ويقدحن إذا عدون وصبحن بصلابة الأظفار والحوافر والأخفاف من نار الحجارة والحصاة، والأرض الصلبة الخشناء فيورين النار من ذلك كله بإيقاد كما تورى وتقدح النار بالزناد.
و ((فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا)) فيما أرى والله أعلم خاصة: الخيل بينهن وبين غيرهن من ذوات الحافر في العدو والقدر واليمن من الفرق النير الجليل، ولخاص مافيهن من النعمة والبركة والخير قُدِّمن إن شاء الله في الذكر على البغال و الحمير فقال الله سبحانه: ((وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)) [النحل:8].
وتأويل ((فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا)) والنقع: هو الغبار المثار ((فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا)) هو توسطهن بغبارهن للجمع الذي عليه كان المغار.
وتأويل ((إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ)) فهو الكافر لنعم الله بكبائر عصيانه الفاجر العنود.
وتأويل: ((وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ)) من حاله وعداوته ((لَشَهِيدٌ)) لربه بنعمته واحسانه بما يرى عليه من النعمة والإحسان، ومابين فيه من حسن الصنع والإتقان.
وتأويل ((وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ)) فهو: أنه لمحب للخير مريد، لايضعف فيه ضعفه في غيره من طاعة الله وأمره ودينه، وكفى بذلك فيه سرا، ومنه لربه فيه كفرا ((أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ)) من عظام الموتى ((وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ))  مما يبطن اليوم من غير الله ويخفى، وماسيظهر حين يحاسب كل امرء ويجزى ((إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ)) يومئذ يوم البعثرة والتحصيل ((لَّخَبِيرٌ))لايخفى عليه منهم يومئذ خيِّر ولاشرِّير، وكما لايخفى عليه اليوم من أعمالهم صغير ولاكبير.
 
وسألت أبي صلوات الله عليه عن قول الله سبحانه : ((إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا {1} وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا{2} وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا {3} يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا {4} بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا)) فتأويل ((زِلْزَالَهَا)) هو ما ينزل بها وبأهلها من أمر الساعة وأهوالها، وفي ذلك ماقلنا به من بيانه مايقول الله سبحانه في يوم الساعة وأهواله: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ)) [الحج:1] ومن بيان ماقلنا به في الزلزلة من القول وإنه من الشدائد والهول قول رب العالمين عند نزول الشدة والهول في يوم الأحزاب بالمؤمنين: ((إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا)) [الأحزاب:10-11].
تأويل إخراج الأرض لأثقالها: فهو طرحها لما كان عليها من أحمالها، والأثقال: هي الأحمال وأحمال الأرض فما جعل الله عليها، وكان من الثقل الذي هو الإنس ساكنا فيها، من ميت وحي، وفاجر وتقي، وكيف لاتكون مخرجة لهم منها، وكلهم فمنتقل إلى دار القرار عنها، وأرض الحياة الدنيا فأرض بائدة فانية، وأرض دار القرار خالدة باقية، ومن أثقال الأرض من في قبورها ومن  كان من الموتى على ظهورها، فمن كل ذلك طائفة تتخلى، من قبل أن تبيد وتبلى، وفي تخليها من ذلك كله وإخراجها عنها له مايقول الله جلَّ جلاَلُهُ  من أن يحويه قول أو يناله: ((وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ)) [الانشقاق:3-4] تأويل ذلك: أوحشت الأرض من أهلها وأخلت، فنشر موتاها نشرا، وحشر الموتى إلى الموقف حشرا، وعند ذلك من حالها وما يخرج من أثقالها يقول الإنسان، والإنسان: هو الناس كلهم عندما يرون من زلزالها وإخراجها لما كان فيها من أثقالها ما للأرض وماشأنها؟ فتحدث الأرض حينئذ بخبرها أعيانها بأن الله سبحانه قد أوحى لها، فقطع مدتها وأجلها فحان فناؤها وانقطع بقاؤها فـ ((يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ)) كما قال الله سبحانه: ((أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ)) وتأويل أشتاتا: هو يصدرون عن موردهم في حشرهم صدرا أشتاتا متفاوتا، فريق في الجنة وفريق في السعير، خالدا كل فريق منهم فيما صار إليه من مصير، فيرى كل من عمل مثقال ذرة من خير وشر ماقدم لنفسه من عمل في فجور أوبر كما قال سبحانه: ((فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)) فتأويل يراه: فهو يجزاه.
 
 
بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم
((لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ)) فأهل الكتاب: هم أهل التوراة، والتوراة: فهي الكتاب الذي نزل على موسى عليه السلام وأهله وحملته اليهود والنصارى، وهم أهل ملل كثيرة شتى، فاليهود منهم فرق كثيرة مختلفة، والنصارى أيضا فأصناف كثيرة متصنفة.
فمن اليهود: اليهودية [ومنهم فرقة يقال لها: السامرية، ومنهم فرق أخرى تعرف وتسمى].
ومن النصارى: [الملكية، ومنهم اليعقوبية] ومنهم النسطورية في فرق أخرى أيضا وتسمى، ولسنا نحتاج في هذا التفسير إلى ذكرها، ولاتفصيل ما هي عليه من أمرها، غير أنهم كلهم وإن افترقوا في مذاهبهم أهل الكتاب. والمشركون: فهم أهل الإثبات مع الله للآلهة والأرباب وهم مشركوا العرب، ومن كان يقر برب، ومن الناس من ينكر ويجحد أن يكون للأشياء [رب يعبد ويزعم أن الأشياء لم تزل كما ترى ولايُثْبِتُ في الأشياء تدبيراً ولاأثرا، فيكابر في ذلك عماية وجهلا مايدركه بعينه عيانا وقيلا، من الصنع النير والتأثير والبدع المتقن، ومحكم التدبير الذي لايخفى على عمي ولابصير، وإن لم يقر بمعاد ولامصير، وليس أولئك ولا من هو كذلك من أهل التوراة، ولا من أهل الكتاب، ولا ممن يقر بإله، ولا برب كالعرب، ومن كان مشبها للعرب ممن يقر بالله وإن أشرك مع الله فإنما أولئك عند من يعقل كالبهائم السائمة، وإن لزمتهم الحجة بما جعل الله لهم من الجوارح السالمة التي قطع الله بها عذرهم، وألزمهم بها كفرهم، وأولئك فليس ممن ذكر في سورة لم يكن، وإنما ذكر فيها من يقر برب وإن لم يؤمن، من كفرة أهل الكتاب والمشركين فقال سبحانه: ((لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ)) والإنفاكك والفك: هو المجانبة لما هم عليه والترك، وتركهم: فهو لإشراكهم وانفكاكهم من عقد شركهم، وفريتهم فيه على الله وإفكهم.
وتأويل ((كَفَرُوا)) فهو لم يشكروا، لأن من لم يشكر الله تبارك اسمه بترك عصيانه فكافر وإن كان مقرا ومعتقدا لمعرفة الله وايقانه كإبليس الذي ذكر الله سبحانه معرفته به، وذكر كفره لما ارتكب من الكبائر بربة، وكذلك كل من ارتكب كبائر تسخط من أحسن إليه فقد كفره، ومن أتى ما يرضاه وتولى أولياءه، وعادى أعداءه فقد شكره، ولما جمع أهل الكتاب والمشركين من كبائر عصيان رب العالمين دعوا جميعا كفرة، وإن كانت قلوبهم كلهم وألسنتهم بالله مقرة فقال: ((لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ)) تأويل ذلك: أنهم لم يكونوا مقصرين، ولا تاركين لما هم عليه وعاصين لله فيه ((حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ)) المنيرة الظاهرة فقال: ((رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً)) ويتلو: يقرأ ويتبع بعد القراءة مااقترأ.
الصحف: ما صحف ليقرأ، والمطهرة: ما جعل منها بركة و تطهرة، وبينات منيرة مسفرة، وكل مطهر فمبارك، وكل مبارك فمطهر له، وفيه بالله البركة والتطهرة، وكذلك يقال في الرسول عليه الصلاة والسلام إذا ذكر بما جعل الله من البركة فيه رسول الله الطيب الطاهر، وهو قول الكثير عند ذكره الطاهر عندما يذكره بذلك صلَّى الله علَيهِ وآلِه وسلَّم  من الصادقين كل ذاكر، وإنما يراد بذلك المبارك المزكى، وليس يراد بذلك طهارته بالماء إذا توضأ.
وكذلك يقال في ابنته فاطمة صلوات الله عليها إذا قيل: الطاهرة إنما يراد بذلك ماجعل من البركة فيها، ومن ذلك ماوهب لها وجعل لبركتها من بقية رسول الله صلَّى الله علَيهِ وآلِه وسلَّم  ونسله صلوات الله عليه وعلى آله.
فهذا والله محمود من تأويل الطهارة ومطهرة، ومن وجوهه المعروفة غير المستنكرة، لا يجهل ذلك إن شاء الله ولا ينكره من يعرف لسان العرب ويبصره.
وتأويل ((فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ)) هو كتب منيرة بينة محكمة لها نور وبرهان واحتجاج، ليس فيها اختلاف ولا اعوجاج، ثم ذكر سبحانه ما ذكرنا من افتراق أهل الكتاب واختلافهم وما هم عليه اليوم، وقبل اليوم بتشتيت أصنافهم فقال تبارك وتعالى: ((وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ)) والبينة: فهي الرسل والأمور التي جاءتهم النيرة المبينة، وهي التي ليس فيها دلسة ولا عماية جليلة ولا لبسة، ولكنها بينة نيرة مضيئة ظاهرة لمن يعقلها جلية، الا تسمع كيف يقول سبحانه: ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء)) فأمروا ليعبدوه جل ثناؤه وحده، فعبدت النصارى المسيح رسوله وعبده، وأمروا ليخلصوا له الدين، ولا يجعلوا له ولدا فجعلوا له ولدا، وجعلوه كلهم ثالث ثلاثة عددا، وفيهم ما يقول سبحانه: ((لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ)) فهو الله الأحد الصمد، الذي ليس له ولد ولاوالد.
وقالت اليهود كما قال الله جلَّ جلاَلُهُ  عن أن يساويه شيئ ويماثله: عزير ابن الله فلحقوا بالنصارى في الكفر بالله، وشبهوا الله ببعض حالات خلقه في الهيئة والقوى، وزعموا أنه جالس على عرش هو سرير، وأنه لا يتوهم له قرار في جو ولا هواء، فإن له مقعدا من العرش والكرسي ومستوى، وتأول من شبهه من هذه الأمة في ذلك مايقول الله سبحانه: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)) وأمروا أن يكونوا حنفاء فكانوا جورة حمقاء.
((حُنَفَاء)) والحنيف: هو الطائع المستقيم الخاشع، وأمروا أن يصلوا له فصلوا لغيره معه، فمنهم من صلى لإثرة صنم، ومنهم من صلى لعيسى بن مريم صلى الله عليه، ومنهم من صلى لمن شبهه بآدم صلى الله عليه في الصورة واللحم والدم، ومنهم من صلى لمن هو عنده نور من الأنوار، وجسم مسدس المقدار له زعم جهات ست، خلف وأمام ويمين ويسار، وفوق وتحت، فتعالى الله عما قالوا كلهم علوا كبيرا، وجل وتقدس عن أن يكون لنفسه من خلقه مثلا ونظيرا، وكيف يكون عابد ذليل كعزيز معبود من لم يزل دائما مشبها لما كان طول الدهر غير موجود.
ثم قال سبحانه في دينه وصفته: ((وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)) تأويل ذلك أن كل ما أمر به فمن الأمور المرشدة الهادية المستقيمة.
 ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ)) فالذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين بالله مع إقرار الفريقين بالربوبية لله فهم كما قال الله  شر البرية، بما كان منهم على الله من الدعوى المبطلة المفترية، والبرية: فما ذرأ الله وبرأ مما يرى الخلق كله، ولايرى. ونار جهنم: فهي النار التي لايعرف في النيران مثلها، ولايعلم منها كلها مشبها لها فيما عظم الله من نارها وحر استعارها.
وتأويل ((خَالِدِينَ)) فهو غير فانين ولا بائدين كما قال سبحانه: ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ)) [فاطر:36] فنار جهنم هي النار المستعرة التي ليس لاستعارها أبدا من انكسار ولافتور، ولو فترت من استعارها والتهابها فكان في ذلك تخفيف عن أهلها من عذابها.
((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ)) فمن آمن فهم المُؤَمَّنُونَ من كبائر العصيان، والذين لايخافون على ارتكاب زور ولابهتان، ماثبت لهم أبدا اسم الإيمان، وحكم أهل الهدى والبر والإحسان.
والصالحات من الأعمال: فهي كل صالح عند الله من قول أو أفعال، وجزاهم: هو ثوابهم من الله وعطاؤهم.
وتأويل ((جَنَّاتُ عَدْنٍ)) هو جنات مستقر وأمن، وتأويل ((رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ)) هو رضاء الله سبحانه لهم ((وَرَضُوا عَنْهُ)) فتأويل رضاهم: فهو بما أعطاهم وجزاهم، بأنهم لم يزالوا راضين عنه جلَّ ثَنَاؤُهُ  في دنياهم قبل مصيرهم إلى ما صاروا.
ثم أخبر سبحانه لمن جعل جزاءه فقال: ((ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ)) يعني لمن خافه واتقاه فأخبر جلَّ جلاَلُهُ  أنه جعل لأهل التقوى الكرامة والرضاء، و الارتضاء في المعاد والمثوى.
وتأويل ((خَالِدِينَ فِيهَا)) فهو بقاؤهم أبدا بعد  المصير إليها.
 
((إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا)) قال الإمام الناصر للحق الحسن بن علي الأطروش سلام الله عليه: سلوا الله الإفادة في سبعة عشر من شهر رمضان، وفي تسعة عشر، وفي احدى وعشرين، وثلاثة وعشرين فإنه يكتب الوفد في كل عام ليلة القدر، و ((فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)).
فقد يكون ((أَنزَلْنَاهُ)) جعلنا، كما قال سبحانه: ((وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ)) ((وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ)).
وتأويل أنزل في ذلك: جعل، فيمكن أن يكون جعل القرآن كله وأحدثه وأتمه وأكمله فيما ذكر تبارك وتعالى من ليلة القدر المذكورة، والقدر: فهو وقت وقَّتَهُ الله جلَّ ثَنَاؤُهُ  من أوقات الدهور، وقد يكون القدر: هو الجلالة والكبر كما يقال: إن لفلان أولكذا وكذا قدرا، يراد بذلك أن له لَجَلالة وكبرا، فإن يكن وقتا وقت فهو وقت ذكره الله وكرمه بما قدر فيه من أموره المحكمة ومن الأدلة على أن الله جعل القرآن في ليلة القدر كله، وأحدثه فيها فأتمه وأكمله، وأنه لم يرد بتنـزيله ووحيه انزاله له جملة على رسوله و نبيئه أن الله سبحانه إنما أنزله على رسوله صلَّى الله علَيهِ وآلِه وسلَّم  وأوحى تبارك وتعالى به إليه مفرقا لا جملة واحدة، وعلمه إياه جبريل صلى الله عليهما سورة سورة وآيات آيات معدودة ليقرأه كما قال سبحانه على مكث وترتيل، ولترتيله وصفه تبارك وتعالى في الوحي له بالتنزيل لأن المفرق المنزل هو المرتل المفصل، وفي ذلك مايقول الله تبارك وتعالى فيه:{ ((وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً)) [الإسراء:106] ويقول سبحانه لرسوله صلَّى الله علَيهِ وآلِه وسلَّم  في قراءته: ((وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا)) [المزمل:4] والتفصيل: هو التقطيع والتنزيل.
وفي إجماله وجمع إنزاله ما يقول المشركون لرسوله صلَّى الله علَيهِ وعلى أهله: ((لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً)) [الفرقان:32] ((كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا)) [الفرقان:32] [الفرقان:33].
يقول الله سبحانه: نزلناه عليك قليلا قليلا، ثم قال سبحانه لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا))
فنحمد  الله على مانور بذلك من حجته بمنه ورحمته تنويرا.
ثم أخبر سبحانه أن قد أنزله وتأويل ذلك أنه قد جعله الله كله في ليلة واحدة فقال تبارك وتعالى: ((إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)) و((إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ)) [الدخان:3] فأبطل بذلك كل حجة لمن كفر مظلمة مهلكة، فكان ذلك من قدرته ما لا ينكره أهل الجاهلية من أقر بمعرفته.
وقد يمكن أن يكون تأويل ((إِنَّا أَنزَلْنَاهُ)) هو تنزيله سبحانه من السماء السابعة العليا إلى من كان من الملائكة في السماء الدنيا، وقد ذكر عن أمير المؤمنين علي صلوات الله عليه أن ذلك هو تأويل ((إِنَّا أَنزَلْنَاهُ)) وبيانه فأي التأويلين جميعا تُؤِّلَ فيه وقع بإنزاله كله عليه.
ولوكان إنما أراد بذلك إنزاله على محمد صلَّى الله علَيهِ وعلى أهل بيته وسلم لكان إنما نزل إليه مفرقا ومقطعا غير مجمل من الله، وإنما قال الله: ((إِنَّا أَنزَلْنَاهُ)) فأوقع التنزيل على كله لا على بعضه، وقال لرسوله صلَّى الله علَيهِ وآلِه وسلَّم : ((إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ)) [القصص:85] فأخبر سبحانه بفرضه، والفرض: هو التقطيع والتفصيل كما يقول القائل للشيء إذا أمر بقطعه أفرضه وفصله، ليقطعه.
وتأويل ((إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ)) هو أن الذي قطع تفريقا ما نزل من القرآن إليك، وذلك هو الله الرحمن الرحيم، وما فرض فهو كتابه المنزل الحكيم، وأي القولين اللذين ذكرنا وبينا في ذلك و فسرنا قيل به فتأويل، وأمر كبير جليل كريم ذكره واجب شكره.
وليلة القدر التي نزل فيها القرآن فليلة من الليالي مباركة تتنزل الملائكة فيها كما قال الله تبارك وتعالى الروح والملائكة لبركتها وقدرها و ما عظم الله من أمرها ((بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ)) [القدر:4] من أمور الله بنازلة وبركة لأهل الأرض كلهم شاملة، فليلة ذلك الوقت والخير، و القدر خير كما قال: ((خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ)) لما جعل الله جلَّ ثَنَاؤُهُ  فيها من اليمن والبركات، و ما يمسك الله فيها عمن أجرم من النقم و الهلكات، ولما نسب الله إليها من الخير تنزلت الملائكة والروح فيها من أعلى العلا إلى الأرض السفلى.
يقول الله سبحانه: ((بِإِذْنِ رَبِّهِم)) تأويل ذلك بإذن الله فيها لهم، وقد قال غيرنا في تأويل ((مِّن كُلِّ أَمْرٍ)) إنه من كل وجهة، و ما قلنا به والله أعلم في نزولهم من أمر الله ورحمته بكل نازلة أشبه وأوجه، فهم ينزلون فيها من أمر الله وتقديره  ولما جعل الله فيها من بركاته وخيره وحدانا وزمرا وإرسالا ببركتها وإعظاما لها وإجلالا، وإذ جعلها الله سبحانه لتنزيله ووحيه وقتا ومقدارا، وذكرها بما ذكرها به من القدر تشريفا لها وإكبارا، وليلة القدر ليلة جعلها الله من ليالي رمضان، ألا ترى كيف يقول سبحانه: ((شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)) [البقره:185]  ويقول سبحانه بعد ذكره لشهرها و ما جعل الله فيها من بركتها ويمنها: ((إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)) [الدخان:3-6] فهي ليلة بركة ورحمة وسلامة وعصمة، وفيها يقول أرحم الراحمين، ورب السموات والأرضين: ((سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)) وتأويل ((سَلامٌ)) فهي في سلامة هي حتى طلوع الفجر، فليلة القدر ليلة سالمة مسلمة ليس فيها عذاب من الله تبارك وتعالى و لا نقمة، جعلها الله بفضله بركة وسلامة ورحمة للعباد إلى الفجر دائمة، ولحق الليلة نزل الله فيها وحيه و قرآنه، وفرق برحمته فيها فضله و فرقانه بالبركة والتفضيل والإعظام والتجليل.
وتأويل ((وَمَا أَدْرَاكَ)) فهو ما يدريك لولا ما نزلنا من البيان فيها عليك ((مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ)) في القدر والكبر، و ما يضاعف فيها لعاملة من البر والأجر، فهي ليلة ((خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ)) جعلت لبركتها ويمنها في التضعيف لها، وبالإضعاف كعشرة آلاف ليلة، وعشرة آلاف ليلة، وعشرة آلاف ليلة، فذلك ثلاثون ألف ليلة، ونحوها تامة جعلت مقدارا مضاعفا لليلة القدر تشريفا لها وكرامة، وهي ليلة مقدسة يضاعف فيها كل بر وعمل صالح لمن عمل به فيها من أهلها فيزاد على تضعيفه من قبل ثلاثين ألف ضعف لقدرها وفضلها، ونحمد الله في ذلك وغيره رب العالمين على ما أنعم به من ذلك الله خير المنعمين.
 
بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم
((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ)) فتأويل ((اقْرَأ)) فهو أن يقرأ، وتأويل اسم ربه الذي أمر أن يقرأ به فهو بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم الذي قدم له في تعليمه كل سورة عند الإقراء له والتعليم. وربه: فهو الله الذي خلق خلقه، فخلق الإنسان من علق إذا ما خلقه. والعلق: فهو الدم الأحمر المؤتلق الذي يتلألأ لشدة حمرته ويبرق، فيما ذكره الله سبحانه من علق الدم، وخلق الناس كلهم غير آدم وحواء، فإن حواء خلقت من آدم، وخلق آدم من تراب فلم يخرج آدم وحواء من بين ترائب وأصلاب كما خرج من بين الصلب و الترائب غيرهما، ولكنه كان من الله سبحانه ابتداؤهما وتدبيرهما، من غير أصل مقدم من أب ولا أم، وكان مابين ذلك من التباين والفرق في الصنع والفطرة والخلق إذ خلق آدم من تراب، وخلق نسله من علق من أعجب العجائب، وأدل الدلائل على قدرة الخالق على ما خلق مما يشاء أن يخلقه جلَّ ثَنَاؤُهُ  من الخلائق، وعلى أن قدرته فيما يخلق من خليقته واحدة غير متشتتة ولا متفرقة على أقدار ما يرى من افتراق البدائع، والخلق المفطورة والصنائع كما قال سبحانه: ((إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُول َلَهُ كُن فَيَكُونُ)) [النحل:40] فأخبر سبحانه أنه لا يختلف عليه في قدرته البدائع والكون، وأن قدرته في ذلك كله لا تتفاوت، وإن تفاوت الخلق المبتدع المتفاوت.
ثم أمر تبارك وتعالى رسوله بالقراءة باسمه أمر مثنى، وكل ذلك فواحد في الإرادة والمعنى إلا أن التكرير غير التفريد، في زيادة الأمر والتوكيد، والتكثير فأكثر في الرحمة، وفي زيادة المن و النعمة بالعلم والتعليم والأمر والتفهيم، وفي كل كلمة من كلمات الله تقل أو تكثر بصائر جمة بمن الله لمن يعقل ويبصر، فليس في شيء من كلام الله جلَّ ثَنَاؤُهُ  نقص ولا فضول، ولا يشبه قول الله في الحكمة والبيان من أقوال القائلين قول، فقال سبحانه: ((اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)) من كل ماعلمه ببصر أو سمع أو فؤاد، وما كان مرضيا أو مسخطا لله من غي أو رشاد كما قال سبحانه: ((وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)) [النحل:78] فبما جعل الله لهم من الأفئدة يعقلون ويتفكرون، وبما سلم من السمع والبصر يسمعون ويبصرون، فتبارك الله أحسن الخالقين خلقا،  وأوسع الرازقين في العلم وغيره رزقا، فهو المعلم سبحانه بالقلم وبغيره من وجوه العلم التي ليست بخط ولا كتاب، من كل ما يعلمه أولوا الألباب ما يعلمه أيضا سواهم ممن لم يبلغ في العلم مداهم، وإن لم يكتب وكان جاهلا بالكتب مما يعلمه من صناعة أوبحرف أوبياعة فالله معلمه ومفهمه من ذلك أولعلمه فلولا قول الله سبحانه لم يظفر أبدا من علمه من علم ولم يفهم منه وفيه من يعلم ما فهم، وكذلك كل ملهم من طفل صغير، وكلما سوى ذلك من البهائم والطير من ألهم علما في تغذٍ أو محاذرة لضر أو توقٍ فالله عز وجل ملهمه معرفته وتوقيه ومحاذرته.
وتأويل قوله سبحانه: ((وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ)) فهو ما بان به الله من الجود والكرم فيما وصل به إليه من النعم من مواهبه في العلم وغير العلم، وقد علّم الله رسوله عليه السلام من شرائعه ودينه، وإن لم يكتب بقلم أوبخط كتابا بيمينه ماجعله الله به فله الحمد إماما لكل إمام، كان معه في حياته وبعد وفاته من الكتبة والعلام، فكان بمن الله لكلهم إماما ومعلما، وعلى جميعهم في العلم والحكمة مقدما، وفي ذلك وبيانه مايقول الله سبحانه في فرقانه: ((وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ)) [البقره:48] فكفى بهذا والحمد لله بيانا وبرهانا لقوم يعقلون.
وتأويل: ((كَلا)) فهو نعم وبلى  ((إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى)) فتأويل يطغى: فهو العناء والطغاء، وتأويل ((أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى)) فهو تكثره بالجدة والغنى في كل ما رآه فيه من علم ومال وما يراه مستغنيا به أو مستطيلا به من كل حال.
وتأويل ((إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى)) فهو إلى الله المعاد في قيامة الموتى، ثم قال سبحانه لرسوله صلَّى الله علَيهِ وآلِه وسلَّم: ((أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى)) تثبيتا له عليه السلام، وتعريفا وتبيينا أيضا لمن كفر به، وتوقيفا على ما يعرفون ولا ينكرون، وماهم به جميعا كلهم مقرون، من أنه ليس لأحد أن ينهى عبدا من عباد الله عن الصلاة والأمر بالتقوى لله، فتأويل ((أَرَأَيْتَ)) فهو أرأيت أنت ومن معك ممن يرى كما ترون، وكلهم جميعا يرى أن كل من صلى من خلق الله، وأمر بما يحب الله ويرضى مبتغيا بذلك رضوان الله، وطالبا بذلك لما عند الله مصيبا لذلك في رشده وهداه، قد أصاب بذلك طاعته ورضاه.
أليس من نهاه عندهم عن ذلك وآذاه فقد استوجب لعنة الله وإخزاءه، وكذلك كل عبد لله أمر بالتقوى والإجلال لله كما كان يصلي محمد صلَّى الله علَيهِ وآلِه وسلَّم  لله ولمرضاته، ويأمر باتقاء الله جلَّ ثَنَاؤُهُ  ومخافته، وكل ما كان فيه من ذلك كله عندهم فحميد، ومن يعمل لله بذلك فيهم فرشيد.
ثم قال سبحانه لرسوله صلَّى الله علَيهِ وآلِه وسلَّم: ((أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى)) تأويل مايقرأ من ذلك ويتلى، أفرأيت من كذب به بعد إقراره بما يصف وتولى في ذلك عما يعرف من أنه ليس له أن ينهى عبدا عن أن يصلي لله، ولكن أن يأمر بما هو الهدى عنده من تقوى الله.
 ((أَلَمْ يَعْلَمْ)) من فعل ذلك ((بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى)) فيخاف أن يؤاخذه الله بفعله ويجزي.
وتأويل رؤية الله: فهو علم الله بنهي من ينهى عبدا إذا صلى فما بالهم ينهون محمدا صلَّى الله علَيهِ وآلِه وسلَّم  وأصحابه عن الصلاة، وعما لم يزل يأمر به من التقوى أهل البر والرشد من الهدى مع علم من ينهى عن ذلك ويقينه بأن الله علم بنهيه عن ذلك وغيره، فلما أصر الناهي عن ذلك على ظلمه فيه وكفره مع ما أيقن به من علم الله بأمره فيه كله وأقر قال سبحانه: ((كَلا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ)) عما هو فيه، وعما أصر من ظلمه عليه ((لَنَسْفَعًا)) وتأويل ((لَنَسْفَعًا)) فهو لنأخذن ((بِالنَّاصِيَةِ)) والناصية: فهي مقدم الرأس العالية.
ثم قال سبحانه: ((نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ)) إذ كانت عما لا يجوز النهي عنه عندها من الصلاة والتقوى لله ناهية، فكذبت قولها في ذلك بفعلها، وأخطأت بنهيها عنه فيه بجهلها، فهي كما قال الله سبحانه: ((كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ)) وهي لله مخالفة في ذلك عاصية، يقول الله سبحانه فإذا أخذنا منه بالناصية ((فَلْيَدْعُ)) إن استجيب له ((نَادِيَه)) وناديه: فهو عشيرته وأولياءه وأنصاره وجلساءه الذين كانوا يجلسون في مقامه، واليه يجتمعون لمجالسته ونصرته لدينه ((سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ)) والزبانية: فهم الملائكة المطهرة الزاكية التي يأمرها الله سبحانه بأمره، فتنفذ بكل ما أمرها الله به مطيعة لله غير عاصية، وآخذة لما أمرها الله سبحانه بأخذه غير وانية تأخذ بالغلظة والشدة كل نفس عاتية متمردة كما قال سبحانه: ((عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)) [التحريم:6].
ثم قال سبحانه لرسوله: ((كَلا لا تُطِعْهُ)) يقول سبحانه لرسوله صلَّى الله علَيهِ وآلِه وسلَّم:  لا تطع من نهى عن الصلاة والهدى، وعن الأمر لله بالتقوى، وكذب فعمل بالكذب، ولكن اسجد واقترب بكل عمل صالح مقرب لمن فعله إلى الله فليس لهم أن ينهوا عن شيء من ذلك إذا كان عندهم كذلك، ومن يفعل ذلك أو عمل به فقد كذب فيه قوله بفعله، وصار إلى ما لا مرية فيه عنده من جهله، وتولى عما كان من الإقرار لله عليه بتركه، لما كان مقرا لله بالحق فيه فتشهد عليه نفسه لله بكفره، ويثبت عليه في الحجة باعترافه وإقراره، فبان منه الكفر، وانقطع عنه العذر، فلا عذر له عند نفسه ولا اعتذار ولا خفاء لكفره ولا استتار، وكذلك كل من أسلمه الله إلى الباطل وحيرته، ولبسه، وحجة الله قائمة عليه في الحق بنفسه، وفي إقراره من ذلك ما يقر حجة لله عليه فيما ينكر، وسواء قيل: اقترب أو يقرب معناهما واحد في التقرب. والسجود فهو السجود الذي يكون بعد الركوع، وليس سجود التذلل والخضوع، وكلا الوجهين فقد يدعى سجودا وبرا إذا كان ممن هو فيه بينا موجودا.
وتأويل ((وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)) فمن السجود والصلاة، وتأويل ((وَاقْتَرِبْ)) فمن التقرب مما يقربه من الحسنات، وسواء قيل: اقترب أو تقرب معناهما جميعا اقترب وأحد ذلك كله فيما يقال به فيه فصواب.
 
بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم
((وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ))
فالتين: فهو هذا التين المأكول، والزيتون: فهو هذا  الزيتون المعلوم، وقد ذكر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه أن التين والزيتون هو التين الشامي خاصة وزيتونه، وذلك لما جعل الله للشام من التقديس والبركة، وفي الشام ما يقول موسى عليه السلام لبني إسرائيل: ((يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي)) وما ذكر الله من طور سينين: فهو الجبل الذي كلم موسى منه رب العالمين.
و((الْبَلَدِ الْأَمِينِ)): فهو الحرم الذي على كل حد من حدوده رضم من الحجارة، وعلم فصل به بين غيره وبينه لتعرف بذلك ما هو منه.
وإنما أقسم الله سبحانه من الأشياء بما أقسم من القسم لما جعل فيها من الآيات والبركات والكرم، وإنما يقسم أبدا المقسم بما يجل من الأشياء ويكرم، وكرم ما ذكر الله من هذه الأشياء فما ليس به عند من يعقل من خفاء، فمن كرم التين والزيتون ما جعل الله فيهما من المنافع والطعوم، وكرم طور سينين وبركته ما كان من مناجاة الله تبارك وتعالى لموسى عليه السلام في بقعته، وفي ذلك ما يقول سبحانه: ((فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ)) [طه:11] فذكرها سبحانه بما جعل فيها من التقديس والبركة وفي ذلك مايقول تبارك وتعالى: ((وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ)) [مريم:52] والطور: فهو طور سينين المذكور.
ومن كرم الحرم وفضله فما جعل الله فيه من الأمن لأهله ومافرض من حج بيته، وألزم الناس في ذلك من فريضته.
وتأويل ((لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)) فهو خلقه للإنسان في أحسن تعديل من كل توصيل فيه وتفصيل أصل به أو فصل، أو هيء بهيأته فعدل، من هيئة أو صورة مصورة مقدرة، أو فؤاد أو سمع أوعين مبصرة، وكل ذلك كان مفصلا أو موصلا فقد جعله سبحانه مستويا معتدلا كما قال تبارك وتعالى: ((يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَك)).
تأويل ((ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ)) فهو رده إن بقي وعُمِّر إلى آخر أعمار الآدميين التي إن صار إليها وبقي حيا فيها تغيرت حاله وعقله، وبان نكسه وسفاله كما قال سبحانه: ((وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ)) [يس:68ٍ] وتأويل ((نُنَكِّسْهُ)) فهو نرده في الهرم والذهاب بعد القوة والجدة والشباب، أو يموت قبل ذلك على كفر وإنكار، فينكس بعد الكرامة في الهوان وعذاب النار، ومن الذي هو أسفل درجة من كفره إن لم يهرم، إذا هو نكس ورد في الآخرة إلى نار جهنم، فنعوذ بالله من السفال بعد التمة والكمال، وكل إنسان في ذل، ليس له كمال ولا فضل كما قال سبحانه: ((إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ)).
فكلما لم يدخله من العطايا والجود، وذلك فما لايوجد أبدا إلا في عطايا الله الجواد الكريم، وكل عطاء أعطاه معط سوى الله من حميد أو ذميم فليس يخلو من أن تدخله منة وامتنان، وإن لم ينطق بالمنة فيه لسان، لأن من وهبه وأعطاه لم يعطه إلا بعد أن يكلفه وعاناه، والله جلَّ جلاَلُهُ  يعطي من أعطى ما يعطيه بغير معاناة من الله ولا تكلف فيه، وكل معطي سوى الله فإنما يعطي ماأعطا من رزق الله، وإنما يعطي مما قد جعله الله له ومما هو لله تبارك وتعالى، فنحمد الله الذي لا شريك له الذي يعطي فلا يُعطَى، والذي لا يعطي معط سواه إلا ما أعطاه.
 
بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم
((أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ))
فقال: ((أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)) فشرحه هو توسيعه لصدره صلَّى الله علَيهِ وآلِه وسلَّم  وفسحه، لما كان تضيق عنه كثير من الصدور، فما حمل من التبليغ والأمور، ومن شرح الله أيضا لصدره: تيسيره في الدين لأمره، وما أعطاه فيه من معونته ونصره ((وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ)) فوزره: هو ثقله ووقره، والوقر من كل شيء: فهو الحمل، والحمل من كل شيء: فهو الثقل، وإذا قيل لشيء: أَوزَرَه وِزرَه فإنما يراد بذلك حمَّله وِقْرَه، وما حمل من الأثقال كلها والأمور فإنما يحمل منه الحاملون على الظهور، وكلما يعمله المرء من خيره وشره فإنما يحمله على ظهره كما قال سبحانه: ((قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُون)) [الأنعام:31].
وقال سبحانه: ((وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ)) [العنكبوت:13] يريد سبحانه ما حملوه من كفرهم وفجورهم، وليس يريد بذلك حمل أحمال، ولا ما يحمل على الظهور من الأثقال، وإنما هو مثل يضرب من الأمثال، مما كانت تضربه وتمثله العرب، وكذلك ما ذكره الله من الشرح لصدر نبيه، وما نزل في ذلك من وحيه، فذكره سبحانه لما ذكر من إنقاض الوزر لظهره، وما وضع سبحانه لما ذكر من وزره فإنما هو تمثيل وبيان ودليل، فليس يريد شرح الصدر ولا ما ذكر من الحمل على الظهر بشرح شيء يقطعه، ولاحمل ثقيل يضعه، وماحمل رسول الله صلَّى الله علَيهِ وآلِه وسلَّم  من وزر على ظهره، وذلك لايكون إلا من زلل أوخطيئة في أمره، ووضع الله لذلك عنه فهو حطة لما أثقله منه، وحط الذنب فعفوه ومغفرته، وقد غفر الله لرسوله ذنبه كله وخطيئته، كما قال سبحانه له صلوات الله عليه: ((إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ
وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا (2) وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا)) [الفتح:1-3].
وتأويل ((وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ)) فهو رفعه لذكره بما أبقى في الغابرين إلى فناء الدنيا من أمره وقدره، ومن ذلك النداء في كل صلاة باسمه، وما جعل من الشرف به لقومه فضلا عما منَّ به على ذريته وولده، ومن يشركه في الأقرب من نسبه ومحتده، فنحمد الله الذي رفع ذكره، وشرف أمره.
ثم أخبر سبحانه في السورة نفسها من أخبار غيوبه خبرا مكررا فقال تبارك وتعالى: ((فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا {5} إِنَّمَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)) فبشره بأن له مع عسره يسرا في دنياه، وأن له مع ذلك يسرا لا يفنى في آخرته.
ثم أمره سبحانه إذا هو فرغ من أشغاله ومما يقاسي به في هذه الدنيا من عسر أحواله فقال عز وجل: ((فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ {7} وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ)) والنَّصَبُ: فهو الاجتهاد والجد والاحتفاد كما يقال: اللهم لك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد. فذكر أنه لما أنزل على رسوله ما أنزل في هذه السورة من آياته فعبد رسول الله حتى عاد كالشن البالي في عبادته شكرا لله وحمدا وتذللا وتعبدا.
بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم
((وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى))
والضحى: إضحاء النهار وشدة ضوئه وظهوره، وسجو الليل: فتراكب ظلمته وتكوره كما قال سبحانه: ((اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ
وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ)) [الزمر:5].
وتأويل: ((مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى)) فخبر من الله لرسوله صلَّى الله علَيهِ وآلِه وسلَّم عن أنه وإن لم يعطه ما يعطيه ويكثره أهل الدنيا في دنياه، فما تركه فمن حسن النظر في ذلك له لا لبغضه فقلاه. والقالي: فهو الشاني والشاني: فهو المبغض، وكل ذلك فهو بغض ولكنه آثره بكرامته له في آخرته على أولاه.
وأخبره سبحانه أن سوف يعطيه من عطايا الآخرة مايسره ويرضيه، ثم ذكره سبحانه بفضله ونعمته، وبما من به عليه من رحمته فقال تبارك وتعالى: ((أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ)) وقد علم الناس أنه قليل من الأيتام من يُؤْوَى ((وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى)) فأغناه بما لم يستغن به غيره في دنياه ((وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى)) فهداه بما من به عليه من الهدى ثم نهاه تعالى عن اليتيم أن يقهره، وعن السائل أن ينهره، وأمره من الحديث بنعمة ربه بما به أمره أن ذكَّرَه من اليتم والفاقة بما ذكره، وقرر بمعرفة ذلك بما قرره، فقال تبارك وتعالى: ((وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)) تأويل ((فَحَدِّثْ)) هو فخبر وانشر ذلك واذكره وكثر، فكان بمن الله لما ذكر به ذاكرا، ولنعم الله فيها كلها شاكرا.
 
بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم
 ((وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى))
فقال: ((وَاللَّيْلِ)) وغشيانه: فهو ظهوره وإتيانه، وتجلي النهار: فهو ظهور شمسه على وحشه وانسه، وبتجليه وظهوره يعيش أهل الأرض فيه، ويتحركون وينتشرون ويقبلون، ويدبرون كما قال الله سبحانه: ((وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا)) [الفرقان:47] فجعله برحمته لخلقه ضياء ونورا، لتبتغوا فيه كما قال سبحانه: ((مِن فَضْلِهِ)) ولمنته على أهله: ((وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)) [الفرقان:73] فكفى بما في الليل والنهار من الدلالة على الله دليلا لقوم يتفكرون.
وتأويل ((وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى)) فهو وما خلق به كل ذكر وأنثى من الأزواج المختلفة الشَّتَّى، أزواج الإنس والبهائم والأشجار، وكلما خلقه زوجا في الأصول والثمار، فأقسم بما خلق به جميع خليقته من قدرته وحكمته، ومنه ورحمته، وقد قال غيرنا: إن تأويل ((وَمَا خَلَقَ)) هو ومن خلق، يريدون أن القسم كان بالله جلَّ ثَنَاؤُهُ، وليس والله أعلم ذلك في القسم كذلك، لأن الله تبارك وتعالى أقسم بالليل والنهار فقدمهما في قسمه، ولو كان تأويل ما خلق: هو ومن خلق  لبدأ الله في القسم باسمه وذكره، وعظَّم اسمه وكبره، ولكنه إنشاء الله كما قلنا.
ثم قال سبحانه: ((إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى)) فجعل عملهم متفرقا متشتتا لأن عمل المتفرقين من المبطلين والمحقين بر وفجور، وصدق وزور، فهو كله شتى متفرق، هذا باطل في نفسه، وهذا حق، أما تسمع كيف يقول الله سبحانه في تشتته وتباينه في الدنيا والآخرة وتفاوته: ((فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى(7))) فإعطاؤه هو لما يجب من الحقوق عليه واتقاؤه فهو فيما أمر بالتقوى لله ((وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى)) فهو تصديقه بأن سيجزى.
وتأويل ((فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى)) فهو سنصيره من الكرامة والثواب إلى ما سيراه عند موته وفي حشره، وما سيعاينه في الموت والحشر من أمره.
وتأويل ((وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى(8))) بما يراه عند نفسه غنى من ماله وكسبه، وبخل منه به عن ربه ((وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى(9)))
وتأويل ((فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى)) هو سنصيره من الإهانة والعقاب إلى ما سوف يرى.
وتأويل ((وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى)) فهو وما ينفعه في الغناء حاله ((إِذَا تَرَدَّى)) تأويله إذا هلك وردي بعد أن كان قد أرشد وهدي، وما أغنى ممن أغناه من دنياه، وملكه الله إياه فجعله الله له فهو لله قبله ألا تسمع كيف يقول في ذلك تعالى: ((إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى (13) فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى)) وما كان من النيران أن يتلظى فهو أشدها لهيبا وسعيرا، وأنكرها في الحر والتحريق مصيرا.
ثم أخبر تبارك وتعالى من يصلاها والإصلاء فهو التحريق فيها فقال: ((لا يَصْلاهَا إِلا الأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى)) كذب بالجزاء والمثوى، وتولى عن البر والتقوى، ثم أخبر سبحانه أن سيجنب هذه النار المتلظية من اتقى فقال جلَّ ثَنَاؤُهُ: ((وَسَيُجَنَّبُهَا
الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى)) يؤتي يعطي ماله ((يَتَزَكَّى)) تأويلها ليطبيب بها عند الله ويزكى ((وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن
نِّعْمَةٍ تُجْزَى)) تأويله: يريد يكأفأ ((إِلا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى)) بما يعطى ويجزى إذا أعطى ماأعطى لابتغاء وجه ربه، وما أراد من رضائه به.
 
بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم
((وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا (2))) والشمس: هي الشمس في عينها ونفسها واستدارتها. وضحاها: فهو ما يرى من علوها في السماء وظهورها واستنارتها.
وتأويل ((وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا (2))) فهو اتصاله بها و جيئته وراءها متصلا نوره بنورها، وظهوره في الضوء بظهورها، وما أبين ذلك وأنوره، وأعرف ذلك وأظهره في الليالي الغر من ليالي كل شهر، فنوره حينئذ بنورها متصل، ليس بين نورهما فرقة ولا فصل، وهي ليال بيض مسفرة مضيئة ساعاتها منيرة عظمت في النعمة والقدر فقيل عن النبي صلَّى الله علَيهِ وآلِه وسلَّم: (إن صيامها كصيام الدهر) وهي ليلة ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة، وهي ليال جعلها الله كلها مضيئة مقمرة، وصل الله ضوء نهارها بضوء ليلها، فكان ذلك من عظيم النعمة فيها وجليلها، فسبحان من وصل وفصل بين الأمور فوصل منها بين نور عظيم ونور.
((وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاهَا(3))) فهو إذا أظهرها النهار وأضحاها، لأنها لا تضحى أبدا بإظهار إلا فيما جعلها الله تضيء فيه من النهار، وكذلك سبحانه دبرها في مقدارها، وبذلك فقدرها في مسيرها ومدارها، وفيها مايقول سبحانه: ((لا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)) [يس:40] فكلهم جميعا في فلك، وهو المدار يطلعون ويغربون، فليل الشمس والقمر عند كل أحد فغير نهارهما، وأنهما يدوران جميعا بالليل والنهار في مدارهما كما قال سبحانه فلا يمكن أن يسبق النهار، وإن كان الفلك في ذلك كله هو المسلك والمدار، لأن الليل لو سبق نهاره لسبقت الظلم أنواره فبطل العدد والزمان وتقديرهما، وفسد البشر والحيوان وتدبيرهما، ولكان في ذلك أيضا فساد الأشجار والثمار، لأن قوام ذلك كله ونشأته بما فصل بين الليل والنهار، فسبحان مفصل الأمور والأشياء لبقاء ماأراد بقاءه من النبات والأحياء، وليعلم العالمون عدد السنين والحساب الذي عنه وبه يكون كل جيئة وذهاب، أوبقاء لشيء من الأشياء جعله يبقى أويفنى مما فطره سبحانه خلقا، كما قال جلَّ ثَنَاؤُهُ  وتقدست بكل بركة أسماؤه: ((وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً)) [الإسراء:12].
وتأويل ((وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا(4))) فهو إذا غشي الليل الشمس وآتاها فوارى بظلمته نورها، وأخفى بظهوره ظهورها، ولم تُرَ الشمسُ، ولم ينتشر الإنس، وسكن في الليل الإنس والوحش وكل طير فهدأ من ذلك كله فيه كل صغير وكبير رحمة من الله به لذلك كله، ومنَّة من الله مَنَّ بها عليهم بفضله كما قال سبحانه: ((وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)) [القصص:73].
وتأويل ((وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا(73))) فالسماء: هي السماء التي نراها ((وَمَا بَنَاهَا)) فهو وما هيأها من حكمة الله وتدبيره ورحمة الله وتقديره.
وتأويل ((وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا(6))) فهو والأرض ومادحاها، ودحو الشيء: هو بسطه وتمهيده، ونشره وتوسيعه وتمديده كما قال سبحانه: ((وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا)) وتأويله بسطناها ومهدنا كما قال الله سبحانه: ((أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا {6} وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا)) [النبأ:7] والممدود إذا أريد مده وامتهاده ضرب فيه وفي نواحيه لتمتد أوتاده.
وتأويل ((وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا(7))) فهو الأنفس التي قد علمناها لكل ذي نفس من البهائم والإنس، وهي التي إذا فارقت وزالت ماتت أجسادها وخفت، فعادت أجسادها أمواتا هلاكا، ولم ير لها أحد بعد ذهاب أنفسها منها حراكا ((وَمَا سَوَّاهَا)) فهو وما هيأها لجعلها حية كما جعلها، وعدلها سوية كما عدلها، من قدرة الله وإحكامه، ومنته عليها وإنعامه.
وتأويل ((فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(8))) هو فعرفها تدبير الله لها وإحكامه هيئتها وأجترائها، فجعلها تبارك وتعالى عارفة بكل ما كانت عليه مجترئة، أوله خائفة.
ثم أخبر سبحانه أن نفس الإنسان من بين ما ذكرنا من الحيوان نفس بين الزكاء والفلاح، والفجور والتدسية والصلاح، فإن تزكت بالتقوى أفلحت وزكت، وإن تدست بالفجور عند الله طلحت وهلكت فقال سبحانه: ((قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10))) وتأويل تزكيتها: هو تطهرتها، وتأويل تدسيتها: فهو من تطغيتها.
ثم ذكر تبارك وتعالى من دساها من سالف الأمم في الفجور فأطغاها فقال سبحانه: ((كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا(11))) تأويله بعتاها وغواها ((إذ انبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ)) وتأويله إذ قام أخزاها لشقوته وشؤمه، وبرضاء قومه وعشيرته، والأشقى فقد يكون إنسانا واحدا، أو يكون جماعة عدة، وأي ذلك قيل به كانت المقالة في الصدق والمعنى واحد، كما يقال: أشقى هذه قبيلة فلان، وأشقى هذه قبيلة فلان فيكون ذلك كله واحدا في الدلالة والبيان.
ويدل على أن أشقاهم ليس بواحد منهم قوله سبحانه: ((فَقَالَ لَهُمْ)) فلو كان واحدا منهم لقال: فقال له، وقوله: ((فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ)) فلو كان الأشقى واحدا منهم لقال: فدمدم عليه ربه، ولقال أيضا: بذنبه، ولم يقل: (بذنبهم) إذ هو واحد منهم، ولقال: عقرها، ولم يقل: ((فَعَقَرُوهَا)) إذا لم يكن إلا من واحد عقرها.
وقد قال غيرنا: إن عاقر الناقة كان إنسانا أحدا ليس بجماعة، وذكروا فيما في أيديهم من الأخبار أن عاقرها يسمى بـ قدار، وتكذيب ثمود فإنما كان بما وعدها صالح صلى الله عليه إن عقرت الناقة من عذاب قريب أليم لا تكذيبها بما لم تزل به مكذبة قديما قبل عقر الناقة من عذاب الجحيم، إذ يزجرها صالح صلى الله عليه وينهاها عما أتت في عقر الناقة بطغواها إذ يقول لهم: ((نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15))) فتأويل ماذكر الله من السقيا: هو ما أعطى الله من لبن الناقة وسقى.
ومما يدل على ذلك قول الله سبحانه في الأنعام وهي الآبال : ((وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ)) [المؤمنون:21] وقوله سبحانه: ((وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ)) [يس:73] والمشارب والسقيا: هي الموارد والسقيا، والدمدمة: هي التسوية والهلكة لجمعهم المفنية.
وتأويل قوله تبارك وتعالى: ((فَسَوَّاهَا)) إنما يراد به أدنى ثمود كلها وأعلاها، ومن أضعف ثمود [كلها] وأقواها.
وتأويل: ((فلا يَخَافُ عُقْبَاهَا)) فقد يمكن أن وجهها ومعناها: هو فلا يخاف أحدا على الضمير أن يراها بعد تدمير الله لها، وماأنزل من الهلكة بها، لاتعقب عقبا ولاتنسل عقبا من ولد ولاذرية، ولايرجع بعاقبة مؤذية وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليما.
إلى هنا انتهى تفسير شيخ آل الرسول القاسم بن إبراهيم عليه السلام وعاقه عن التمام شواغل منعته إلى أن نزل به الحمام رحمة الله عليه وكل ما تقدم من رواية ابنه محمد بن القاسم عليهما السلام. ومن ((لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ)) من تفسير علامة العترة وقاموس الأسرة الإمام محمد بن القاسم بن إبراهيم عليه السلام فقال رحمة الله عليه:
 
 
بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم

 
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله الطيبين ... وبعد:
فإن الله بفضله ورحمته جعل من عظيم ما من به علينا وعليكم من نعمته ما هدانا وهداكم إليه، ودلنا ودلكم عليه من طلب حقائق الحق حين ضل عن ذلك كثير من الخلق في تنزيل الله سبحانه وكتابه، إذ لا يوصل إلى حقيقة حق إلا بأسبابه، ولا يهتدى إلي صواب رشد إلا بمفاتيح أبوابه، فمن فتح الله له أبواب علم الكتاب علم حقائق البر والهدى والصواب، ومفاتيح درك علم ذلك بغير شك ولا ارتياب بما جعل الله عليه من فطرة العقول والألباب من معرفة الحق بما ركب فيها من الأفهام، كما تعرف الأبصار إذا نظرت النور من الظلام، وذلك إذا تركت العقول تميز بما ركب الله فيها من الأفهام بين ما لبس الملبسون إذا ورد عليها، وبين ما أوضح الله من حقائق الحق إذا أدته أسماعها إليها، ولم يدخل على العقول لبس الحيرة والجهالات بما أتاه جهلة العامة من طرق الضلالات، بطلب الهدى في مختلف ما افتروا على الله ورسوله فيه في كثير من الروايات التي يحكمون فيها بجهلهم على ما جعله حاكما عليها من تنزيل القرآن وما أنزل الله فيه من الهدى وجعل معه من نور الحق والبرهان.
   فزعمت جهلة الحشوية والعامة، وممن كذب على الله ورسوله من ضُلاَّل هذه الأمة أن الكتاب يحتاج إلى السنة، ولا تحتاج إليه، وهم قد رووا عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله أنه أمرهم أن يعرضوا على كتاب الله عز وجل من الروايات كلما اختلفوا فيه، فقالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله: (أنه ليس من نبي إلا وقد كذبت عليه أمته، وسيكذب علي كما كذب على من كان قبلي من الأنبياء فما جاءكم [عني] فاعرضوه على كتاب الله فما وافقه فهو مني وأنا قلته، وماخالف كتاب الله فليس مني ولم أقله).
فما رووا من هذا عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله فهو الدليل على أنه قد أمرهم وحكم عليهم بعرض كلما اختلفوا فيه على الكتاب فما وافق الكتاب وحقائقه قبل وصح عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعلم أنه منه، وماخالف الكتاب علم أن رسول الله لم يقله ولم يأت عنه، لأن رسول الله عليه وآله السلام قد أمرنا بإتباع وحي الكتاب والإئتمام بما نزل الله فيه قال الله سبحانه لنبيه فيما أمر به من إتباع وحي كتابه: ((اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ)) [الأنعام:106] وقال تبارك وتعالى لنبيئه وهو يخبر عن إتباعه لكتابه ووحيه: قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَـذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)) [الأعراف:203] وإنما أمر الله نبيئه بإتباع وحي الكتاب لأنه قد أكمل فيه كل حق ورشد وصواب ، فعلى كتاب ربكم هداكم الله فأقبلوا ، ومنه فاستمعوا إن أحببتم ترشدوا وتصيبوا وتفلحوا وتنتفعوا.
واذكروا قول العالم رضي الله عنه، وجمع في مستقر رحمته بيننا وبينه حين يقول :“الحمد لله الذي جعل الهدى فيما نزل من كتابه مكملا، ونزل برحمته بالعباد منه تبيانا كريما مفصلا، فيه لمن استغنى به أغنى الغنى، ولمن اجتنى ثمرات هداه أكرم مجتنى فلا تطلبوا رحمكم الله الهدى في سواه، فإن الله برحمته قد أكمل لكم فيه حقه وبرهانه وهداه، فإنكم إن أقبلتم بأفهامكم عليه، وأصغيتم بأسماع عقولكم إليه وجدتم كلما طلبتم فيه من جميع العلوم، يقول الله في الكتاب سبحانه ما أوضح قوله وبيانه: ((وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)) [النحل:89]
وقد علمتم أن العالم رضي الله عنه قد كان فسر من كتاب الله بعض ما فهمه الله منه، وكان ما فسر رحمة الله عليه من القرآن بما نرجو أن يكون الله هداه له من الشرح والبرهان ما بين آخر الفرقان إلي سورة التي ذكر الله فيها: ((والشمس وضحاها)) ثم شغلته رضي الله عنه شواغل الأمراض والأسقام عما كان يرجو أن يعينه الله عليه من التفسير والشرح لتأويل القرآن، فرأيت أن أتكلف إن شاء الله بعده من الاستعانة بالله وحده بشرح بعض ما أرجو أن يهدي الله إليه، ويمن علينا في تفسير كتابه بالدلالة لنا على الصواب فيه.
وأنا أسأل الله بلطفه ورحمته السلامة في ذلك من الضلال [عن هدايته والعون على إصابة الحق والقول في تأويله بما يرضاه الله من الصدق] فكان أول ما بدأت به إن شاء الله من التفسير سورة ((لا أقسم بهذا البلد)) وأسأل الله التوفيق لرشد الحق بالتبصير، فاقرءوه إن شاء الله مستمعين، وكونوا لأحسنه متبعين فإن الله سبحانه يقول في الكتاب وهو يذكر من هدى من أولي الألباب: ((فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)) [الزمر:18] بصرنا الله وإياكم الحق فيما نزل من نور الكتاب وجعلنا وجعلكم ممن هدى من أولي الألباب.
 
 
 
 
بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم
 ((لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ(2))) فتفسير -والله أعلم- قول الله تبارك وتعالى، المعقول المفهوم عند من وهبه الله علما وعقلا ((لا أُقْسِمُ)) هو توكيد للقسم، والإقسام بالبلد التي كان فيها النبي عليه أرضى الصلاة وأفضل التسليم، وإنما معنى لا: ألا، وسواء قيل:لا في الإفهام أو ألا، وذلك فواحد هاهنا في المعنى، فكان قول الله: ((لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ)) إنما تفسيره كيف لا أقسم بهذا البلد تعظيما منه تبارك وتعالى وتفضيلا للبلد حين كان محلا ومنزلا لرسوله محمد، وتعظيم قدر محمد بن عبد الله وكبره صلوات الله عليه وعلى آله ما أقسم سبحانه بالبلد الذي كان محمد عليه السلام حالا فيها.
وتفسير ((وَأَنتَ حِلٌّ)) مفهوم عند كل من كان عالما بعربي اللسان لا يحتاج فيه عند أكثرهم إلي اشتغال بشرح ولا بيان لوضوحه عند علمائهم وجهالهم وما يدور فيهم من مفهوم اللسان بين كبارهم وأطفالهم، وهو عند العالم منهم والجاهل: الحال بالبلد والنازل، وسواء في لغة العرب قيل: فلان حل بالعراق، أو نازل فيه، أو قيل: فلان حال به وفي ساكنيه.
ثم قال تبارك وتعالى فيما كرر من القسم وثنى: ((وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ(3))) لما في الولد والوالد من آياته، وعجيب آثار تدبيره وقدرته، بينما الوالد كما جعله الله واحدا، إذ خلق سبحانه منه نسلا كثيرا، وولد بأعجب الأسباب والتدبير، وأدل الدلائل على قدرة الله القدير فأخرج من الوالد الواحد الفرد النسل الكثير ذا الألوف من العدد بنطفة مني تمنى باجتماع الزوجين الذكر والأنثى، وتصريف تدبير الله لتلك النطفة إذ صارت في الرحم فيما يصرفها فيه من التصاريف، بينما هي في الرحم نطفة إذ خلق النطفة علقة، ثم خلق النطفة  العلقة مضغة فخلق المضغة عظاما فكسا العظام لحما ثم أنشأه خلقا آخر، آيات من الله بعد آيات، ودلالة منه سبحانه لخلقه على ربوبيته وقدرته بعد دلالات، قال الله تبارك وتعالى: ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَاالْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)) [المؤمنون:12-14]
 
ولما كان الوالد وما كان منه من النسل فيهما عجب من آيات الله عجيب، ودلالة من دلائل قدرته وحكمته يفهمهما المفكر اللبيب أقسم تبارك وتعالى بهما لما أظهر من حكيم تدبيره فيهما.
واعلموا رحمكم الله أن كل ما أقسم الله سبحانه من الإقسام به منهما ومن غيرهما من أقسامه كلها في كتابه فعجب والحمد لله عجيب، وصواب عند الله لأولي الألباب مصيب، لأن الله تبارك وتعالى أعلى من كل عليٍّ، وإنه في الارتفاع والعظمة فوق كل شيء فليس شيء في جميع الأشياء إلا والله أعظم منه وأكبر وأعلى، فلم يكن ليكون القسم من الله سبحانه إلا بخلقه إذ ليس شيء من الأشياء من فوقه، والله سبحانه فوق كل شيء ورب كل شيء موات وحي.
وكذلك ما أقسم بما أقسم به من آياته وخلقه وصنعه دلالة للخلق على عظمته سبحانه وعلوه وارتفاعه، وأنه ليس من فوقه ما يقسم به لأنه الله رب كل شيء و خالقه، ومليك كل شيء في السموات والأرض ورازقه، ولا يقسم الله إذا أقسم إلا بما أقسم به من أسمائه، أو بعجيب ما خلق من آياته في أرضه وسمائه، فكلما أقسم به في إقسامه من التين والزيتون، والفجر، والسماء والطارق، والشمس والقمر، والليل إذا أدبر، والصبح إذا أسفر، وغير ذلك مما أقسم به في كتابه من جميع أقسامه التي أقسم بها لما أحاط علمه من عجيب أمرها باطن علمه فحكمة من حكم الله يدل إقسام الله بها على أنها من عجيب آياته، وما جعله الله دليلا لأولي الألباب على حكمته وقدرته.
ثم قال سبحانه: ((لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ(4))) يريد والله أعلم في تقويم واعتدال وانتصاب وصعد، لأن الله عز وجل لم يخلق في الإعتدال والإصعاد والتقويم والكبد والإنتصاب شيئا من الأبدان غير بدن الإنسان، وفي ذلك عجب عجيب من التدبير والحكمة والبيان، ولذلك ما يقول الله سبحانه العليم الحكيم: ((لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)) [العلق:4] تذكيرا من الله تبارك وتعالى لهذا الإنسان بنعمته فيما خلقه فيه من الكبد الذي هو التقويم والتصعيد، وتفضيله لخلق الإنسان على خلق جميع الأبدان ليشكر ما أنعم الله به عليه في ذلك من نعمته، وليعرف ما عرفه فيه من عجيب حكمته، وقد ظن غيرنا أن ما ذكر الله من خلق الإنسان في كبد: هو ما الإنسان فيه مما يلاقي في معائش دنياه من التعب والكد، والذي ذكرنا من تفسيره أولى وأشبه وأشرح وأنور وأفهم وأوضح.
ثم قال سبحانه: ((أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ(5))) كأن معنى ذلك والله أعلم: فكيف يغفل عن قدرة من أنشأه فيما أنشأه فيه من الكبد تذكيرا من الله تعالى للإنسان بما هو عليه من الاغترار به، والنسيان لنعمته وإحسانه إليه وغفلته عن قدرته عليه.
ثم قال: ((يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالا لُّبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ(7))) والكبد: المتراكم الكثير الوافر، الذي بعضه على بعض، وفي آثار بعض، يفهم هذا فيه المفكر الناظر.
ثم قال سبحانه : ((أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ(9))) تذكيرا من الله للإنسان بنعمته عليه في العينين واللسان والشفتين لما فيهن من القوة والمعونة على فعل البر والتقوى والإحسان، وما جعل له من القوة والمعونة بالعينين واللسان على تقواه والوصول بذلك إلي قبول ما نزل من نوره وهداه، وما ينال الإنسان بذلك أيضا مما أحل له من منافع دنياه، فسبحان من خلق الإنسان وفطره وأنشأه وأراه من حكمته في تسوية خلقه ما أراه، قال الله سبحانه: ((يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ) [الإنفطار:6،7].
ثم قال تبارك وتعالى: ((وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)) [البلد:10] فالنجد من الأشياء: فهو الظاهر العالي الذي لا يخفى، ولذلك ما قيل لما برز من الأرض وعلا: نجدا، إذ ذلك إذا كان المكان من البلاد بارزا مرتفعا قيل: إن تلك الأرض لنجد من الأنجاد، دلالة على أنها ظاهرة بارزة من البلاد.
وما ذكر الله سبحانه من هدايته للنجدين فهما والله أعلم الطريقان في مصالح الدنيا والدين اللتان جعلهما الله ظاهرين غير خفيين، ولذلك ما دعيا بهذا الإسم من النجدين إذ كانا قد هدى إليهما وكانا بارزين.
ثم قال سبحانه: ((فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ(15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ(16))) [البلد:11-16] فالعقبة والله أعلم عند من يعرف اللسان العربي ويفهم: فهي الشديدة من الأشياء، ولذلك ما سمي العقب في الأبدان عقبا، ولذلك ما سمى اللسان العربي الطرق التي في رؤوس الجبال عقابا، يراد أنها كانت مكروهة لشدتها صعابا، فلما كانت هذه الأفعال التي دل الله تبارك وتعالى عليها ورضيها وأحبها ورغب الناس فيها من فك الرقبة والإطعام في اليوم ذي المسغبة لليتيم ذي المقربة، والمسكين ذي المتربة شديدا تجشمها وتكلفها على من يبخل، ولما كان تكلفها على أكثر الناس مما يشتد ويثقل سماها الله تبارك وتعالى: العقبة، وأخبر بما جعل لمن تكلف شدتها وثقلها من كريم الجزاء والمثوبة.
والإطعام في اليوم ذي المسغبة: فهو الإطعام في يوم الجوع، والأزمة: فهي الجدب والضرورة والحطمة، لأن الجوع بعينه في اللسان: هو السغب، وبذلك قديما وحديثا كانت تسميه العرب، فأمر الله سبحانه بالإطعام في اليوم ذي المسغبة ورغب فيه تبارك وتعالى أكثر الرغبة، ودل بقوله: ((يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ)) على أن أفضل ما يتقرب به من أطعم قربة إطعام أيتام ذي الرحم والقرابة.
والمساكين الفقراء: فهو ذو المتربة، والمتربة من المساكين: فهو ذو الحاجة الملحة الشديدة، الذي ليس له معاش ولا بلغة، قد أفضى إلي التراب من شدة فقره، ووصل إليه من الحاجة والعري الذي هو فيه، وإنما سمى جميع من عرف اللسان العربية متتربا، لأنه قد أفضى من شدة الفقر إلي التراب إفضاء متتربا.
ثم أخبر الله تبارك وتعالى بقوله: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا)) بعدما رغب فيما دعا إليه من إطعام ذوي المسغبة وأيتام القرابات أنه إنما يقبل فعل ما تقرب إليه بالإيمان الذي معناه ترك كبائر معاصيه.
ثم ذكر الله سبحانه الصبر على فعل ما أمر به وجعل الصبر من أحسن ما دل عليه في كتابه فقال: ((وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ)) والمرحمة: فهي التراحم بين المؤمنين، والتعاطف بينهم بالرحمة، لأن الله سبحانه رحيم يحب الرحماء، كريم فوق كل كريم يحب الكرماء.
ثم قال تبارك وتعالى: ((أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18))) والميمنة: فهي اليمن والبركة، ثم قال: ((وَالَّذِين َكَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ (20)))
 والمشأمة: الشؤم الذي صاروا به إلي الهلكة، وصارت النار به على الكافرين بكفرهم وعصيانهم مؤصدة، والمؤصدة: المحيطة المطبقة بالأبواب المشددة، فنسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن نجا بتقواه من سخطه وعقابه، وأن يبعدنا من النار المؤصدة، وما فيها من عذابه لأهل المعصية والعدوان، وأن يسلمنا ويسلمكم من الهوان، وحسبنا الله ونعم المولى ونعم الوكيل، عليه توكلنا وهو رب العرش العظيم.
 
بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم
 قال ابوعبدالله محمد بن القاسم صلوات الله عليه: تفسير ((وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3))) فما ذكر الله سبحانه من هذه الأشياء وكرر منها في إقسامه بها فأبان من عظيم آيات الله لما فيها من عجائب حكمة الله لا يخفى ذلك فيها ولا يغبى على من وهبه الله عقلا ولبا، ولما فيها من عجائب الحكمة ودلائل قدرة الله العظيمة جعلها الله قسما من إقسامه لنبيه بإقسامه بها على ما جعل فيها من حكمة، وأي عجيب أعجب من صدوع بياض الفجر معترضا حتى يستطير في أفق السماء كلها عرضا بعد سواد الليل وظلمته، وكلال الأبصار بلونه وغشوته، ومن هَدَّأ في الليل من الخلق عن حركته، وسرّى بذهاب أوله ثم ذهاب وسطه وآخره، وانكفاته كله يسيح في الفلك، ويسلك فيما قدره الله له فيه من المسلك فقد يرى ذلك كله من شأن الليل وأمره من نظر إليه عند تولي آخره، ورأى الليل مقبلا من المشرق عند آخر النهار وإدباره فرأى أوائل ظلمة الليل مقبلة من أقاصي الفلك، ثم رأى انبساطه فيما جعله الله من المخرج والمسلك حتى يعلو ويظهر ويتسع وينتشر فيطبق الأرض كلها ظلامه، ويشتد سواده وإطباقه والتئامه ثم يسري الليل كما قال الله تبارك وتعالى: ((وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4))) وكل من عقل عن الله لا يشك في سراه ولا يمتري، لأن الليل له أول ووسط وآخر، ولا يجيء آخره حتى يذهب أوله ووسطه ويدبر، وهذا الدليل على مسير الليل وذهابه يبصره عيانا كل ذي عين، ويراه في إقباله وسراه ومسيره وذهاب أوله وصدره وانكفات أعجازه وأواخره عند ظهور الفجر واعتراض نوره عجب عجيب من آيات الله وتدبيره لمن فهم عن الله ما جاء في تبيينه لذلك وتبصيره، يقول الله تبارك وتعالى في بعض الأقسام بما أقسم به من آياته العظام: ((وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ)) [المدثر:33،34] تنبيها من الله تبارك وتعالى لمن عقل وفكر على ما أظهر من حكمته لمن فهم وأبصر بما قدر من أحوال الليل والنهار، وما أرى سبحانه من تدبيره لهما من الآيات العظام، والفجر فإنه من عظيم آيات الله وعجب عجيب من آثار قدرة الله في تنفسه وصدوع نوره، وما قدر الله بظهوره من عجيب حكمته وأموره، وتحرك هذا الإنسان وجميع ما يسكن بظلمة الليل من الحيوان عند طلوع الفجر فيما يتحركون له من المعاش والشأن، وما قدر الله سبحانه من الحكمة لذلك وفيه فتكل وتصغر عقول الناس عن معرفة كنهه والإطلاع عليه ولما في الفجر من آيات تدبير الله وحكمة ما جعل الله تعالى من قسمه.
والليالي العشر التي ذكر الله تبارك وتعالى: فهي الليالي التي آخر أيامها يوم الأضحى، فأقسم الله بها وذكرها لكي ما يعرف الناس فضلها وقدرها وما ذكر الله سبحانه من الشفع والوتر فمن الآيات عند ذوي الألباب والفكر، والوتر: فهو الواحد الفرد، والشفع: فالاثنان من العدد، وإنما أقسم الله من ذلك بما أقسم به لنبيه بما ذكر في كتابه على أن الشفع والوتر آية لذوي الألباب والفكر.
ثم قال سبحانه: ((هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ(6))) يعني سبحانه هل في الإقسام بهذه الآيات من الفجر والليالي العشر والشفع والوتر والليل إذا يسر مقنع في القسم لذي حجر، وذو الحجر فتأويله والله أعلم عند كل من يعرف اللسان العربي ويفهم فإنما يخرج على أنه ذو العقل، والعقل فمعناه في اللسان: الحفظ، ولذلك قيل: فلان عاقل لبيب يراد أنه حافظ للفهم وللصواب مصيب.
ومن الدلائل على أن العقل هو الحفظ بعينه في معناه وقصده وتبيينه قول جميع العرب إذا أراد حفظ البعير وتشديده بالحبال: يا فلان اعقل البعير بالعقال، يريدون بعقله حفظه بالعقال، وضبط الحفظ فهو العقل نفسه.
والحجر: فهو أيضا من حجر الشيء من الأشياء وحفظه، وأحاط بالشيء فلزمه مثل العقل بعينه في تفسيره وتبيينه، وذو الحجر فهو ذو العقل، وذو العقل: فهو ذو الحجر، وإنما يراد بذلك ذو الحفظ واللزوم للأمر المعقول المفهوم.
ومخرج هذه الأقسام التي ذكر الله في سورة الفجر عند قوله: ((إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ(14))) تخويفا منه تبارك وتعالى ووعيدا لعصاة العباد، وذلك ما ذكر فعله في النقمة لعاد إرم ذات العماد، والعماد: جماعة العمود، وقد جاء فيما جاء من الأخبار عن عاد أنهم كانوا يسكنون المظال التي ترفع بالعماد، والعرب تقول لمن يسكن المظال والأخبية ساكن العمود، فإن يكن ما ذكر من العماد سكناهم في بيوت العمد، فالعماد جميعها، وذلك فيما يفهمه كل أحد.
وقد يمكن والله أعلم عند من تفكر وتفهم أن يكون ما ذكر الله من العماد عمدا كان في بعض ما كانوا فيه من البلاد من حجارة أو بناء أو خشب نصبوها وصنعوها في بعض بلادهم لا يقدر على مثلها غيرهم من جميع الناس لما كانوا عليه من شدة البطش، وما زيدوا من البسطة في الخلق على كل الأجناس، ألا تسمع كيف يقول الله سبحانه: ((الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاد(8)))ِ وهو يخبر عن هذه الآية المذكورة من عاد.
ثم قال : ((وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ(9))) وثمود فقوم صالح صلى الله عليه، والوادي: فبلد في بعض نواحي الحجاز معلوم معروف، ويقال له: وادي القرى، وبلد ثمود موضع منه يسمى الحجر من يأتيه ممن في تلك الأرض من الناس مساكنهم فيه تعاين وترى قد نحتوها في أجواف الجبال نحتا، وجابوا فيها قصورا منحوتة وبيوتا.
ثم قال سبحانه: ((وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ(10))) والأوتاد والله أعلم: فأبنية كان بناها فرعون باقية إلى اليوم بأرض مصر تسمى الأهرام لم ير مثلها في جميع أبنية ملوك الناس في الجاهلية والإسلام كأنها لإشرافها وعظمها هضاب من الجبال عظام الأصول مصعد إلي أعلى يراها في ما أخبرت من أشرف على أرض مصر عن مسيرة ليال قد بنيت بالصخور الكبار العظام الرواسي، التي لو اجتمع على مثل الحجر الواحدة منها عصبة من الناس لما حركوه فيما ذكر من رآها ولا أزالوه، ترى الحجار في أعالي الأهرام فلا يدري الناظر كيف رفعوه، وتلك الأهرام فيما أخبرني من رآها سبعة، وهن على ما الله أعلم بقدره من الطول والعرض والسعة، يقال: إن منها ما طوله في جو السماء أربعمائة ذراع صعدا، ويقال: إن طول بعضها خمسمائة ذراع في الهواء مصعدا، قدرت حجارتها ونحتت وجوهها، ثم أطبق بعضها على بعض عند بنائها ورصفها [فليس بينها زعموا مدخل الخلال من شدة تراصفها فأسست عند ابتداء بنائها على عرض عظيم] من السعة فجعل عرض أساسها ما بين أذرع مذروعة، ثم ذهب في الجو صعدا ينقص عرضها كلما رفعت شيئا حتى دقت أعاليها بعد عرض أسافلها، وهكذا ما أخبر من صفاتها كلها.
وكان أبي رضوان الله عليه يخبرني أنه كان يسمع أن تلك الأهرام كانت قبورا للعذارى من بنات الفراعنة، وقد قال بعض الناس: إن فيها كنوزا لهم كنزوها في الأزمان الجاهلية، وقد ينبغي لمن تفكر وتفهم أن يوقن بأيقن اليقين ويعلم لتفهمه لقول الله عز وجل في الكتاب: ((وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ)) أن هذه الأوتاد من أعظم آثار فرعون فيما كان فيه من البلاد.
ثم قال سبحانه: ((الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ(12))) فذكر تعالى هذه الأمم الماضية من عاد وثمود، وفرعون ذي الأوتاد، وأخبر بما كانوا عليه من الطغيان في البلاد، وما أكثروا فيها من الفساد، وكيف كان بطشه بهم وفيهم حين انتقم منهم، ونزل العذاب عليهم قال الله سبحانه: ((فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ(13))) تفسير قول الله والله أعلم: ((إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ)) أن الله لمرصد معد لعذاب من خالف أمره وعصاه من العبيد.
وتفسير قول الله والله أعلم: ((فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ)) مفهوم إن شاء الله عند من فهمه الله بعض تأويل الكتاب أنه إنما أراد أن يفهم كيف سرعة انتقامه وعقوبته إذا أراد أن يأخذ أهل معصيته ليعقل ويفهم من تفكر ويعلم أن سرعة عقوبته حين يأخذ أهل معصيته، وفي سرعة وقوعها لمن مضى كسرعة صبه السوط في وقوعه ضربة واحدة وخطفته.
وقد يمكن والله أعلم أن يكون ما ذكر الله من صبه لهذا السوط من العذاب على هذه الأمم التي ذكر أنه دمرها فيما نزل من الكتاب خبراً على أن هذه الأمم التي ذكرها وأخبر أنه أهلكها بفسادها ودمرها إنما أهلكها بجزء من أجزاء العذاب سماه سوطا في تنزيل الكتاب ليعلم من عقل أن ما أعد الله لهذه الأمم في الآخرة من العذاب والنقم التي تخلد لهم ويخلدون فيها فلا تنقضي ولا تنصرم ليست كالسوط من العذاب الذي عذبوا به في دنياهم ففنوا به في الدنيا هم وأفناه الله حين أفناهم فنعوذ بالله ورحمته من سخطه وعقابه ونسأله النجاة بالعون على طاعته من سطوة عذابه لمن خالفه وعصاه، ولم يؤثر رضوانه وتقواه.
ثم ذكر سبحانه جهالة هذا الإنسان وما لم يزل عليه الناس إلا من عصم الله من الغفلة والخطاء والنسيان بقوله: ((فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16))) وتفسير ما ذكر الله من هذا والله أعلم أنه إذا ما ابتلى الإنسان بتوسعة رزقه وعطاياه، وما ينال بتوسعة الرزق من النعم في دنياه غفل الإنسان بذلك عن ذنوبه وخطاياه، فظن أن ما نال من رزق الله بكرامة من الله لرضاه عنه، وأنه قد سلم عند الله، وفيما بينه وبينه، ويغفل عن ذنوبه وخطاياه، ولا يفهم أنه أراد امتحانه وابتلاه ليرجع عن معصيته، ويعمل برضوانه وطاعته، ويشكر ما أولاه عند ذلك من نعمته.
وأما إذا ما ابتلى الله سبحانه الإنسان فقدر عليه رزقه، وقدره عليه أن لا يبسطه ولا يوسعة لما هو أعلم به في ذلك من صواب تدبيره في بسطه إذا شاء رزق الإنسان وتقديره بعد حكمته في كل، وعلمه بما أصلح وأرشد وأصوب وأخبرُ به، فعند ذلك ما يقنط الإنسان ويسوء ظنه، ويرى أن الله قد سخط عليه وأهانه، ويغفل، غير أن أفعال الله التي تأتي من الله في الأحوال كلها على مالا يشك من يعقل أنها عليه من صواب عدله.
ثم قال تبارك وتعالى: ((كَلا بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ(18))) يرشد ويدل على ما يحب ويرضى من إطعام المسكين وإكرام اليتامى لرأفته سبحانه باليتيم والمسكين، وما أراد من عباده في إطعام المسكين، وإكرام اليتيم من الحق المحمود الكريم الذي يعطي عليه من ائتمر فيه بأمره الثواب العظيم.
 وفي قول أرحم الراحمين: ((كَلا بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ(18))) دليل والله أعلم على أن ما يرى العباد من التقدير على من قدر عليه الرزق من المرزوقين إنما كان لما عليه أكثر الناس من الغفلة عن إكرام اليتيم، والحض على طعام المسكين، ألا تسمع كيف يقول سبحانه: ((كَلا بَل لا)) تفسير قوله والله أعلم: ((كَلا بَل لا)) يدل على أنهم لو أكرموا اليتيم وأطعموا المسكين وفعلوا في ذلك ما أمرهم به الرحمن الرحيم لما قدر رزقه ولوسع رزقه بينهم.
ثم قال تبارك وتعالى: ((وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا(19))) والأكل اللم: فهو الأكل السريع والجم الذي يشبه في سرعته وضمه ما يرى من الفم وعيدا منه سبحانه لمن أكل تراث اليتامى، ونهيا عن ذلك وتحذيرا لمن فعله بأن أنذره عذابا أليما.
ثم قال: ((وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا(20))) والجم: الكثير المتصل الأوفر الذي لا ينقطع ولا يفتر نهيا عن فرط الحب للدنيا والمال لما يصير إليه من أفرط في حب ذلك من الركوب للظلم في كثير من الأمور والأحوال.
ثم أخبر سبحانه بيوم انتقامه وعقوبته لمن خالف ما أمره به من تقواه وطاعته فصار إلي الجرأة على معصيته، وعما يكون في يوم القيامة من عظيم آياته يقول: ((كَلا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى(23))) ودك المدكوك: فهو تكسيره وتحطيمه ودق بعضه ببعض وتهشيمه، وذلك حين تدك الأرض بالجبال فتصير الجبال كالكثيب المنهال، قال الله تعالى : ((وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً)) [الحاقة:14].
وما ذكر الله من مجيئه: فهو مجيء أمره ونقمته وظهور ما يظهر يوم القيامة من عظيم آياته، وما يكون يومئذ من عقابه لأهل معصيته، فلما بدا من آيات الله العظام في يوم القيامة ما كان لا يعاين ولا يرى من فعله في دار الدنيا فرأى الخلق يومئذ من أخذ الله بانتقامه للعاصين، وشدة زلزال بطش عقاب الله بالظالمين، ما لم يكونوا في دار الدنيا يرون جاز أن يسمي الله -تبارك وتعالى كما يسمعون إتيان أمره وآياته عند أخذه لأهل معصيته لشدة بأسه وعقابه وما يصير إليه من أطاعه من كريم ثوابه -إتيانا منه، إذ كان ما ظهر في ذلك كله من الآيات العظام إنما كان بقدرته وعنه، وذلك مفهوم في لسان العرب عند من كان ذا لب قد يقولون اليوم في مفهوم اللسان بينهم عندما يكون من سطوات ملوكهم فيهم، وعند حلول جنود ملوكهم بمن يعصيه: جاء القوم مالا يطيقون. حين سطا جنود ملكهم بهم في الدنيا، ويقولون: جاءهم الملك والخليفة، وإنما جاءتهم جنوده المبعوثة، فلما كان يبدو للخلق في يوم القيامة من الزلزال والآيات العظيمة، بما يكور من الشمس والقمر، وينثر من النجوم وما يبدي الله _ ملك الملوك وربهم الحي القيوم_ من الآيات العظام التي يظهرها في ذلك اليوم، وكأن العصاة الظلمة من الآدميين عنها وعن الحذر بها في دار الدنيا غافلين، وعما أنذرهم الله ورسله منها معرضين كان معقولا عند من فهم عن الله من ذوي العقول والأفهام قول الله ذي الجلال والإكرام: ((وَجَاء رَبُّكَ)) و ((هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ)) [البقرة:210] لما جاءهم يوم القيامة أمر الله، وبدا لهم ما لم يكن يبدو من انتقام الله، وحكم تبارك وتعالى بينهم بالحق والفصل، ووضعت موازين القسط التي معناها ما يكون يومئذ من العدل الذي لا يغادر معه صغيرة ولا كبيرة من الإساءة إلا أحصيت، ولا حسنة من الحسنات تدق ولا تجل إلا أحصي ثوابها وحصرت، وأحاط بالظالمين يومئذ من بأس الله ما كانوا يحذرون، ورأوا حينئذ كل ما كانوا به ينذرون، وحكم بين الخلق فيما كانوا يختلفون، وبدا لهم في ذلك اليوم الأعظم ما كانوا به من جهنم يوعدون، قال الله سبحانه: ((وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ)) والمجيء بها فهو حضورها، وإبداء الله لها فرأوها وسمعوا شهيقها وزفيرها، وأبصروا تغيضها ولهيبها وسعيرها، وأخذتهم الأغلال والسلاسل وأحاطت بهم الكروب والزلازل، وصف الروح والملائكة صفا صفا، وامتلأت قلوب العاصين رعبا وخوفا كان حضور أمر الله في ذلك كله مجيئه جائز به مفهوم فيه ومعه أن يقال: جاء ربك، حين جاءت البطشة الكبرى، وبدا من الله في ذلك ما لم يكن يعاين الكفار في دار الدنيا، وجاء يومئذ ثواب الله لأهل الطاعة والتقوى من جنات النعيم التي يخلدون فيها فلا يفنون، ولا يفنى ولا يتوهم الخبر _في المجيء من الله سبحانه والإتيان_ انتقال ولا زوال من مكان إلي مكان جل عن ذلك وتبارك وتعالى إذ ليس كمثله شيء، ولم يكن له شيء مثلا، ليس بزائل سبحانه ولا منتقل، ولا يوصف بهبوط من علو إلي سفل، وليس يمثل سبحانه في شيء من أموره كلها بمثل ولا ند، ولا مثل له ولا نظير ولا كفؤ ولا شبيه ولا عديل، له الأسماء الحسنى والأمثال العلى، نعوذ بالله من سخطه ومعصيته، ونسأله أن يؤمن روعنا يوم القيامة بعفوه ومغفرته، ويسعدنا بإيثار تقواه وطاعته لنا يوم الفزع الأكبر باتباع مرضاته، ولا حول ولا قوة ألا بالله العلي العظيم، عليه توكلنا وهو رب العرش العظيم.
ثم قال ذو العزة والعظمة والقدرة فيما ذكر من الخبر الصادق عن يوم القيامة والحسرة: ((يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى)) وتفسير ذلك أن الإنسان سيذكر بما فرط فيه من الطاعة والتقوى، فيندم حيث لا ينفعه الندم عندما يعاين ويرى من عظيم الآيات في يوم البطشة الكبرى، فيندم ويفكر ويتذكر وأنى له التذكر وعند ذلك ما يقول : ((يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي(24))) يعني في أيام دنياه، وقيل: ما كان من وفاته تذكر أو ندامة على ما فاته من تقوى الله وطاعته، وألا يكون قدم ذلك قبل حضور أجله وموته ليوم بعثه ونشوره وخلده فيصير بطاعة الله لو كان أطاعه واتقاه إلي الثواب الذي أعده الله لمن يتقيه ويطيعه ويخشاه.
قال الله سبحانه : ((يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى(23))) وتأويل ذلك: أن الإنسان فرط في الذكرى حتى انقطعت عنه أيام حياة الدنيا التي جعلها الله دار المهل والبلوى، فترك الطاعة والتقوى حتى صار إلي الدار الآخرة التي ليست بدار مهل ولا بلوى، وإنما هي دار ثواب وعقاب وجزاء يجزى فيها كما قال سبحانه تبارك وتعالى: ((لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوابِالْحُسْنَى)) [النجم:31].
ثم قال سبحانه وهو يخبر عن شدة عذابه وانتقامه لمن عصاه وعقابه: ((فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ(26))) وتأويل ذلك أنه لا يعذب عذاب الله أحد من المعذبين، ولا يوثق وثاقه أحد من الموثقين، فنعوذ بالله من سخطه ونقمته، ونسأله العفو والمغفرة برحمته.
ثم قال الله تبارك وتعالى _وهو يخبر عن نفوس المؤمنين في يوم القيامة الذي هو يوم الدين، وقوله عند فصله بين خلقه لحكم عدله وحقه فيما فصل بينهم تعالى بالعدل في مقامهم الذي جمعوا فيه لحكم الفصل، وصار العاصون إلي مقرهم من النار، وقيل لنفوس المتقين الأبرار الذين ألقى الله عليهم السكينة من روعات ذلك اليوم فلم يرتاعوا وأنزلت على قلوبهم الآمنة من فزع يومئذ فاطمأنوا ولم يفزعوا_ : ((يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27))) إذ في اطمئنانها يوم الفزع الأكبر أعجب العجب وأعظم المنة ((ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28))) وتفسير رجوعها إلي ربها: هو رجوعها إليه فيما وعد من ثوابها، قد رضي سبحانه منها بتقواها وطاعتها، ورضيت بما صارت إليه من الثواب والنعيم في جنتها، والنفس هاهنا المطمئنة: جميع نفوس المؤمنين الذين يكونون يوم الفزع الأكبر آمنين مطمئنين، وسواء قيل: يا أيتها النفس المطمئنة، أو قيل: يا أيتها النفوس، عند من يفهم في ذلك ما أفهمه الله الملك القدوس كما سواء في الشرح والبيان قيل: يا أيها الناس، أو يا أيها الإنسان.
ثم قال تبارك وتعالى للنفوس المطمئنة من أهل التقوى: ((فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30))) ودخولهم في عباده فهو مصيرهم في الجنة إلي مقر أوليائه، ولحوقهم بمن عنده فيما أعد لهم من ثوابه، والحمد لله رب العالمين، ونسأل الله أن يجعلنا من أوليائه المؤمنين الذين يكونون في يوم الفزع الأكبر آمنين مطمئنين، وصلى الله على محمد النبي وعلى أهل بيته المتقين.
 
 
 
بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم
((هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1))) والغاشية: الساعة من يوم القيامة المنتظرة الجاثية التي تغشى الناس بغتة وهم عنها غافلون، ولا يعلم وقت مجيئها وغشيانها إلا الله رب العالمين.
وحديث الغاشية فيما ذكر الله من أمرها وإتيانها وخبرها وما يكون فيها من البعث والحساب وما أخبر به سبحانه من الثواب والعقاب، ومن حديث الغاشية ما ذكر الله في هذه السورة قال الله سبحانه وتعالى: ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ (3))) وما أخبر فيها عن الوجوه الناعمة، والوجوه يومئذ الخاشعة: فهي الوجوه الذليلة بعصيانها الخاشعة.
والعاملة الناصبة: فهي التعبة المكروبة الدائبة التي قد أعملها كرب العذاب والنار وأتعبها، فهي مشغولة مفدوحة بعذابها دائبة، ألا تسمع كيف يقول سبحانه: ((تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4))).
ثم قال تعالى: ((تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5))) وتفسير الآنية: هي النار الحامية، فمن أعمل أو أشغل أو أدأب أو أكرب أو أنصب ممن أنصبه وأعمله وشغله كرب العذاب والنار، وما يشرب من العين الآنية من الماء الحميم الحار.
ثم قال تبارك وتعالى: ((لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِن ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِن جُوعٍ (7))) والضريع في لسان العرب: فهو اليابس الضارع من الشجر، والضارع في اللسان _فـأعلم من الأشياء_: فهو النحيف اليابس الذي ليس بذي لين ولا ارتواء، تقول العرب لما يبس من شجرة خشناء تدعى (الشبرق) إذا يبست وأكلت وذهبت رطوبتها ولينها وعادت عيدانا يابسة وشوكا وذبلت: رأينا في أرض كذا وكذا ضريعا من شبرق يابسا مكدودا، والضريع: فمعناه اليابس القاحل الخشن الذي ليس برطب ولا لين، فهو لا يزيد كل بدن أكله إلا يبسا وعجفا ونحافة، وهزالا وخشنة وجفوفا، فنعوذ بالله الرحمن الرحيم من عذاب النار وأكل الضريع والزقوم.
ثم ذكر سبحانه أهل الطاعة والتقوى الذين صاروا بسعيهم في رضوانه إلي أرضى الرضى فقال فيهم تبارك وتعالى: ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ (8))) والناعمة: فهي الحسنة الألوان والأسباب ذات البهجة والنضرة والبهاء والازدهار، التي قد رضيت ما كان من سعيها في دار الدنيا لماَّ رأت ما أثابها الله به من النعيم في جنة الخلد والبقاء، قال سبحانه وهو يذكر في هذه السورة بعض صفات أوليائه في الآخرة: ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ)).
ثم أخبر سبحانه بما نعمت فيه من الثواب والكرامة فقال: ((فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10))) وتفسير العالية: المرتفعة السامية.
ثم قال تبارك وتعالى: ((لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً (11))) وتأويل ما ذكر الله سبحانه من اللاغية: فهي الكلمة القبيحة المشينة، يخبر سبحانه أن أولياءه لا يسمعون في الجنة لغوا ولا كلاما ممقوتا مؤذيا، قال الله سبحانه: ((لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاتَأْثِيمًا (25) إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا (26))) [الواقعه:25،27].
وأما قوله سبحانه: ((فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12))) فالعين قد يمكن أن تكون العيون الكثيرة، لأنه قال سبحانه في موضع آخر من كتابه: ((الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45))) [الحجر:45] وقد يدعى الجميع باسم الواحد في اللسان، وقد قال: ((يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ)) [الفجر:27] و((يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ)) ثم قال تبارك وتعالى: ((فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ (13))) السرر المرفوعة: فهي المستقلة المرتفعة، وتلك أحسن ما يكون من السرر هيئة وصنعة.
ثم قال سبحانه: ((وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ (14))) يعني سبحانه أنها مهيآت منتشرة موضوعة حاضرة.
ثم قال: ((وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15))) وتأويل ما ذكر الله من النمارق المصفوفة: فهو المطابقة المعتدلة المصفوفة، وذلك من وصفها وهيآتها أحسن ما تكون عليه من صفاتها ((وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16))) فهي الكثيرة المبددة، وذلك من أحسن وضع الزرابي خاصة.
ثم قال سبحانه وهو ينبه على الفكرة في آياته والإستدلال على وحدانيته وحكمته بما خلق في أرضه وسمواته حين يقول تبارك وتعالى: ((أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20))) فكل ما ذكر الله سبحانه من هذا كله فمن عجيب آياته وفعله، ومن الدلائل على قدرته ووحدانيته وحكمته، تدل كل من فكر ونظر فيه ورمى ببصره متأملا إليه على أن صانعه في الكبرياء والقدرة والجلال، الله الذي لا يشبهه شيء، ولا يمثل بأمثال فأي عجب أعجب ودليل على قدرة الله أقرب مما يرى من رفع السماء في موضعها، وما هي عليه من استقلالها ورفعها بغير عمد ثابتة لا تزول، وهي من الكبر والعظم على ما تحار فيه العقول مع ما فيها من الآيات من الشمس والقمر والنجوم المضيئات، وما قدر الله من مسير الشمس والقمر من علم عدد السنين والحساب والأوقات والليالي والأيام والحر والبرد والساعات.
وما ذكر الله سبحانه من خلق الإبل فعجب عجيب إذا نظر فيه المفكر اللبيب لما جعلها الله سبحانه عليه من عظيم الخلق وشدة أسر الأوصال، وما كفى الله بها الناس من حمل فادح الأثقال، وما جعلها عليه من قوتها وشدتها من السخرة والتذلل، وجعل فيها من الجمال وبلوغ الحاجة والسفر البعيد، قال الله ذو الجلال والإكرام وهو يذكر ما جعل من النعمة في الأنعام: ((وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (7))) [الأنعام:5-7] فهي كما قال سبحانه تحمل من الأثقال، وتطيق من كبار الأحمال مالا يحمل غيرها من الدواب التي جعلها سخرة للركوب والأسفار فسبحان الكريم الرحمن الجبار، وأي دليل أدل على ما ذكر الله سبحانه في تسخيره مما هي عليه من الذلة مع عظم خلقها وشدة أسرها، ومايدل عليه من غلبتها الكبير من الدواب والحيوان لما هو أشد أضعافا من الإنسان فمن يرى الإبل وتسخيرها وأمرها إلا علم أنها لم تذل فنقوى عليها إلا بتذليل الله وتخيرها فأمن الإنسان من مغالبتها وقهر صيالها وشدتها، ولولا تسخير الله لها ما كان الناس لها مقرنين، فسبحان الله وبحمده الرؤوف الرحيم.
وقد زعم  بعض من الجهال ومن لا يعرف ما نزل الله به من القرآن في عربي اللسان أن الإبل التي ذكرت غيم السحاب، وهذا لا يحتاج لقائله _لانكشاف جهله_ إلي جواب، والحمد لله رب العالمين كثيرا، الذي ذلل الأنعام وسخرها تسخيرا.
وما ذكر الله سبحانه من الجبال ونصبها فمن دلائل آيات الله وعجائبها إذ الجبال في كبرها وعظمها وثقلها التي فاقت فيه جميع ما في الأرض كلها _أشد ما في الأرض علوا وانتصابا وأرفعه في الجو سموا وذهابا، فمن فهم وفكر فعقل وأبصر علم أن الجبل في عظم أسرها وثقلها وقوتها في ذلك لجميع ما في الأرض كلها لم تستقل منتصبة، ولم تثبت منذ كونت فيها راسية_إلا بالله الذي أمسكها وقُوَّته، وما أقلها وأثبتها من قدرته، فسبحان من نصبها في جو السماء مع ما هي عليه من عظمها وثقلها، وجعل فيها مع شدتها وصعوبتها ما جعل من فجاج سبلها التي جعلها مسالك ذللها طرقا لمن سلكها من أهلها.
وما ذكر الله سبحانه من سطع الأرض الذي تفسيره ما جعلها عليها من الدحو والسعة والعرض فعجب عجيب من الآيات، ودلالة منيرة على قدرته من الدلالات.
ثم ذكر سبحانه لرسوله صلَّى الله عليه وآله وسلم: ((فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ(22))) وتفسير هذا والله أعلم: أن الله أمر رسوله صلَّى الله عليه وآله أن يذكرهم بالله وآياته، وبما أمر به من طاعته والإنتهاء عن معصيته، وما وعد على الطاعة من مثوبته وبما توعد به أهل المعصية من أليم عقوبته.
وتأويل ((لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ(22))) أن النبي صلَّى الله عليه وآله لم يؤمر بتسطير حسابهم، وأن حسابهم إلي الله خالقهم وربهم.
فأما قول الله تبارك وتعالى: ((إِلا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ(24))) فيفهم تأويله بقوله: ((فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ)) كأن تفسير ذلك أنه إذا ذكر فسيذكر من تذكر إلا من تولى وكفر، فأخبر الله أنه سيعذب من تولى وكفر العذاب الأكبر.
ثم أخبر سبحانه ((إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26))) وتفسير الإياب: الرجوع إلي الله والإنقلاب، ثم أخبر تعالى بأن عليه حسابهم، والحساب هاهنا تأويله: المحاسبة بأعمالهم و الجزاء منه لهم بالعقاب على سيء أفعالهم، فنسأل الله أن يجعلنا ممن يذكّر ما ذكر به، وأن يمن عليها بفهم ما نزل من كتابه، والحمد لله رب العالمين كثيرا، وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم تسليما.
 
 
بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم
((سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى(1))) فتأويل سبح والله أعلم تبارك وتعالى: بَعِّد اسم ربك ونزهه عما يصفه به المشركون، وتقوَّل به من الكذب عليه العماة الذين لا يعقلون من الإلحاد في أسمائه وصفاته، والكفر لنعمه، والعمى عن حجته وآياته.
ثم قال سبحانه: ((الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى(2))) وكذلك الله تبارك وتعالى خالق كل مخلوق بأحسن التعديل والتسوية، وواضع كل ما صور في خلقه من الصور في مواضعها بأحسن التقدير والتهيئة.
ثم قال سبحانه: ((وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى (5))) فالله سبحانه الذي قدر الأشياء كلها على أحسن المقادير، وهدى إلى كل رشد في دين أو دنيا وصواب، ودل على كل بركة وخير [و]هو [الذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى]، والمرعى: فهو الرعي الذي ترتعيه بهيمة الأنعام التي جعلها الله منافع لبني آدم يقول الله ذو الجلال والإكرام: ((أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ(73))) [يس:71_73].
وقال سبحانه وهو يذكر نعمته على البشر بما جعل في الأرض من المعائش لهم وإحسانه تعالى إليهم، وبما كفاهم من أرزاق ما أعطاهم من بهيمة الأنعام وخولهم فقال: ((وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ)) [الحجر:20] وما ذكر سبحانه من شبه الرعي إذا خرج وبدا بما هو له شبيه من خفيف الغثاء، والغثاء: القذا الصغار الخفاف الذي على السيل إذا جرى، والأحوى: فهو الأصفر من أطرافه، وكذلك الرعي فهو يخرج إذا بدا بنبت أصفر من جوانب ورقه، والعرب تدعو الشاة إذا كان خداها أصفرين: حوّى، وهم على هذا في اللسان مجتمعون غير مختلفين.
ثم قال سبحانه: ((سَنُقْرِؤُكَ فَلا تَنسَى(6))) وتفسير سنقرئك والله أعلم: سنعلمك القرآن ونقص عليك فيه العلوم والأخبار ((فَلا تَنسَى)) أي فلا تكن ناسيا، أمرا منه سبحانه لنبيئه بأن يكون ذاكرا لا غافلا ولا متوانيا، يقول الله سبحانه: ((إِلا مَا شَاء اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى(7))) إخبارا عن قدرته على أن ينسي إن شاء الله من خلقه ما أراد أن ينسيه، ولا يكون ذلك إلا بأمر وعلة من العلل لحكمة الله وعدله يوجب ذلك عليه، والله كما قال سبحانه الذي يعلم جهر من جهر وسر من أسر.
ثم قال سبحانه: ((وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى(8))) تبشيرا منه تبارك وتعالى لنبيه صلَّى الله عليه وآله بأنه سييسره لكل يسر ويسرى في دينه ودنياه، وما يرتضيه.
ثم أمره سبحانه بالتذكير للعباد بما أمره بتذكيرهم به من نعمه وآياته والمرجع إليه والمعاد فقال: ((فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12))) يقول سبحانه: إن نفعت الذكرى فيهم لما هم عليه من غفلتهم ومعاصيهم.
ثم أخبر بمن يصير إلي التذكر الذي هو الذكر فأخبر أنه من خشي من خلقه واتقى، وأن الذي يتجنب الذكرى هو من خلقه الأشقى، فأخبر أن الأشقى الذي لا يصير إلي الذكرى هو الذي يصلى النار الكبرى، والنار الكبرى نار جهنم التي لا يشبهها نار من النيران في العظم، و التي هي أبدا تلهب وتضطرم نسأل الله بعفوه ورحمته أن يعيذنا وإياكم عنها، وأن يسلمنا بمنه وفضله ويسلمكم منها قال الله سبحانه وهو يذكر من يصلى النار الكبرى: ((ثُمَّ لا يَمُوتُفِيهَا وَلَا يَحْيَى (13))) وكذلك من كان في تلك النار من الكفرة فليس بميت ولاحي، لأنه من حريقها ـ نعوذ بالله منها ـ وعذابها في أخزى الخزي ((لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا)) [فاطر:36] فينقطع عنه ما هو فيه، بل العذاب في النار والخزي والهوان دائم عليه فليست حياته فيها بحياة إذ لم يكن له فيها إلا العذاب الذي أخزاه، يقول الله سبحانه: ((قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى(15))) وهذا من القول والخبر صدق مفهوم المعنى.
ثم أخبر سبحانه بأثرة من يؤثر الحياة الدنيا التي تنقضي وشيكا وتنفى على دار الآخرة التي ليس للحياة فيها غاية ولا انقضاء كل من فيها فمخلد من المطيعين والعاصين في داره، إن كان من أهل الجنة ففي الجنة، أومن أهل النار ففي النار فقال تعالى: ((بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى(19))) يقول سبحانه: إن هذا من الخبر عن إفلاح من تزكى، وذكر اسم ربه فصلى لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى.
 
 
 
بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم
 ((وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ(1))) لما ذكر الله سبحانه من القسم سماءه فلِمَا فيها من عظيم آياته، إذ هي على ما جعلها الله عليه من عجيب الصفات في العظم والكبر والإستقلال بغير عمد، وما فيها من عظيم الآيات بما قدر الله فيها وبها من جري النجوم الجاريات، وما جعل الله بها من الحر والبرد، وعلم السنين والحساب والأوقات.
والطارق: فهو النجم ذو الذنب الذي يرى ليلا، ويطرق في الحين الطويل فقد رأيتموه ورأيناه مرة بعد مرة وإنما قيل له: الطارق والله أعلم لأنه لا يرى إلا بالليل، والعرب تسمي ما جاء من الأشياء ورئي ليلا آتيا وطارقا، وهذا النجم يرى في الزمان بعد الزمان ليلا غربيا ومشرقا.
وإنما جعله الله قسما لعلمه بما فيه من أسرار الآيات يقول الله فيه سبحانه عالم الخفيات: ((وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3))) والثاقب: فهو الذي يبين نوره ويثقب، وفي مثل هذا من أمر النجم العجب العجيب، وإذا قال الله تعالى في شيء من عجيب آياته وأمره: ((وما أدراك .... ثم ما أدراك)) فليعلم من سمع أن ذلك لعظم المذكور وكبر قدره.
ومخرج القسم من الله سبحانه بالسماء والطارق في قوله تعالى: ((إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ(4))) وتفسير ((إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ(4))) هو أن كل نفس لما عليها حافظ يحفظ أعمالها، ويحصي عليها ألفاظها وأقوالها.
ثم نبه الله سبحانه الإنسان على أن ينظر في العجيب من آياته، وفي ما يدله على قدرة الله وربوبيته إذ يقول سبحانه: ((فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ(6))) والماء الدافق: فهو النطفة المندفقة من الإنسان عند إمنائه، و الدافق: فهو الماء المنصب دفعة واحدة، ودفقة المندفق، وأي آية أعجب أو تعجب أكبر وأصوب من خلق الإنسان من الماء المهين الدافق، فسبحان الخالق الذي خلق الإنسان من أضعف الأشياء وأوهنها وأقلها قوة وأمهنها، فجعله على ما جعله عليه مخلوقا من الماء الميت المهين، فتبارك ذو الحكمة وأحسن الخالقين، فأنشأه من الماء المهين فإذا هو خصيم مبين حيا ناطقا مفكرا قائما قاعدا مقبلا مدبرا، يقول الله سبحانه: ((أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ(77))).
وأما تفسير قوله سبحانه: ((يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ(7))) فإنه قد قيل: إن الماء الذي يخلق منه الإنسان يكون من الرجل والمرأة، فأما ماء الرجل فيجيء ويخرج من صلبه، وأما ماء المرأة فمنشؤه ومجيئه من ترائبها فسبحان الله ذي القدرة.
ثم قال تبارك وتعالى: ((إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ(8))) وتفسير ذلك _والله أعلم سبحانه أنه_ إذا خلقه من الماء المهين الدافق، ونقله في الخلق تارة بعد تارة  قادر على أن يرجعه بعد موته وبلائه بأقدر القدرة.
ثم أخبر متى يرجعه ويحييه وينشره فيجدد بدنه بعد البلاء، وينشئه فقال: ((يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ(9))) وهو يوم القيامة الذي تبلى فيه كل سريرة، ويكشف فيه ما كان يستر في الدنيا كل مستورة يقول الله سبحانه: ((فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ(10))) يعني سبحانه فما للإنسان يومئذ في دفاع المعاقبة بعمله والجزاء له عن سيئ أفعاله من قوة يدفع بها ذلك عن نفسه، ولاناصر ينصره من قريب ولا عشير فيلجأ إلى نصرته.
ثم قال سبحانه: ((وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12))) فالرجع من السماء _والله أعلم_: دوران فلكها ذاهبا تحت الأرض، وراجعا من فوقها _والله أعلم فيما نظن_ هو: الرجع من السماء بعينه، وذلك فمفهوم فيها عند الفكرة فيه وتبيينه، والصدع من الأرض: فهو انفراج منها وفيها، وقد يكون ذلك لما يتصدع عنه من عجيب النبات والأشجار التي يظهرها الله عليها، ويمكن أن يكون ذلك صدعا من الصدوع لا يراه الناس في بعض أطرافها ونواحيها لأمر قدره الله من أمورها، فذكر الله ذلك الصدع لعظم ما فيه من الآيات وكبرها يقول الله سبحانه بعد هذا القسم وبعد ما دل عليه في السماء ورجعها، والأرض وصدعها من عجيب الآيات والحكم: ((إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14))) يقول سبحانه هذا القول وما جاء به من الخبر الذي ذكره في هذه السورة، وما أخبر به من وحيه في جميع السور لقول فصل وما هو بالهزل، والفصل والله أعلم: فهو الفرقان والبرهان الفاصل بين قوة الحق وضعف الباطل، والهزل من الأخبار: فهو الزور.
ثم قال سبحانه: ((إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16))) وتفسير الكيد: الإرادة للأمر فهم يريدون أمرا ويريد الله سبحانه أمرا، وإرادة الله النافذة الغالبة، وهو أقدر تعالى وأقهر قهرا، لأن إرادته الغالبة غالبة لإرادة كل مريد وكيده سبحانه أبدا فهو الذي يهلك معه ويتمزق كيد كل ذي كيد.
ثم قال سبحانه لنبيئه صلَّى الله عليه وآله وهو يخبر لما يصير الكافرون بعد المهل من العقاب إليه: ((فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17))) والرويد: فهو القليل، وقول الله سبحانه: ((فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17))) أشد ما يكون من الوعيد بالعقاب وأرعبه وعيدا، فنستغفر الله لنا ولكم من طول الحيرة في الحائرين، ونسأله أن يجعلنا بالأعمال الصالحة لوعيده حذرين، وحسبنا الله ونعم الوكيل عليه توكلنا وهو رب العرش العظيم.
 
 
بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم
 ((وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3))) فهذه أقسام من الله سبحانه بالسماء وبروجها لما في ذلك من عظيم الآيات وعجيبها، واليوم الموعود: فهو يوم القيامة والحشر الذي وعد  الله به جميع البشر ليحكم بينهم يومئذ فيما كانوا فيه يختلفون، وليجازي كل امرء من المطيعين والعاصين بما كانوا يعملون.
((وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3))) فيشبه والله أعلم أن يكون الشاهد:  من يعاين ويشهد ويحضر يومئذ من البشر ما كان يوعد به من المجازاة على الخير والشر، والمشهود: فيمكن والله أعلم أن يكون ما يعاين ويرى ويشاهد من صدق الخبر في الجنة والنار اللتين جاءت فيهما عن الله سبحانه البشرى والنذرى، فبشر الله بالجنة في الدنيا عباده المؤمنين، وجاءت النذر والوعيد بالنار وعذابها إلى جميع الكفرة والعاصين.
وقد يمكن _والله أعلم_ ولا ينكر عند من ينظر ويفهم أن يكون المشهود هم المشهود عليهم الذين أوصلت الأنبياء حجج الله إليهم.
ومخرج هذا القسم والله أعلم عند قوله سبحانه: ((ِإنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10))).
وأما قوله تبارك وتعالى: ((قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ(7))) فقد جاء فيما جاء من الأخبار (أن أصحاب الأخدود قوم من الكفار كانوا عذبوا نفرا من المؤمنين، وفتنوهم بحريق النار، والأخدود: فالحفر التي حفرها العصاة الكفرة فأوقدوا فيها النار ذات الوقود، والوقود: فاللهب، وكذلك تسمى كل نار التهبت، والعرب فلا يسمون النار وقودا إلا عند التهابها واضطرامها، وذلك معروف في لسان العرب عند خواصها وعوامها، يقول الله سبحانه:  ((إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7))) لعظيم مار كبوا من تحريق المؤمنين، وأي أمر أعظم من أن يكون من كفر وأجرم قاعدا على أخدود من وقود النار‍‍‍‍‍‍‍! يحرق فيها أولياء الله المؤمنين الأبرار فيمهلهم الله سبحانه في حياة الدنيا مدة يسيرة، ويستدرجهم فيؤخرهم أياما قصيرة، ثم يعاقبهم بما فعلوا بالمؤمنين أشد العقوبة في الآخرة فيدخلهم نار جهنم خالدين فيها أبدا، ويحرقهم بحريق جهنم تحريقا دائما سرمدا بقدرته سبحانه عليهم.
ولما أعد الله لهم من العذاب في الآخرة الذي يخزيهم، ويعطي الله المؤمنين من جزيل مثوبته، والفوز الدائم والخلد في نعيم جنته أكثر مما يتمنون يقول الله سبحانه: ((وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُالسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ(10))) يخبر سبحانه أن الكفرة الظالمين إنما عذبوا في ا لأخدود المؤمنين على غير أمر من الأمور نقموا عليهم إلا إيمانهم بالله خالقهم وبارئهم يقول الله سبحانه: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11))) تسلية لعباده المؤمنين عما يلقون من المحن من العصاة الكافرين، وبشرى منه سبحانه لهم بالثواب الكريم، وما يصيرون إليه من النعيم الخالد الدائم الثابت المقيم.
ثم قال الله تبارك وتعالى: ((إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (16))) يخبر تبارك وتعالى أنه سيبطش البطش الشديد بأعداء عباده المؤمنين، وأنه سينتقم لهم منهم أعظم النقمة بالعذاب الدائم الأليم.
ثم دل سبحانه على قدرته عليهم بأنه الله ربهم ومعيدهم وبارئهم، ثم أخبر تبارك وتعالى بأنه الغفور الودود، وكذلك ربنا وسيدنا ومولانا في عفوه عنا مع طول غفلتنا وتغمده إيانا، فالغفور الذي لا يغفر مغفرته غافر، والودود: فالمودة منه والرحمة التي لا يرحمها راحم، وهو الله ذو العرش المجيد، والمجيد في لسان العرب: الجواد الماجد ذو العطايا والإحسان والمحامد، وكذلك الله سبحانه، فالمجيد الذي لا يبلغ مجده ماجد، وولي جميع ما بين الأرض والسماء من الخير والعطايا والمحامد، وهو الله الفعال لما يريد كل شيء أراده بمقدرته عليه القدرة التي تفوت كل قدرة سبحانه لا إله إلا هو خالق الدنيا والآخرة.
  ثم قال تبارك وتعالى: ((هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ(17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18))) والجنود: الجموع الكثيرة، خبرا منه سبحانه عمن أهلك بالمعصية من هذه الأمم العصاة الكفرة، إذ كانوا في العدد أكثر كثرة وأعظم في دنياهم جِدَةً وقدرة ممن كان في أيام محمد رسول الله عليه السلام من أعدائه الكفرة، فلم تدفع عنهم جنودهم ودنياهم حين أحل الله سبحانه عقوبته بهم فأفناهم، يقول الله سبحانه: ((بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19))) يعني تبارك وتعالى من كان في أيام محمد من كفرة قريش والعرب في تكذيب.
قال الله العليم الحكيم: ((وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ (21))) والمجيد: فهو الممدوح الكريم المحمود ((فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ (22))) واللوح هاهنا: مثل من الأمثال يفهمه من يعقل إن شاء الله تعالى من أولي الألباب، وإنما أراد الله بذلك والله أعلم أن القرآن محفوظ ثابت كحفظ ما في اللوح من أن يزاد فيه أو ينقص منه، ألا ترى كيف يقول تبارك وتعالى في خبره عنه ((مَّحْفُوظٍ)) وما حفظه الله فهو المحفوظ الحفظ الحريز الممنوع من أن يلم به ضياع بمنع القوي العزيز.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد خاتم النبيئين وعلى أهل بيته الطيبين وسلم تسليما.
 
بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم
  ((إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ(5)))  فقول الله: ((إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ (1))) هو خبر منه تعالى عن يوم القيامة الذي فيه انشقت السماء وحقت.
وقوله سبحانه: ((وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2))) فهو سمعت لربها وأطاعت.
وقوله: ((وَحُقَّتْ)) والله أعلم عند من يسمع اللسان العربي فيفهم: إنما هو أن السماء حل بها من الله ما شقها فأصابها بعينها وحقها، وكذلك قوله الله أيضا في الأرض: ((وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2))) فإنما تفسيره: حل بالأرض أمر الله فأصابها وحقها، فحينئذ مدت ودكت، ومدها ـ والله أعلم ـ رفعها حين رفعت فحملت.
قال المرتضى عليه السلام: “معنى مدت: زيد فيها مثلها، وتفسير إلقاء الأرض ـ والله أعلم ـ لما فيها فهو إخراجها للأبدان ـ والعلم عند الله ـ لمن يبعثه من الموتى الذين صاروا بالدفن وغيره إليها وإسلامها عند مهدها للأشجار والنبات الذي أنبته الله عليها.
يقول الله سبحانه: ((يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ(6))) تفسير الكدح: ما يكسب الإنسان من الخير والشر الذي يجازى عليه، والكدح من الأفعال عند جميع أهل اللسان والعرب فهو ما يكون من الإنسان في الخير والشر من الاكتساب.
ومخرج الخبر من الله سبحانه في هذه السورة عن يوم انشقاق السماء ومد الأرض عند قوله سبحانه في هذه الآية: ((فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12)))وتفسير الحساب اليسير ـ والله أعلم ـ فهو الغفران للمؤمنين من الله الغفور، وتفسير ـ والله أعلم ـ قول الله  ((مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ)): فهو فيما نرى ـ والعلم عند الله ـ من عنى من المؤمنين بما كتب الله عليه في دينه ((أُوتِيَ كِتَابَهُ)) الذي هو حسابه ((بِيَمِينِهِ)) واليمين ـ والله أعلم ـ وتفسيرها: اليسر والتيسير عند من يفهم لأن ميامن الأشياء وأيمانها أيسر يسرا من الشمائل والظهور التي إذا جاءت الأشياء منها كانت أشد على الإنسان في التناول وأعسر عسرا، فكان قول الله سبحانه: ((بِيَمِينِهِ)) هو مثل ضربه الله ـ والله أعلم ـ لمن اتقى في دينه يدل على أن المتقين في يوم القيامة تأتيهم كتبهم التي هي _والعلم عند الله _ علم الله بأعمالهم الذي هو محاسبتهم من اليمين التي معناها اليسر والبركة، فيكون أمرهم كلهم وفعلهم في اليمين، واليمين والميمنة التي ينجون بها من الهلكة.
والعاصون فتأتيهم كتبهم ـ والله أعلم ـ التي معناها العلم بأعمالهم وحساب أفعالهم من الشمال إذ هم في ذلك اليوم وأفعالهم في الشمال، والشؤم الذي هي المشأمة بعصيانهم وضلالهم بكتابهم الذي يأتيهم من وراء الظهور منهم فهو ما يأتيهم ـوالله أعلم ـ وراء الظهور الذي هو عملهم وحسابهم من العسر عليهم والتعسير.
وإن يكن الكتاب بشرى للمؤمنين بكتاب يعطاه المؤمن يبشر فيه بالجنة  والرحمة التي جعلها الله جزاءه، وكتابا يعطاه العصاة الكافرون يبشرون فيه بما أوعدهم الله على كفرهم وعصيانهم من النار فذلك أيضا وجه ممكن مفهوم، وبالله يرجى الهدى إلى كل صواب في جميع الأمور.
ثم أخبر سبحانه عن الذين أوتوا الكتاب بأيمانهم أنهم يحاسبون حسابا يسيرا، وينقلبون إلى أهليهم في الجنة مسرورين، وإن الذين أوتوا كتبهم وراء ظهورهم فسوف يدعون ثبورا ويصلون سعيرا، يعني سبحانه بالسعير النار التي يدخلها الكافرون، والثبور: فتفسيرها الويل عندما  يعاينون من الخزي الطويل ـ نعوذ بالله من عذابه ومعصيته، ونسأله العون على العمل بما ينجو به من طاعته.
يقول الله سبحانه: ((إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13))) يعني العاصي الذي أوتي كتابه وراء ظهراه قال الله سبحانه: ((إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ(14))) تفسيره ـ والله أعلم ـ في يحور إذ الحوران في اللسان العربي: الرجوع من الراجع بالدورة هو أن الكافر ظن أن لن يرجع إلى ربه وقد أحياه ونشره كما وعده من القبور يقول الله سبحانه: ((بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15))) يعني تبارك وتعالى بقوله: ((بلى)) أن الإنسان سيبعث حيا بعد التمزق والبلى، والله سبحانه فهو البصير بالإنسان وغيره من خلقه، المجازي للمطيعين والعاصين من عباده بعدل حكمه وحقه.
ثم قال سبحانه: ((فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18))) فأقسم بهذه الأقسام لما فيها من عجيب آيات الله العظام ((وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ)) وتفسير وسق فيه: هو كلما كفت الليل من الخلق عند وقوعه عليه ((وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ)) واتساق القمر: هو تمام نوره وما يكون من استدارته واتساقه بعد ذهاب نوره في آخر الشهر وامتحاقه.
يقول سبحانه: ((لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ (19))) والطبق ـ والله أعلم ـ هو ما ينتقل فيه بالبشر، الحالات من الحياة الدنيا التي هم فيها، ثم ما يصيرون إليه من الذهاب والممات، ثم ما يصيرهم الله إليه من البعث والنشور بعد البلى في القبور.
قال الله تبارك وتعالى: ((فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21))) ثم أخبر سبحانه بالعلة التي أهلكوا بها فتركوا الإيمان أنها ما شقوا به من التكذيب، وقلة الإيقان، فقال الله تبارك وتعالى: ((بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ
(22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23))) يقول الله سبحانه: أعلم بما هم له يسرون.
ثم أخبر تعالى بجزائه لهم على تكذيبهم بالمعاقبة، وقال لنبيئه: ((فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25))) يخبر سبحانه أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات من العذاب الأليم ناجون، وأن لهم أجرا غير ممنون.
 
 
بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم
 ((وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ(1))) والمطففون: هم الذين لا يوفون وينقصون عن الوفاء فيما يعطون، والتطفيف النقصان عن بلوغ ما يحمله المكيال والميزان، والإيفاء فإعطاء المكيال ما حمل وهو في الوزن شبيه بالرجحان.
والمطففون كما قال الله سبحانه: ((الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3))) يقول تبارك وتعالى: إذا أخذوا من الناس واكتالوا عليهم، والإكتيال: هو الإكتيال منهم _اجتهدوا في الحمل على المكيال لما حمل فاستوفوا، فإذا كالوهم أو وزنوهم أخسروا ما أمكنهم وطففوا أمرا من الله بالوفاء، ونهيا لكل كائل أو وازن أن يكون مخسرا مطففا، إذ لا يحب ولا يرضى إلا العدل والوفاء، وأن يكون كل امرئ من الآخذين والمعطين لصاحبه منصفا، وقد يكون ما نهى عنه سبحانه في هذه من الإخسار في الكيل والوزن والتطفيف_ أمرا منه تعالى بالوفاء في كل ما يتعامل الناس به في الكيل والوزن وغيرهما، وتعريفا لمن طفف وأخسر في كل ما أوجب الله فيه الإنصاف من كل ما سخط من ذلك، ويكون تحذيرا للعقاب بما ذكر من الويل لهم الذي هو ثقيل العذاب.
ثم قال سبحانه لهم مهددا ومحذرا ليوم البعث والدين متوعدا: ((أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ(11))) فأعلمهم سبحانه أنهم لو ظنوا ظنا _فضلا عن أن يكونوا موقنين، فتوهموا أنهم مبعوثون ومعاقبون بظلمهم، ومحاسبون_ لما بخسوا ولا أخسروا ولا طففوا إذا ظنوا فضلا عن أن يوقنوا أن سيبعثون ويقومون لرب العالمين ويوقفون.
ثم أخبر تبارك وتعالى خبرا صادقا ونبَّأ عن عظيم ذلك اليوم نبأً محققا، وأي يوم أعظم أو أهول أو أكبر من يوم بعثة الله لهم من القبور ونشر عظامهم بعد إذ كانت رفاتا، وقد مر عليها ما مر من الدهور مع ما هم يعاينون في ذلك اليوم من عظائم الآيات والأمور، وأي يوم أعظم من يوم عقاب الله فيه لعصاة خلقه بحريق النار، وأي يوم أجل من يوم يثاب فيه من أطاع الله بما تقصر عنه الأوهام من الجنة ونعيمها الذي أعده لأهل الطاعة الأبرار.
ثم ذكر الفجار من أهل التطفيف والإخسار فأخبر أن كتابهم في سجين، والسجين ـ والله أعلم ـ: مشتق من السجن، والسجن: هو الحبس والإسار في أليم العقاب والنار، فكتابهم في ذلك وحكم الله بجزائهم الذي هو ما كتبه الله عليهم بسيئاتهم، فهو في سجين، ومصيرهم فإلى عذاب مهين، وكتابهم ـوالله أعلم_  (المرقوم) هو ما عند الله وفي علمه من حفظ كل ذي ذنب صغير أو كبير ثابت معلوم.
ثم أعلم سبحانه في هذا القصص والنسق أن الويل للمكذبين وهم التاركون لإيفاء الحق، وأنهم لم يبخسوا ويطففوا إلا لشكهم وتكذيبهم بيوم الدين الذي فيه يجازون إذا أقيموا لرب العالمين وأوقفوا، وأن المكذبين بيوم الدين هم هؤلاء وأمثالهم من المتعذبين الآثمين فقال : ((وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (13))) استراحة من المكذبين إلى ما ليس لهم فيه راحة من الشك والتكذيب بيوم الدين، وغرورا منهم لأنفسهم بالنجاة من الجزاء والعذاب الأليم، وقولهم من تكذيبهم إذا تليت عليهم آيات ربهم: أساطير الأولين.
ثم أخبر سبحانه أنهم عنه يومئذ لمحجوبون، وحجابهم: منعهم من ثوابه وعطائه لأوليائه إذ لا يثابون، وإذ هم مجازون بالعقوبة مبعدون عن رأفته ورحمته وسعة جوده يومئذ على أوليائه، وما تضل فيه العقول من عظيم عطائه فهم عن ذلك كله محجوبون ومنه مع كرم الله وجوده يومئذ ممنوعون، فهذا هو الحجاب عن الله بعينه في مفهوم اللسان بأوضح الإيضاح وأبين البيان لما منعوا من أشرف جود الله شرفا وأكبره قدرا، وأعظمه عظيما جاز أن يقال: إنهم محجوبون، وفي ذلك ما تكون الوجوه الناظرة من الأبرار إلى ربها وثوابه وصدق ما وعدهم به من وعده ناظرون، ولما بشرهم به ونبأهم من كريم الثواب والنعيم والجزاء منتظرون.
وفي ذلك اليوم ما يقال للمكذبين حين يبكتون عند دخولهم الجحيم التي بها يعذبون: ((هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (17))) قال الله سبحانه في ذكرهم وذكر ما كانوا عليه من إثم فجورهم: ((كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ (17) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (18))) والران على قلوبهم فهو _والله أعلم_ غرقها في الذنوب الذي يلزمها ما به وفيه من الله الجزاء بالخذلان لما يجتمع عليها أو يتراكب من الدنس بران العصيان الذي يصديها ويسترها ويكلّها، فيؤثر فيها عن الذكر والتفكر في الآخذ بحظها من طاعة الله خالقها بالتقوى والخير.
ثم ذكر عز وجل الأبرار الموقنين الذين ليسوا بذوي تطفيف ولا إخسار فقال سبحانه: ((كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ (20))) والعليون ـ والله أعلم ـ: فهم العالون في الكتاب الأعلى المكرم، والكتاب هاهنا  ـ والعلم عند  الله ـ فهو ما كتب الله لهم من الثواب والنعيم في جنته، وما علا به كل محسن منهم فصار كتابه في العليين بما قدم من بره وإحسانه. ثم أخبر أن كتاب الأبرار الذي هو في عليين كتاب يشهده المقربون، والمقربون ـ والله أعلم ـ: فهم الملائكة الأطيبون الذين هم على كرامة للأبرار شاهدون عليهم في دار الثواب من أبواب الجنة داخلون.
ثم أخبر سبحانه ببعض ما فيه الأبرار من النعيم فقال: ((إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ(23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ)) والنضرة في الوجوه: فهو الإشراق والنضارة من ألوانها بالسرور والبهجة والإزدهار بما هي فيه من نعيم الجنة.
ثم ذكر تبارك وتعالى الرحيق الذي منه يسقون، والرحيق: فإسم من أسماء الخمر الجيد كانت تسميها به العرب، فسمى الله بها الخمر التي في الجنة، فأخبر عن طيب ريح الرحيق، وأن ختام ما بريحها يجدون، وختام ريحها عند آخر شربها كريح المسك، إذ هو أفضل الطيب الذي يعرفون.
ثم قال في نعيم الجنة مرغبا، وعليه محرضا، وإليه داعيا: ((وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28))) والتنافس: التحاسد، ولم يحسّن الله في شيء من أمور الدنيا كلها التحاسد، وإنما حسن سبحانه التحاسد الذي هو التنافس في نعيم الجنة لعظم قدرها وجلالة فضلها، فهنالك ما يحسن التحاسد لا في هذه الدنيا الفانية، و التنافس عليها والتسابق في الأعمال الصالحة الموصلة إليها.
ثم ذكر سبحانه مزاج خمر الجنة من الماء، فذكر أنه من عين يشرب بها المقربون سماها تسنيما، وهذا اسم عال من الأسماء جعله الله مشرفا مكرما.
ثم رجع القصص في الخبر إلى ما كان عليه أهل الكفر في الدنيا من الإستهزاء والتغامز بالمؤمنين ((إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ (32))) والفاكهون: الضاحكون المتعجبون المستهزئون.
ثم ذكر أنهم كانوا يقولون في أقوالهم التي هم بها أهل الإيمان مؤذون ((إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ)) يقول الله سبحانه: ((وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (35))) يعني ـ والله أعلم ـ أن الكفار لم يرسلوا حفظة على المؤمنين الأبرار.
ثم أخبر سبحانه عن اشتفاء نفوس المؤمنين، إذ هم على الأرائك ينظرون إلى عقوبة الله لأعدائهم من الكافرين فقال تبارك وتعالى لأهل الإيمان والطاعة له والإيقان: ((هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36))) تعريفا للمؤمنين عند سرورهم ضاحكين بما أخبر الله به من المعاقبة لأعدائهم من الكافرين فقال لهم معرفا بنعمته عليهم في شفاء غيظهم ونفوسهم بمعاقبة من كان في الدنيا يغمزهم ويستخف بهم: ((هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)) مسألة تعريف من الله للمؤمنين وبشرى، لا مسألة شك ولا امتراء، أي قد ثوب الكفار إذ عذبوا بعذاب النار ثواب نقمة فيما كانوا يلقون الأبرار، والحمد لله رب العالمين الذي لا يرضى بتطفيف المطففين، ولا إخسار المخسرين ، الحكم العدل على المؤمنين والكافرين، ونعوذ بالله من غضبه، ونستجيره من  أليم عذابه، ونستعينه على الإئتمار بأمره، ونسأله السلامة من عصيانه وكفره، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم عليه توكلنا وهو رب العرش الكريم.
 
 
 
بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم
 
 ((إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5))) فانفطار السماء: انصداعها وانفتاقها، وذلك فهو توهينها وانشقاقها، وانفطار السماء ـ والله أعلم ـ فمن زلازل القيامة وزعازع الرجفة، وهذه الدكة عند ما يكون في الصور من النفخة التي صعق بها، وبما يكون من شدة هدتها من في السموات والأرض إلا من شاء الله، وحينئذ تنتثر الكواكب وتفجر البحار، وتبعثر القبور بجميع رميم العظام، فهذا هو اليوم الأكبر الذي لا كالأيام، وتفجير البحور ـ و الله أعلم ـ حين ترج الأرض رجا، والرج للأرض: هو الزعزعة والتحريك الذي تضطرب به منها الأرجاء، فحينئذ تتفجر منها البحار، ولا يكون لها ثبات ولا قرار، وحينئذ تعلم كل نفس ما قدمت وأخرت من أعمالها.
و((مَّا قَدَّمَتْ)) ـ والله أعلم ـ فهو ما قدمت قبل موتها من حسناتها وصالح أفعالها، و((َأَخَّرَتْ)) _والعلم عند الله_: فهو توانت عنه وأخرت من طاعة ربها حتى فاتها بتقديمها بين أيديها قبل فنائها بالموت وانقلابها، فخلفته وانقطعت الحياة، ولا رجوع لها إليه، وما قدمته النفس فهو: ما قدمه كل امرء من خير أو شر قبل انقطاع حياته وهجوم الموت عليه.
ثم قال سبحانه للإنسان واعظا ومذكرا لما هو عليه من الغفلة عن ذكر ربه، إذ كان به مغتر: ((يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11))) يعني سبحانه بقوله: ((مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ)) أي ما الذي غرك بربك الكريم؟! وكذلك هو الكريم الذي جل في الكرم عن كل كريم، والحليم الذي جاز حلمه حلم كل حليم، ولي ما بالإنسان من جميع النعم والإحسان المحتمل له مع فرط الغفلة والعصيان وطول تماديه فيما هو عليه من السهو عن ذكره والنسيان، وهو ربه وخالقه ومليكه ورازقه، وهو كما قال سبحانه: الذي خلقه فسواه فعدله، في أي صورة ما شاء ركبه، وكما أراد هَيّأَه ومثّلَه، فأي تعديل سبحانه عدل الإنسان مصورا مسوّياً! وأي تركيب ركبه، وتوصيل وصل أعضاءه مهيأً فوضع كل عضو من أعضائه في موضعه! وهيأه معتدلا في موقعه.
ثم أخبر أن الناس في غفلتهم عن ذكر خالقهم وربهم وتماديهم لنسيانه فيما يرتكبون من ذنوبهم إنما أُتُوا في ذلك من تكذيبهم بيوم الدين وهو يوم الجزاء والديانة لأعمال جميع العالمين، فأعلمهم سبحانه أن عليهم شهودا حافظين كراما كاتبين يعلمون ما يفعلون، فهؤلاء الحافظون فهم الملائكة المقربون، وما يكتبون فهو حفظهم لما يعلمون من الحسنات، وعلمهم الذي ليس فيه نسيان لما يحصون عليهم من جميع السيئات، إذ أحفظ الحفظ عند الإنسان هو الكتاب، و الكتاب هو الثابت من الحفظ الذي لا يدخله وهم ولاشك ولا ارتياب، فمن أحفظ أو أحصى، أو أي شهود أعدل علينا شهادة أو أرضى من ملائكة الله المقربين، وأمنائه الأطيبين، الذين لا ينسون من أفعال الناس التي أمروا بحفظها شيئا صغيرا ولا كبيرا، ولا يزيدون فيها ولا ينقصون قليلا ولا كثيرا، هم أعدل عدلا، وأصدق صدقا، وأفضل فضلا من أن يتقولوا قليلا أو كثيرا باطلا، فقد يمكن ـ والله أعلم ـ أن يكون حفظهم لأعمال البشر من الخير والشر، وهم في محل كرامتهم من السموات لما أعطاهم الله من فضل القوى على كل الخلق في جميع الحالات، فيعلمون بتقوية الله لهم وما أعطاهم من فضل القوة في الإدراك ما يأتي الناس به من الإساءة والإحسان، ويحفظون حفظا هو الكتاب الذي لا يدرس ولايذوى ولا يتغير بما يكون منه من الطاعة والعصيان، لأن من عقل وفهم يعلم أن الملائكة في البنية والقوة والإحتمال على خلاف ما عليه الإنسان، لأن الملك روحاني لطيف قوي، والإنسان جسماني ضعيف جسدي، ومركب من طبائع مختلفة، و الملك مخلوق من طبيعة واحدة لطيفة ليس في خلقه تضاد بتركيب من الطبائع المختلفات، ولا يشبه الإنسان في جميع الصفات، وكذلك الملك في فضله وما ذكرنا من وصفه هذا كله فيصغر وتقل صفته عند جلال الله وخلوص وحدانيته، لأن الملائكة بعضهم ببعض محيطون، وبعضهم لبعض مدركون، ولهم مناه وحدود فهم محدودون، والله سبحانه ليس بذي حد ولا أجزاء ولا أركان، ولا يحيط به تعالى ملك ولا بشر ولا جان، وإذا كان البشر لا يدركون الملائكة بمعاينة وهم خلق مثلهم، فالملائكة في العجز عن إدراك الله كهم، ولا يدركه سبحانه أبدا مخلوق، وإن كانت بين خلقه في قواهم وبينهم كلهم فروق فالله سبحانه محتجب عن جميع خلقه، لا يرى في هذه الدار، ولا في الدار الأخرى لعجز بنيتهم كلهم عن إدراكه بلا شك ولا امتراء بلا حجاب مستور من ظلام ولا نور.
ألا ترى أنا معشر بني آدم محجوبون عن المشي على الماء حجاب عجز قوة بنية لا سترة عنه ولا غطاء، وكذلك حجب الإنسان لعجز بنيته عن الثبات في الجو والطيران، وكذلك حجبت الجن والملائكة عن أن يخلقوا ويصوروا إذ لم يعطوا القوة على ذلك فيقدروا، والله سبحانه لا يراه ملك ولا بشر ولا جان بوهم ولا فكرة ولا عيان, ودرك أهل السماء والأرض له درك إيقان وعلم بربوبيته تبارك وتعالى وإيمان، غير أن الملائكة لله سبحانه أيقن يقينا وأشد اتصالا وأعرف معرفة، وأثبت إيمانا، وأقرب إلى العلم إفهاما من جميع الناس لما يدخل على الإنسان وهن الفهم والإلتباس.
وبعد فنرجع الآن إلى ما كنا فيه آنفا من تفسير هذه السورة، وإلى ما ذكر الله فيها سبحانه من نعيم أوليائه البررة قال الله تبارك وتعالى: ((إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13))) والنعيم: فهو ما هم فيه من التنعيم بالعيش اللين الناعم الكريم ((وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15))) والجحيم: فهي النار التي يصلونها يوم الدين، والصلال في اللسان العربي هاهنا: فهو الكي بالنار والشواء.
ثم أخبر سبحانه عن الفريقين جميعا خبرا في التخليد لهم فيما هم فيه صادقا قاطعا فقال: ((وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16))) وفي قوله: ((وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16))) يثبت أنهم جميعا لما هم فيه غير فاقدين، المؤمنون غير مقطوع عنهم ما هم فيه من النعيم، والكافرون فغير مفارقين أبدا لما هم فيه من العذاب الأليم، لأنهم لو فقدوه طرفة عين كانوا عنه غائبين، وخبر الله في أنهم [عنه] غير غائبين خبر صدق  وحق ويقين، يقول الله سبحانه على عظيم يوم الدين دالا موقفا، ولكبر أمره معرفا: ((وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18))) وقد قلنا قبل هذا: إن الله سبحانه إذ قال لنبيئه مع ما جعل له من قوة العلم في أمره في شيء يخبره عنه: ((وَمَا أَدْرَاكَ مَا)) كذا؟! فإنما يدله على كبره، وقد لا يكتفي بذكر ما أدراك مرة واحدة حتى قال ذلك مؤكدا ومكررا ومرددا ثانية: ((ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ)) تنبيها منه جل جلاله على فهم ذلك اليوم وماله من الكبر والعظم، لأن الله العظيم الجليل الأعظم لا يستعظم إلا عظيما، ولا يذكر بالكبر والتكبير إلا كبيرا، ومتى ما قال تبارك وتعالى: وما أدراك .. ثم ما أدراك، فهذا فهو في غاية التوكيد والإفهام لنبيه على ما ينبغي من الإكبار ليوم الدين والإعظام.
وكذلك إذا قال الله سبحانه لنبيئه عليه السلام: وما أدراك .. ثم ما أدراك في شيء من عجيب آياته وأمره فليعلم من سمع ذلك حيث كان من القرآن أنه لعظم المذكور وكبره وقدره.
يقول الله سبحانه وهو يخبر عن هذا اليوم الأكبر المذكور الأعظم: ((يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19))) وهذا اليوم [هو اليوم] الذي الأمر فيه والملك لله وحده لا ينفع فيه ولد والدا، ولا والد ولدا فنستعين بالله على أخذ العدة له من طاعته، والتزود إليه خير الزاد من تقواه وخشيته، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ونستغفر الله الرحمن الرحيم.
 
 
 
 
بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم
 ((إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1))) فتكويرها ـ والله أعلم ـ طرحها وتهويرها والتكوير: الطرح السريع للشي إذا طرح، فجاء لشدة طرحه متكورا بعضه على بعض إذا طرح.
((وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ (2))) وانكدار النجوم ـ والله أعلم ـ: فهو تتابعها سريعا بعضها في إثر بعض، منتشرة إذا انحدرت، وذلك حين تتابع يوم القيامة منحدرة وتتكور يومئذ منتثرة.
((وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3))) وتسيير الجبال يومئذ ـ والعلم عند الله ـ فهو إذا حلّها الله فلانت وعادت كثيبا مهيلا، ثم هباء منبثا فسارت والله أعلم سبحانه الذي تولى عقد الجبال وغيرها من الأشياء كلها وهو الله العالم بنقضها إذا أراد ذلك وحلها.
يقول الله تعالى في هذه السورة للعرب وهو يخبرهم عن ذهول الناس يومئذ عما يحبون مما ينزل بهم من فادح الكرب ((وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6))) والعشار: حوامل النوق من الإبل، وهي أنفس ما كان للعرب عندها من الأموال التي لم يكونوا في الدنيا لعجبهم بها يصيرون لها إلى إغفال فلعظم ما ينزل بهم ويعتريهم يومئذ من فادح الأهوال على ذلك عطلوا من العشار أنفس أموالهم، وأعزها عليهم، وآثرها عندهم وأحبها إليهم.
ويومئذ جمعت الوحوش وحشرت، والحشر لها: الإجتماع منها بعضها إلى بعض إذا عاينت ما يعاين ففزعت وذعرت، ويومئذ تسجر البحار وتسجيرها تحريكها بالإستعار كما يضطرم بالسجر والتحريك مضطرم النار.
((وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7))) تزويج النفوس ـ والله أعلم ـ: ضمها إلى الأبدان إذا نشرت .
((وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ (9))) الموؤدة: الأطفال التي كان أهل الجاهلية من العرب يئدون من أولادهم ويقتلون فحينئذ يسألون بأي ذنب كانوا يقتلون تبكيتا لآبائهم، وتعريفا للآباء بذنوبهم في قتلهم ، وتوقيفا لهم على ظلمهم إياهم وتعنيفا.
((وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10))) والصحف هاهنا ـ والله أعلم ـ: إحصاء الله للذنوب، ونشر ما حفظت الحفظة على المذنبين، وإعلان ما كانوا يسرون منها في الغيوب حين يعاين من قبائح الذنوب كل داهية، فيصير مكتومها وخباياها مكشوفا علانية.
((وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ (11))) وكشطها: قلعها من موضعها إذا طويت.
((وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12))) وتسعيرها: التهابها واضطرامها إذا أججت.
((وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13))) ازلافها: إحضارها وتقريبها إذا قربت يقول الله سبحانه: ((عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ (14))) ما أحضرت ـ والله أعلم ـ: هو ما تعلمه النفوس يومئذ وتذكره من الذنوب بعد نسيان، ويعلم منه ما أحضرت ومالها به من الثواب، أو عليها فيه من العقاب بأيقن الإيقان إذا رأت ثواب حسنه، والعقاب في سيئه بالعيان.
ثم قال سبحانه بعد هذا القصص من خبر يوم القيامة صادقا، وللخبر اليقين بقسمه البر محققا، وبعجيب آياته مقسما، ولما هو عجيب منها في الحكمة معظما، وبإقسامه به على عجيب ما فيه من آياته منبها: ((فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16))) والخنس ـ والله أعلم ـ: النجوم الخمسة، والقمر والشمس، فمن النجوم الجارية وجريها تحريكها في الفلك بأنفسها، وخنوس ما خنس منها رجوعها إذا بلغت الشمس إلى الدرجات التي خلقت من ورائها، والخنوس في لسان العرب: الرجوع إلى وراء بعد السير قدما، والخنوس ـ والعلم عند الله ـ الذي هو الرجوع بعد  الإستقامة لا يذكر به شيء من النجوم إلا هذه الخمسة من زحل والمشتري والمريخ وعطارد والزهرة، فإن هذه الأنجم الخمسة قدر الله سيرها بالجري والإقبال، حتى إذا جرت في المنازل والبروج حتى تكون في البروج الذي يواجه برج الشمس وكادت أن تجتمع هي والشمس رجعت متحيرة في سيرها خانسة بالجري والرجوع إلى ما خلفت من ورائها، ولكل نجم منها درج معلومة إذا بلغها وقرب من الشمس رجع عند بلوغه لها عن الشمس متحيرا خانسا راجعا إلى ما خلفه مدبرا حتى يتغيب عن الشمس في الرجوع إلى ما وراءه من البروج، وهذا المغيب عن الشمس ـ والله أعلم ـ فهو الكنوس وكلما غاب من شيء وتنحى في اللسان العربي دعي كانسا، تقديرا قدره الله فيها من أحكم التقدير، وتدبيرا منه في سيرها دبره لعجيب من الأمور.
وقد يمكن ـ والله أعلم ـ أيضا أن يكون من الجوار الخنس الكنس، النجوم التي تغيب وتطلع بحساب الأوقات والأزمان وعلم الحر والبرد والأمطار.
ثم قال تعالى: ((وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17))) وعسعسة الليل إدباره وتوليه عند آخره ((وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ(18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19))) وتنفسه: اعتراض الفجر بالضوء عند صدوع نوره، وإقسامه بهذه الأقسام تنبيه منه تبارك وتعالى على أنها من آياته العظام، ومخرج القسم عند قوله: ((إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19))) دلالة أيضا على ما لجبريل رسوله من الشرف والرفعة والتعظيم.
ثم قال تعالى: ((ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20))) فأخبر عن قوة جبريل في بنيته، وفضل ماله في الأمور التي قواه عليها من قوته، وعن مكانه منه وكرمه لديه ومكنته.
ثم قال سبحانه لذكر فضل جبريل عليه السلام مثنيا، وبمكانه منه وكرمه لديه وقدره عنده مخبرا: ((مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21))) يعني سبحانه أن جبريل مطاع ثَمّ، وثَمّ يعني بها السماء فهو ثم مطاع، والملائكة له فذو استماع، وهو هنالك الأمين ومجاب الدعوة عند الله يعطى ما سأل عند  الله فهو الذي لا يخون لأمانته وصدقه وبره ومنزلته عند الله ومكانته، وهو المجاب المطاع في دعوته.
ثم أتبع الثناء على جبريل بالثناء على الرسول صلى الله عليه وعلى آله فقال: ((وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ (22)))كان المشركون ينسبون إليه من الجنون ((وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ (23))) يعني سبحانه رؤية النبي لهذا الرسول الكريم، وهو جبريل ذي القدرة عند الله العظيم، إذ رأى النبي جبريل صلى الله عليهما بالأفق من السماء المبين.
((وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24))) يعني ـ والله أعلم ـ بمتهم عند الله في سره المعيب بادعاء باطل ولا تكذيب.
ثم قال تعالى للمشركين مكذبا فيما كانوا يرمون به النبي عليه السلام ظلما وكذبا من الآخذ لما يقول عن الشياطين كما كان يفعل الكهان المبطلون: ((وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25))).
ثم قال تبارك وتعالى: ((فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26))) يعني فأين تذهبون باهتين كاذبين في إتباع ظنونكم حائرين ضالين.
ثم أخبر عن هذا الوحي الصادق، والخبر عما نبأ به من أنباء الحشر وغيره من وحيه إلى رسوله ونبيئه فقال: ((إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (27))) يعني سبحانه إن هو إلا تذكرة وتذكير للمتذكرين.
ثم قال سبحانه لا إله إلا هو: ((لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ (28))) فدل بقوله: ((لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ)) على أنه قد أعطى القدرة و الإستطاعة والقوة من أمره بالإستقامة من المطيعين، ولو لم يكن أعطاهم المشيئة، ووهب لهم بكرمه منها ما وهبهم وأعطاهم من العطية لما قال: ((لِمَن شَاء)) ولكان القول إنما هو لمن شئت منكم أن يستقيم.
ثم قال سبحانه: ((وَمَا تَشَاؤُونَ إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29))) خبرا منه تعالى عن أنهم لا يطيعون من قبل أنفسهم فيشآؤن الطاعة فيكونوا لها مختارين إلا أن يشاء الله جبرهم على الاستقامة فيكونوا عليها مجبورين.
والحمد لله رب العالمين وأصدق الصادقين الذي يقول الحق ويحب المحقين، وصلى الله على جبريل الأمين ذي القوة عند ذي العرش المكين، وعلى محمد خاتم النبيئين وأهله الطاهرين، ونستغفر الله [خير الغافرين]  ونعوذ به في هذا التفسير وغيره من سخطه وخذلانه، ونستعينه على فهم الحق والصدق بتوفيقه وتسديده وإلهامه، وحسبنا الله ونعم الوكيل وهو رب العرش العظيم.
 
 
 
 
بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم
قال ابوعبدالله محمد بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام : قوله عز وجل
((عَبَسَ وَتَوَلَّى (1))) معنى عبس: فهو قطّب وجهه، وتولى: فهو أعرض وتكبر، وقد يقال: العبوس والإعراض، والتكبر_القلة منه الكبر_ فقد يختلفان فما قل منه فصغير، وما كبر منه فكبير، وقد قال كثير من هذه العامة بما في أيديهم من الرواية: إن العابس المتولي المذكور في هذه الآية المتصدي، والتصدي: هو الإقبال والتأني لمن استغنى بالجدة والغنى، والمتلهي عن من جاءه يسعى ويخشى: فهو رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم وزعموا أن ذلك كله فعل من رسول الله صلَّى الله عليه وآله فعله وذمه الله منه، وذكره الله بالتقبيح عنه، وإن ابن أم مكتوم العامري جاءه وجاء معه إليه من ذكر الله غناه فعبس وتولى عن ابن أم مكتوم الأعمى، وأقبل وتصدى لمن استغنى، وما ذكر من هذا القول فلا يجوز على الله ولا على رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلم، لأن الله تبارك وتعالى في كبريائه وجلاله لم يذم رسوله بعد إرساله في شيء من فعله لأن الذم لوم والملوم مذموم، ورسول الله صلَّى الله عليه وآله حميد غير مذموم، وكريم عند الله سبحانه غير مليم.
وقد يمكن أن يكون العابس _الذي ذكره أنه عبس وتولى عن من جاءه يسعى وهو يخشى ، والذي تصدى لمن استغنى_: غير رسول الله صلَّى الله عليه وآله، وأن يكون الله سبحانه نزّل هذا ذما له ولغيره، والتذكرة فيه فقال سبحانه ((عَبَسَ)) لعابس سوى رسول الله عبس وتولى ممن كان مع رسول الله صلَّى الله عليه وآله، أو ممن سلف من الأمم وخلا فعبس في وجه أعمى جاء للهدى مبتغيا، وتصدى لمن كان بالجدة مستغنيا.
وأما قوله: ((وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3))) فليس فيها نفسها دليل على أن رسول الله صلَّى الله عليه وآله هو المذكور في الآيات والمذموم بها، لأنه قد يجوز أن يقول: ((وَمَا يُدْرِيكَ)) له وهو يريد بها غيره معه كما قال سبحانه له ولغيره معه: ((وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ)) [الأحزاب:63] وكقوله سبحانه: ((الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) )) [القارعة:1-3]وقال سبحانه: ((وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ(11))) [القارعة8-11] فكان ذلك له صلَّى الله عليه وآله  ولغيره من أهل دينه، وغير أهل دينه.
وإن يك رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم وعلى طِلاب المعنى بذلك، فإنما كان ذلك منه لعلمه وخطره وطلبه ما هو أصلح وأعز في دين الله وأرجح من إجابة الأغنياء والأصحاء والأقوياء لا على ميل ولا حيف لقوي على مستضعف، ولا لغني على فقير، ولا لكبير على صغير، و الحمد لله ولي كل نعمة وإحسان، وبالله نعوذ من كل حيرة وخذلان.
ومعنى ((قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17))) أي لُعِنَ الإنسان ما أقل شكره، وكذلك كل من كفر بآيات الله ولم يصر فيما أمر به إلى مرضاة الله فمن كان كذلك أو عمل بذلك فهو من الكافرين غير الشاكرين لما أولاه ووهب له من النعم وأعطاه في مبتدى خلقه حين أنشئ من نطفة من ماء مهين، وحفظ من الرحم في مستقره فأتم تقديره وحسن تصويره، ثم يسره للسبيل الذي هو مخرجه من بطن أمه بعد كماله في لحمه وعظمه.
ومعنى قوله سبحانه ((وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ (32))) فقال: الفاكهة هي الكثيرة التي جعلها الله متاعا للناس ومأكلة، والأب: فهو العشب والمرعى الذي جعله الله مرعى ومرتعا للأنعام ومَهْمَلاً للإبل، وإنما سمي المرعى بذلك لذهابه وقلة بقائه وثباته، ولذلك قيل فيما ذهب من الأشياء ذهابا: ذهب كذا وكذا تبابا، فالأب ما ذهب من النبات والبقول، كذلك يذهب إذا صافت فلا يبقى وما سواها من المراتع يكون في الصيف وتبقى فجعل الله ذلك بينها وبين الأب بيانا وفرقا.
 
انتهى الموجود من تفسير هذه السورة لمحمد بن القاسم عليهما السلام والله أعلم.
 
 
 
 
بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم
((وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1))) قال أبو عبد الله محمد بن القاسم عليهما السلام: النازعات فيما أرى ـ والله أعلم ـ فهن السحاب المنتزعات لماء الأمطار من البحار والأنهار ومما في الأرض من الندوة والبخار، وهن أيضا ((النَّاشِطَاتِ)) في نزعهن ((نَشْطًا))، والنشط والإغراق: هو القوة في النزع والصب ((وَالسَّابِحَاتِ)) هن السحاب في الهواء ((سبحا)) كما يسبح في الماء من كان سابحا يمينا ويسارا وإقبالا وإدبارا.
((فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4))) وهن أيضا السابقات بالمطر والغيب برحمة الله وفضله غير مسبوقات بإمساك الله المطر لو أمسكه عن الأرض وأهلها.
وقد تكون السابقات سبقا هي: البرق لأن البرق هو أسرع شيء خفقا وأحثه اختطافا وسبقا.
((فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا(5))) والسحائب أيضا فهن: المدبرات بما جعل الله من الغيث فيهن للشجر والأثمار والنبات، وفيما ذكرنا من هذا أعجب عجيب لكل ذي حكمه ونظر مصيب.
إلى هنا انتهى الموجود من تفسيره عليه السلام، وقد سقط من عبس والنازعات شيء [منع] عن استمرار ذلك في التفسير عن أبي عبد الله عليه السلام، فجمعنا ما أدركنا من كلامه في ذلك فإن وجد ذلك يوما ما فهذا موضعه والله المستعان، ولما لم نجد ما سقط في هاتين السورتين من تفسير أبي عبد الله عليه السلام أحببت أن أنقل في تفسيرهما مارواه هو عليه السلام عن أبيه العالم القاسم بن إبراهيم عليهما السلام فنقول وبالله التوفيق.
 
 
قال أبو عبد الله عليه السلام: سألت أبي القاسم بن إبراهيم عليهما السلام  عن معنى قوله تعالى:
((عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَن جَاءهُ الْأَعْمَى (2))) فقال عليه السلام: هذا تأديب من الله تبارك وتعالى لرسوله أن لا يعبس في وجه الأعمى الذي يأتيه يطلب منه الإسترشاد والهدى، والأعمى هاهنا عمى القلب، وقيل في ذلك: إن الأعمى أعمى البصر قالوا: هو ابن أم مكتوم أتى النبي يطلب منه الهدى فأعرض عنه، وليس ذلك كذلك.
ومعنى ((عَبَسَ)) هو عبس وتولى بكليته ((أَن جَاءهُ الأَعْمَى)) في معنى: حين ((وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3))) هو تعريف من الله أنه يعلم الغيب وأن الرسول لا يعلمه، ومعنى ((يَزَّكَّى)) هو يتزكى.
((أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى (4))) معنى ((أَوْ يَذَّكَّرُ)) يعرف فتنفعه المعرفة.
((أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى (6))) هذا تأديب للنبي صلَّى الله عليه وآله وسلم أن لا يجل من سمع بغناه ولو كان كافرا، ولا يستحقر من سمع بفقره وإن كان مهتديا.
وقد يكون هو النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم نظرا لصلاح الأمة في الإقبال إلى من كان معه غنى، وثقة بديانة الفقير، و اتكالا على صحته في الدين.
ومعنى ((تَصَدَّى)) تقبل عليه.
((وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى (7))) من جهة النظر، وهذا ـ والله أعلم ـ ليس للرسول، ولكنه مثل للتعريف والتأديب.
وفي البرهان للإمام أبي الفتح الديلمي  عليه السلام ((عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَن جَاءهُ الْأَعْمَى (2))) هو ابن أم مكتوم وهو عبد الله بن زائدة من بني فهر، وكان ضريرا أتى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم يستقرئه وكان عنده أبو جهل بن هشام فعبس أبو جهل حين رأى الأعمى وعبس، أي قطب وأعرض ((أَن جَاءهُ الأَعْمَى)) يعني ابن أم مكتوم. انتهى
وقال الإمام الحسين بن القاسم عليهما السلام: هذا العابس بعض من كان يصحب رسول الله صلوات الله عليه وآله وسلم من رؤساء المنافقين، ومن ينظر بعين الجلالة وهو من الفاسقين فكتم الله اسمه ولم يجعله من المشهورين، وجعل الخطاب لنبيئه صلَّى الله عليه وآله وسلم والمعني سواه، والعرب تستعمل ذلك على سبيل التعريض قال الشاعر:
وأريد  قتلك لامحــالة عنوة          ولك السلامة أن تكون كذلك
وإنما عبس وتولى أن جاءه الأعمى، ومعنى ((أَن جَاءهُ)) هو إذ جاءه، ولكن أن قامت مقام إذ.
ومعنى ((وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3))) أي ما يدريك لعله يتطهر من الذنوب.
ومعنى ((أَوْ يَذَّكَّرُ)) أي يتذكر ويتبين في أموره ويتدبر، لأنك لا تدري لعله يكون كذلك فلم تفعل ما فعلت في أموره من توليك عنه وإعراضك وأنت لا تأمن مما ذكرنا من ذلك ولكنك يا هذا المخاطب إنما تقبل على الغنى لمحبتك الحطام الذي يفنى، ورغبتك وحبك لزهرة الدنيا، وتدبر عن هذا لزهدك في الدلالة على الهدى. انتهى.
 
رجعنا إلى تفسير الإمام القاسم  [عليه السلام].
قال عليه السلام: ومعنى ((وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى (8))) يبادر ((وَهُوَ يَخْشَى (9))) يتخشع ((فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10))) تتشاغل ((كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَة (11))) معناه: نعم إنها تذكرة، وكلا هاهنا بمعنى نعم، وليست بمعنى (نعم لا) كغيرها ((فَمَن شَاء ذَكَرَهُ(12))) معناه فمن شاء تَعَرُّفَه تفقه في معرفته على الإستطاعة التي ركبت وقد خص في ذلك خواص وشرح فيه شرح كثير يستغنى عنه ((فِي صُحُفٍ)) في كتب مبيّن ((مُّكَرَّمَةٍ)) معظمة ((مَّرْفُوعَةٍ)) مصونة ((ُّمطَهَّرَةٍ)) منقاة من الدنس الذميم، ومخصوصة بكل فضل كريم ((بِأَيْدِي سَفَرَةٍ(15))) الملائكة عليهم السلام ((كِرَام)) مكرمين ((بَرَرَةٍ)) صادقة القول ((قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17))) معناه لعن الإنسان ما أشره، والإنسان معناه الناس يخص بذلك كل كافر كما قال: ((يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ)) [الإنفطار:6] ((مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18))) معناه على تقليل النطفة في معنى أنها لاشيء فصار منها شيء.
وقوله: ((مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ)) تذكرة له وتوقيفا فيما من به من الحياة عليه ((فَقَدَّرَهُ)) معناه: فسواه وعدله ((ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20))) معناه الطريق الواضح سيره وعرفه ((ثُمَّ أَمَاتَهُ)) حكم عليه بالموت غصبا ((فَأَقْبَرَهُ)) دل على قبرانه في التراب ((ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ (22))) معناه حتى إذا شاء بعثه ليوم نشوره ((كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23))) كلا في موضع نعم، حتى يقضي ما أمره أراد يحاسب على ما أمر به من الطاعة فيحاسب على ما فرط فيه ويجازى بالحسنة فيه على ما فعله، وقد يخرج ذلك على معنى لا ما قضى معناه: ما فعل ما أمره ولكن قصر فيه، وهل يكون أحد إلا وهو مقصر.
رجع إلى التعريف والتذكرة ((فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24))) إلى مأكله ((أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا(25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا(26)))  معناه أنزل الماء من السحاب وشق الأرض به وبالإغتصاص بشربه ((فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27))) حبا من الحبوب ((وَعِنَبًا)) من ألوان صنوف العنوب ((وَقَضْبًا)) من القضوب ((وَزَيْتُونًا)) خاص زيتون الشام لما فيه من البركة يروى عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم ((وَنَخْلا)) المثمر للتمر وهو هذا النخل ((وَحَدَائِقَ)) حوائط من كل الفواكه ((غُلْبًا)) معناه: قوية تخرج من التراب على ثقله وتضعف نباته حتى تصير قوية ((وَفَاكِهَةً وَأَبًّا(31))) الأب: الشجر هذا الثمام الذي ينبت في الأسناد والآكام ألا ترى أنه يقول: ((مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ(32))) الفاكهة لكم، والمتاع والأب لكم، لأنعامكم.
قلت: وفي هذه الآية الكريمة يقول الهادي إلى الحق عليه السلام: معنى ((شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا)) يريد شققناها عن النبات الذي يخرج منها  الحب والفواكه وغيرها، وفلقناها فلقا، و الأب: فهو الحشيش والعشب الذي تأكله الأنعام وينبت في الأودية والآكام ((مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ(32))) إلى انقضاء آجالها وآجالكم فرزقناكم فواكهها وحبا، ورزقنا أنعامكم عظاها وأبا، فكل ما خرج فقد سماه لأهله، ومن يملكه رزقا فهو لمن أجاز الله له أكله وأحل له أخذه وأمره عليه بشكره فقال: ((كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ )) [البقره:60] وقال: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)) [البقره:172] وقال: ((فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)) [النحل:114]  فرزق ذو المن والسلطان والجبروت والبرهان كل عبد ما أحل له وأمره بأخذه، فأما ما نهاه عن أكله وعذبه في قبضه فليس ذلك لعمرهم من رزقه، وكيف يحوز رزقا وقوتا به يعيشون وفيه يتقلبون، وينهاهم عن أخذ ما أعطاهم واليه ساقهم وهداهم فهذا والحمد لله ما لايغبى على من وهبه الله علما وفهما وتمييزا ولبا، والحمد لله رب العالمين. انتهى.
 
رجعنا إلى تفسير القاسم  عليه السلام .
قوله تعالى: ((فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ (33))) المسمعة المصخة للأنفس من هولها وما يرى فيها من عظمها فتصخ لها النفوس ((يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ)) هو الإنسان ((مِنْ أَخِيهِ)) ((و)) من ((أمه)) معناه: والدته ((وأَبِيه)) الذي أولده ((وَصَاحِبَتِهِ)) زوجته ((وَبَنِيهِ)) أولاده ((ِلكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37))) يعني لكل على قدر ما قدم وأسلف فيما غبر من الدهر، ألا ترى ما فسره حين قال: ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ)) معناه: وجوه ذلك اليوم وهو يوم القيامة ((مُّسْفِرَةٌ)) معناه ناضرة مشرقة حسنة، وهي وجوه المؤمنين ((ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ (39))) تبين لك في وجه المسفر كالضحك، ولعله لا يضحك، ويبين لك في وجه الكافر البكاء ولعله لا يبكي، وبلى كم من باك ندامة، وكم من ضاحك استبشارا بما بشر به من نعم الله التامة، ومعنى ((مُّسْتَبْشِرَةٌ)) متباشرة بما قد رأت من علامات الخير.
((وَوُجُوهٌ)) معناه وجوه الكفرة ((يَوْمَئِذٍ)) تقدم تفسيره ((عَلَيْهَا غَبَرَةٌ(40))) يعني القتام يلحق وجوه الكفرة والإظلام ((تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ(41))) تلحقها وتعلوها قترة، والقترة فهي الغبرة المقترة المهلكة الكريهة، وهذا جرم ما يكون من الكسوف على الوجوه والظلمة.
ثم بين فقال: ((أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42))) الكفرة: فهم الكافرون لأنعم الله، والجاحدون لربوبيته أيضا، لأن الكفر كفران كفر نعمة وكفر جحدان، وكل أولئك صائر إلى سخط في عذاب أليم ((الْفَجَرَةُ)) معناه: الفجرة في الدين وأهل الإطراح لحقوق رب العالمين، والإفتتان فيما لا يحل لهم محارم خالق الخلق أجمعين، وقد يكون الفجور الإرتكاب لأكبر الشرور من الفسق وأخبث الأخباث من الإتيان للذكران والإناث مما لم يأمر الله به ولم يسوغه في قرآنه ولم يثبته.
 
 
وأما تفسيره عليه السلام من سورة والنازعات فقال رحمة الله عليه:
بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم
قال الله سبحانه: ((وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا(5))) فقال عليه السلام: النازعات فيما أرى ـ والله أعلم ـ: فهن السحائب المنتزعات لماء الأمطار من البحار والأنهار ومما في الأرض من الندوة والبخار، وكذلك صح في الروايات والأخبار.
معنى ((غَرْقًا)) مغرقات لما أمطرن، وكذلك المغرق من كل شيء أيضا: الناهي فيه، تقول: أغرق في النزع، وهن((النَّاشِطَاتِ)) في نزعهن ((نَشْطًا)) والنشط والإغراق: هو القوة في النزع والصب، ومما ينتزع من المنتزع ......
ومعنى تنشط الماء: فهو تحيده وتطلعه، ونشطا مصدر كمصادر الكلام ((وَالسَّابِحَاتِ)) هن السحائب يسبحن في الهواء سبحان كما يسبح في الماء من كان سابحا يمينا ويسارا وإقبالا وإدبارا كما أراد الله عز وجل وشاء.
((سَبْحًا)) مصدر أيضا، وهن أيضا ((السَّابِقَاتِ)) بالمطر والغيث برحمة  الله وفضله غير مسبوقات بإمساك الله للمطر لو أمسكه عن الأرض وأهلها بعدله، وقد يكون السابقات هو البرق، لأن البرق أسرع شيء خفقا وأحثه اختطافا وسبقا، والسحائب أيضا فهي ((المدبرات)) بما جعل الله من الغيب فيهن للشجر والثمار والنبات، وفيما ذكرنا من هذا أعجب عجيب لكل ذي حكمة ونظر مصيب.
قيل: والمعنى فيه: ((الْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا)) الملائكة.
((يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7))) الراجفة: القيامة، سميت راجفة لهولها، يقال: أنزل ببني فلان رجفة، والرادفة: مردفة بهول يتبع هؤلاء.
((قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ)) ذلك اليوم ((وَاجِفَةٌ)) أراد مضطربة ((أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9))) منكسة ((يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ(10))) أولئك الذين كانوا يقولون أراد يكذبون بالرد لهم لما في الحافرة، هم الذين تخشع أبصارهم وتذل، والحافرة: التي تحفر على السرائر وتظهرها ((أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً (11))) تعجب منهم أنهم لا يرجعون إذا صاروا عظاما نخرة، والنخرة: البالية الدامرة ثم قالوا:
((تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12))) أرادوا نطفة خاسرة ، رد الله تكذيب قولهم بقوله عز وجل: ((فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ(13)))  تحقيقا أنها كانت مثل للزجرة، الزجرة ـ والله أعلم ـ مثل مضروب للحياة بعد الموت كما يفزع النائم بالزجرة من الصوت.
((فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ (14))) المتعبة لمن هو فيها تقول: فلان ألحق بالساهرة، أي لم يخبر به.
انتهى الموجود من تفسيره عليه السلام.
[تفسير الإمام الحسين بن القاسم العياني لبقية سورة النازعات]
واعلم أنه لما ذكر الإمام الحسين بن القاسم العياني عليهما السلام أن تفسيره الذي وضعه في غريب القرآن مروي عن العالم نجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم وأسباطه الأئمة عليهم السلام أحببت أن أتمم تفسير الباقي من هذه السورة منه فنقول وبالله نستعين: قال عليه السلام فيه:
قوله عز وجل ((هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى (20))) قال عليه السلام: ((هل)) خبر من الله عز وجل، ولفظه لفظ الإستفهام، ومعناه التوقيف على الخبر والإفهام كأنه قال: قد أتاك خبر موسى.
ومعنى ((إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ)) فكذلك يقول الله ناداه، وأنه أوجد كلاما به خاطبه وناجاه، والواد المقدس: هو المكرم المنزه المعظم، وهو طوى.
ثم قال: ((اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17))) أي: جاوز قدره وعلا وطمى، وخرج إلى الظلم والجهل والعمى فقال: ((هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى (18))) هل لك هو ترغيب في الخير والهدى.
قال العالم (القاسم بن إبراهيم صلوات الله عليه):
هل لك في الأكرومة البكر
غراء لاتبلى على الدهر
هل لك في مثل مقام الأولى
حموا حمى الله لـدى بدر
هل لك في عـزمة ذي نية
أحكمها صاف من الفكر
هل لك في نهضة ذي صولة
تزيده قـدرا إلى قـدر
هل لك في الجنة من حاجة
فإنهـا أفضـل مـاذخر
هل لك في الرحمن من رغبة
فأمره جار على الأمـر
هل لك يامشغول من توبة
قبل مجال النفس في الصدر
هل لك في رجعة ذي نية
تقيك حر النار والجمـر
هل لك في أمـر إذا رمته
أمنت هول البعث والحشر
 
 
ومعنى قوله ((إِلَى أَن تَزَكَّى)) هو الترغيب في التزكي والطهارة من قذر الدنيا وقبائح ما كان عليه من الكفر والردى.
ومعنى قوله: ((وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ)) أي أدلك إلى ربك، فيدخل في قلبك الخوف لسيدك.
((فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى (20))) أي الدلالة  العظمى، ومعنى قوله: ((فَحَشَرَ فَنَادَى (23))) أي جمع أصاحبه ثم نادى ((فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24))) والفاء بمنزلة ثم، لأنهما من حروف النسق والعطف.
ومعنى قول فرعون اللعين: ((أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)) يريد أنا سيدكم الشريف المرتفع في القدر والعلا، والرب عند العرب: السيد قال الشاعر:
أم غاب ربك فاعترتك خصاصة
فلعل ربـك أن يؤوب مؤيـدا
ومعنى قوله: ((فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25))) فالأخذ هو العذاب من الله عز وجل، عذب عدوه عذاب الآخرة والدنيا.
((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى (26))) هي الموعظة والتذكرة قال الشاعر:
في آل برمك عبرة وعجائب
 ومواعظ للعاقـل المتزهـد
ومعنى قوله عز وجل: ((أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28))) أي رفع محلها وموضعها، والسمك: هو المحل المرتفع العالي قال الشاعر:
إن الذي سمك السماء بنى لنا
   بيتـا دعائمه أعــز وأطول
معنى سمك السماء : أي رفعها ، وقال آخر :
وما إن بيـتهم إن عـد بيت
  وطال السمك وارتفع البناء
ومعنى ((فَسَوَّاهَا)) أي عدل صورتها وهيأها.
ومعنى ((وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29))) فالإغطاش: هو الظلام .
ومن غير تفسيره عليه السلام
قوله تعالى: ((وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا)) وضحاها شمسها ((وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ)) بعد خلق السماء ((دَحَاهَا)) سطحها وأصلحها للسكون فلا يناقض قوله: ((ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء)) [فصلت:11] عقيب قوله: ((أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ)) [فصلت:10] أي غير مدحوة قبل أن يخلق السماء، ثم دحاها بعد أن أخلق السماء.
((أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا(31))) ما ترعاه البهائم من الشجر والعشب.
 
عدنا إلى تفسير الإمام
قال عليه السلام: ومعنى قوله: ((وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33))) هو أسكنها وأثبتها وأهالها قال الشاعر:
ألقى مراسيه بتهلكة
ثبت رواسيها فما تجري
وفي هذا الكلام تقديم وتأخير والتنزيل قول الله عز وجل: ((أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ(33))) فعل تمتيعا لكم، والتأويل والمعنى: هو أخرج منها ماءها ومرعاها متاعا لكم والجبال أرساها، ولكن لا يجوز أن يقرأ كتاب الله إلا على ما أنزل الله سبحانه وعز عن كل شأن شأنه، لأنه لم يفعل ذلك إلا لأسباب من الصواب، ولولا ذلك لبين جميع الكتاب.
ومعنى قوله عز وجل: ((فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34))) يعني القيامة، وإنما سميت طامة لعلوها ورفعتها وهولها عند وقعها ووثوبها بغتة وسرعتها، وأصل الطم في الإرتفاع في الهواء سريعا سريعا معا معا قال الشاعر:
أتاكم طم فوق كل طم
إذا العكاضى كآثافي اليم
((يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى (35))) يريد أنه يتذكر ما عمل في الدنيا، وأصل السعي هو الجد و الإجتهاد والإقبال والإدبار والتحدر والإصعاد، قال سيد العابدين علي بن الحسين صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين:
فإن امرء يسعى لدنياه جاهدا
ويذهل عن أخراه لاشك خاسر
ومعنى ((وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى (36))) هو أخرجت وأظهرت، ومعنى ((لِمَن يَرَى)) هو لمن يرى عز وجل ويعلم أنه يستحق العذاب.
ومعنى قوله: ((فَأَمَّا مَن طَغَى (37))) هو جاوز الحد في ظلم نفسه بكفر أو فسق ((وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38))) قدمها على الآخرة ((فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى(39))) أي المنزل والمحل والمثوى، قال الهادي إلى الحق عليه السلام:
إني من الله له أرجو
جنانا دائما مأواها
((وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ)) أي موقفه الذي يقوم فيه العباد للحساب.
((وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى(41))) أي نهى نفسه عن إتباع الهوى، فأما الهوى في نفسه فلا يقدر أحد على تركه، لأن الهوى في ذاته إنما هو الشهوة، والشهوة لا يقدر أحد على تركها، وإنما يقدر على خلافها، ويمكنه الإمتناع من طاعتها، وهذا من الإختصار وهو كثير موجود في القرآن، وهو عند أهله بيِّن غاية البيان، فالحمد لله على ما علمنا من الفرقان، ونسأله أن يزيدنا برحمته من البرهان.
((يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42))) أي متى حلولها وهجومها على البرية ونزولها، وأيان في اللغة بمنزلة متى قال الشاعر:
أيان تدفع بالرماح عليهم
يامال قبل منيتي وذهابي
ومعنى قوله: ((فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا (43))) يريد بذلك التوقيف للناس على خوف رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلم وما هو فيه من الفزع والحزن عند ذكره لها، وعند ما يخطر على باله من هولها.
ومعنى ((إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا(44))) أي عند ربك نهايتها ووقت هجومها وغاية ما يكون في آخر تلك الساعة ومصير الأبرار إلى سعادتها، ومصير الفجار إلى أشقاها ونكدها، والساعة في تلك الواقعة التي يحكم الله فيها بين العباد، ويصير كل إلى داره التي يستحق بعمله من الضلال والرشاد.
ومعنى قوله: ((إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46))) يريد كأنهم في ذلك اليوم لم يقيموا في الدنيا إلا عشية من عشاياها، أوضحوه من ضحاها لقصر ما فات من الدنيا، وكذلك الإنسان عند الموت والفناء كأنه لم يعمر ولم يخلق إلا في تلك الساعة التي يقبض فيها ويوثق، ولكن هذه البرية أبت إلا العمى والتقصير عما أراد الله بها من إتباع الحكماء، ومالوا إلى اللعب والجهل والردى، وزهدوا في الحق والدين والهدى فزادهم الله تبابا وبعدا، ولا وفقوا للخير أبدا.
انتهى والحمد لله رب العالمين وصلى على محمد وآله الطاهرين.
[بعض ما ورد في الإمام الهادي عليه السلام]
قال الإمام الأعظم المنصور بالله الحسن بن بدر الدين بن محمد بن أحمد بن يحي بن يحي سلام الله عليهم في كتابه أنوار اليقين، وقد ذكره كلاما للهادي إلى الحق عليه السلام ما لفظه “مع أن يحي بن الحسين صلوات الله عليه جاءت الآثار بمدحه والتصريح بإمامته وحياة الدين على يديه كما روينا من قول النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم: (يكون في هذا النهج وأشار بيده إلى اليمن في آخر الزمان رجل من أهل بيتي اسمه يحي الهادي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يحي الله به الحق ويميت به الباطل) إلى غير ذلك مما رويناه أولا فيه عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم حيث ذكرنا إمامته عليه السلام، وقوله عندنا الحق وكلامه الصدق، وهو أولى بالإتباع من غيره وأوثق، وقد أخبر أنه ما يقول إلا ما يرويه عن أجداده حتى يتصل بعلي أمير المؤمنين، ثم بالنبي خير المرسلين، ثم بالروح الأمين، ثم برب العالمين، وهذا إسناد لا يوجد مثله في العالمين” انتهى.
وقال فيه السيد إبراهيم بن محمد الوزير في بسامته رضوان الله عليه:
من خص بالجفر من أبناء فاطمـة
وذي الفقار ومن أروى ظمى الفقر
سارت بمذهبه الركبان واشتملت
بقبره الناس مثل الِحجْرِ والحَجَــر
 
 
يتلوه تفسير الهادي إلى الحق عليه السلام كما كنا ذكرنا.
 
قال الإمام الهادي  الحق يحي بن الحسين عليه السلام:
 
بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم
الحمد لله الذي لا تراه عيون الناظرين، ولا يقع عليه فكر المتفكرين، ولا يستدل عليه أحد من المستدلين إلا بما دل به على نفسه، وأوقفهم عليه سبحانه من صفته من أنه الفعال لما يريد من الأشياء، وأنه المقتدر الفعال لما يشاء، فدل على نفسه بما أظهر من فطرته وبين البراهين بذلك على ربوبيته، فليس له حد ينال ولا مثل يضرب به له الأمثال، دائم أحد حي فرد صمد عزيز قيوم، لا تأخذه سنة ولا نوم.
ونشهد أن لا إله إلا هو، وأنه فطر السماء فبناها، وسطح الأرض فدحاها، وأخرج منها ماءها ومرعاها، والجبال أرساها، متاعا لخلقه، ورحمة لعباده، وأنه على كل شيء قدير.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى أهل بيته الطيبين الأخيار الصادقين الأبرار، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، أرسله بالحق داعيا إلى الحق، وشاهدا على الخلق، فبلغ الرسائل الزاهرة، وأبان الحجج الباهرة، وسطع بالحق معلنا، وجاهد المشركين معلما، وأصلح الله في بلاده، ونصح جاهدا لعباده، صابرا مصطبرا جاهدا محتسبا حتى قبضه الله إليه وقد رضي عمله وتقبل سعيه وشكر فعله صلى الله عليه وعلى آله.
إن الله تبارك وتعالى بعث محمدا إلى الأمة بكتاب ناطق، وأمر صادق، فيه شفاء للصدور، وكمال الفرائض والأمور، والهدى والتقوى، والرجوع عن الردى، والنجاة من المهالك، والسبيل إلى أفضل المسالك، ولا يظمأ من ورد شرائعه، ولا يجوع من أكل سائغة، ولا يصم من سمع واعظه، ولا يعمى من أبصر سبيله، ولا يضل من اتبع نوره، ولا يغلط من استشهد ناطقه، ولا يهلك من اتبع بيانه، ولا يندم من استمسك بوثيق عروته، ولا يفلج إلا من احتج بمحكم حججه.
نور ساطع، وبرهان لامع، وحق قاطع، كتابا مفصلا، ونورا وهدى، قد ترجمه الرسول وأحكم فيه وثائق الأصول، وفرع فروعه بأحسن القول، فكان في حياته واضحا، وكان به صلَّى الله عليه وآله قائما ناصحا، حتى صار إلى ربه، وتركه من بعده في أمته استأمن عليه من أمته خلفاءه من بريته الذين اختارهم الله على علمه، واصطفاهم له دون جميع خليقته، عترة النبي ونسل الوصي، وسلالة المصطفى الطاهر الزكي، الطيب المرضي الذين مدحهم الله في كتابه، وبين أنهم خيرته في قرآنه، فقال في كتابه: ((ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا)) [فاطر:32] ثم قال عز وجل: ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)) [الأحزاب:33].
ثم أمر العباد بطاعتهم فقال سبحانه: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ)) [النساء:59] ثم أمر نبيئه صلَّى الله عليه وآله بافتراض محبتهم ومودتهم على الخلق لما أراد من تثبيت ما أراد تثبيته فيهم من الحق فقال سبحانه لنبيئه أمرا منه له بذلك فقال: ((قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)) [الشورى:23] فجعل مودتهم فرضا على الخلق من ربهم، وحجة ودلالة منه على إمامتهم، فجعل من كان من آل رسول الله منتضما لشروط الإمامة المعروفة التي قد ذكرناها وشرحناها ووضعناها في أول كتاب الأحكام في الحلال والحرام إماما للأمة، وعلما للمحجة ودليلا على أبواب النجاة، وسببا إلى الجنان، ووصلة بين العباد وبين الرحمن، قلده علم كتابه وأمره بشرحه وبيانه ليبين بما يظهر فيه من حكمته، ويلقيه في قلبه من معرفته، ونطق به لسانه في تبيين حجته، ويعتقد له بذلك في رقاب المؤمنين عهوده المؤكدات، ويثبت في رقابهم له عقود  الأمارات، وليجعل ما يوفقه له ويكرمه به من تفهيمه إياه، ويدله به عن علم غامض آياته المتشابهات، ويوقفه عليه من فهم حكمه الذي قد بينه في الأمهات المحكمات دليلا على عقده له الإمامة على العالمين، وإيجاب الطاعة له في رقاب المخلوقين.
ويكون ذلك حجة له على الخلق، وعلامات ودليلا على ما أعطاه الله من الكرامات ((لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ)) [الأنفال:41].
 
فرأينا عندما خصنا الله به وأعطانا، وفضلنا به على أهل دهرنا وأولانا، أن ننشر فضائل الحكمة التي أوليناها، وأن نبين علامة الإمامة التي أعطيناها، لنخلع الحجة من رقابنا، ونثبتها لله على غيرنا بما يظهر مما أمرنا الله بإظهاره من شرح غامض الكتاب، وتبيين تفسيره من كل الأسباب، حتى نبين بذلك الحق المبين ونثبت فيه الصدق اليقين، وننفي عنه تأويل الفاسقين، ونميط عنه تفسير الجاهلين، الذين حملوا تأويله على غير تنزيله، وحكموا على محكمه بمتشابهه، وردوا معاني الآيات المحكمات المبيَّنات من الآيات اللواتي هن الأمهات على معاني غيرهن من المتشابهات، واستشهدوا المتشابه على المحكم، فأهلكوا بذلك جميع الأمم، شبهوا في تأويلهم وتفسيرهم ربهم بخلقه فأبطلوا ما نفاه من بعد الشبه لهم عن نفسه فمثلوه تمثيلا، ونقلوه في الصور تنقيلا، وجعلوه بذلك صورة مصورة محدودة عندهم غير مقدرة، فعبدوا ما وصفوا، ودانوا لهذه الصورة التي ذكروا، فكانوا بالله غير عارفين ولا مقرين ولا مثبتين، بل كانوا عنه عابدين، وبه في كل الأمور جاهلين، فلما أن جهلوه لم يعبدوه؛ لأنهم عبدوا مجعولا مقدرا ومعبودا عندهم مصورا.
والله فليس هو كذلك، إذ المعبود الذي هو عندهم كذلك، فكانت عبادتهم لغير الرحمن، وطاعتهم لغير ذي الجلال والسلطان، بل كانوا لله منكرين، وبه غير مقرين.
فابتدأنا بشرح ما نريد بيانه من تفسير القرآن الذي نزله ذو القوة والبرهان من حيث أفضى إليه تفسير شيخينا رحمة الله عليهما ورضوانه جدي وعمي، وهو من أول سورة ((عم يتسآلون)) وذلك أن جدي صلوات الله عليه بلغ من تفسيره إلى آخر ((والشمس وضحاها)) ومحمد بن القاسم عمي من عند ذلك إلى آخر ((والنازعات)) فرأينا البناء على أساسهما، وإتمام ما قد كانا أملاه من شرح القرآن وتفسيره، وبلوغ الغاية في شرح تأويله إن أخرني الله سبحانه لذلك وأمهلني، وبلغني فيه أمنيتي ولم يمنعني من ابتدائه من أوله وتفسيره من أول حرف منه إلا التبارك بذكرهما، والبناء على تفسيرهما صلة مني لهما بذلك وتقربا إلى الله بأن أكون كذلك لما لهما في ذلك من الأجر، وما يكسبهما ذلك إن شاء الله من الفخر في الدنيا والآخرة والذكر؛ لأن يشركهما الله عز وجل في صالح ما نضع من ذكر الحق، ونبين من براهين الصدق، التي نهدي بها المسلمين، وننقذ بها جميع المخلوقين ممن يستحق من الله الهدى، ويستوجب منه المعونة على التقوى.
فابتدأت من حيث بلغا  مستعينا بالله متوكلا عليه سائلا له العون في كل أمر من هذا وغيره، فنسأل الله أن يبلغنا في ذلك أملنا، وأن يعظم عليه أجرنا، وحسبي الله فنعم المولى ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي القدير.
 
 
بِسْـمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـم
قال عليه السلام: معنى ((بسم الله)) وتأويلها، أي ببسم الله يبتدأ كل شيء، وهو المذكور قبل كل شيء، ومعنى ((الله)) فهو الإله الواحد الذي لا إله معه، ومعنى ((الرحمن)) فهو المتعطف على الإنسان، العائد عليهم بالعفو والإحسان، المتفضل عليهم بالبر والإمتنان، الرازق لهم على كل حال كانوا فيه من هدى أو ضلال.
((الرحيم)) فهو البر الرفيق المنقذ لهم بالدلالة على ما فيه نجاتهم الدال لهم على ما فيه صلاحهم، المحذر لهم طريق التهلكة، المجنب لهم عن سبيل الهلكة، السالك بهم أبواب الكرامة والرحمة، الداعي لهم إلى ما فيه السلامة والنعمة.
قال الله سبحانه: ((عَمَّ يَتَسَاءلُونَ)) قال: ((عَمَّ)) يريد عن ما، فأذهب النون إدغاما في الميم لتقارب مخرجهما، وكذلك تفعل العرب بما كان كذلك تطرح الألف التي مع الميم استخفافا لها، والعرب تفعل ذلك بالألف تطرحها وهي تريدها، وتثبتها وهي لا تريدها، وكذلك تفعل بلا كما هي قال الله سبحانه في طرح الألف وهو يريدها ((لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ)) وإنما معناه ألا أقسم بيوم القيامة فطرحها وهو يريدها، فخرج معنى الكلام معنى نفي، وإنما معناه معنى إيجاب.
وكذلك قال الله سبحانه: ((لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ)) فطرح الألف استخفافا لها، وإنما معناها ألا أقسم بهذا البلد.
وقال سبحانه في موضع آخر أخر أثباتها فيه وهو لا يريدها: ((وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ)) [الصافات:147] فخرج معنى اللفظ معنى شك، حين يثبت الألف، وإنما معنى الآية وأرسلناه إلى مائة ألف ويزيدون، فأثبت الألف لغير معنى استخفافا لها؛ لأن العرب تفعل ذلك، وهي لغتها، وإنما خاطبهم الله عز وجل بلغتهم.
وكذلك قال سبحانه وجل عن كل شأن شأنه في طرح الألف واللام معا من الموضع الذي لابد منهما فيه فيما ذكر من فدية الصيام: ((وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ)) [البقره:184].
فقال: ((وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ)) فخرج اللفظ لفظ يوجب الفدية على من أطاق الصيام، وإنما المعنى وعلى الذين لا يطيقون فدية طعام مساكين، فجعل على من لا يطيق الصيام من الشيخ الكبير الفاني، والعجوز الكبيرة الفانية اللذين لا يطيقان الصيام ولا يرجوان تجديد قوة لما قد زال عنهما من القوة بدخول الهرم والذهاب، وزوال الشدة والشباب ـ الصدقة على مساكين بدل كل يوم حتى ينقضي شهر الصوم فيكون كل واحد منهما يتصدق على ثلاثين مسكينا بدل الثلاثين يوما.
ومقدار ما يتصدق به فهو مُدَّا بُرٍّ على كل مسكين عن كل يوم، أو غير البر مما يأكل أهل تلك الفدية، فقال سبحانه: ((وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ)) وإنما يريد وعلى الذين لا يطيقونه فطرحها وهي أصلية في المعنى؛ لأنها لغة العرب وبلغتهم خاطبهم الله سبحانه.
وكذلك أثبتها في موضع ولم يردها، ولا أصل لها في المعنى، وإنما جاءت ظاهرة في اللفظ، وذلك قول الله سبحانه: ((لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ)) [الحديد:29].
فقال: ((لِئَلَّا يَعْلَمَ)) فخرج معنى اللفظ معنى نفي، وإنما معناه معنى إيجاب، أراد الله سبحانه لأن يعلم أهل الكتاب أن لا يقدرون على شيء من فضل الله، فأثبتها وهو لا يريدها، فخالف اللفظ المعنى عند من لا يعرف تفسيرها، ولا يقف على معانيها.
وفي الدليل على أن هذا الفعل لغة من لغات العرب، أفصح لغاتها عندها وأثبتها في ألسنتها قول شاعر من شعرائهم في طرحها وهو يريدها:
بيوم جدود لافضحتم أباكم
وسالمتم والخيل يدمى شكيمها
فقال: لا فضحتم أباكم، فأثبت فيها لا، وليس يريدها، ولا لها معنى، وإنما معناها: بيوم جدود فضحتم أباكم، وقال آخر من شعراء العرب في طرحها وهو يريدها:
  نزلتم منزل الأضياف منا
    فعجلنا  القرى أن تشتمونا
فطرح لا كما طرح اللام فخرج معنى الكلام معنى إيجاب، وإنما معناه معنى نفي، أراد لئلا تشتمونا، وطرح لا وهو يريدها فعلى ذلك يخرج معنى قوله سبحانه: ((عم يتسآلون} فطرح النون من عم لما ذكرنا من الحجة فيها أولا ، وطرح الألف من ما لما ذكرنا من استخفاف العرب لها ، واستعمال ذلك في لغتها فبقيت {عمَّ يتسآلون} مشددة ، شددت لإدغام النون في الميم .
والمعنى فيها عن مايتسآلون غير أن اللغة والإعراب حذف منها الحرفين النون والألف يريد تبارك وتعالى بقوله : ((عَمَّ يَتَسَاءلُونَ)) أي عم يستخبرون ويتذاكرون ويترادون ويسألون توقيفا لنبيئه صلى الله عليه وعلى آله على ما يفعلون، وعلى ما فيه يترادون.
ثم قال سبحانه: ((عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3))) فأخبره صلَّى الله عليه وآله أن الذي كانوا عنه يتسآلون وفي أمره يترادون هو النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون، والنبأ هاهنا الذي هم فيه يختلفون فهو ما كان ينبئهم به رسول الله صلَّى الله عليه وآله، ويعلمهم به من بعثرة القبور ومن النفخ في الصور، ومن حشر العباد، وتبديل الأرض والبلاد والحساب و العقاب والمناقشة والثواب، فكانوا في ذلك يختلفون، ومعنى يختلفون أي تختلف أقاويلهم في التكذيب به وتصنيف معاني رسول الله صلى الله عليه وعلى آله فيه، فكانت طائفة تقول: إن إنباء رسول الله صلَّى الله عليه وآله لهم بهذا القول سحر، وطائفة تقول: إن إنباءه لهم به شعر وظنون، وطائفة تقول: إن ذلك كله منه كهانة وجنون، فهذا معنى اختلافهم في النبأ والنبأ فهو الإنباء، والإنباء: فهو الإخبار والتبيين والإعلام للعالمين بما لا يعلمون، ولا يتوهمن أحد ذو فهم ونظر وتمييز وبصر أن اختلافهم فيما كان ينبئهم به صلى الله عليه وعلى آله من ذلك، ويقصه عليهم ويقرؤه اختلاف يكون بعضه إقرارا بما كان يقول: وبعضه إنكارا لهذا القول، بل كلهم كان منكرا له مكذبا غير مقر، وإنما معنى الإختلاف منهم، وهو اختلافهم في تصنيف الكذب على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله والجحدان لما جاء به صلَّى الله عليه وآله من عند الله.
((كَلا سَيَعْلَمُونَ (4))) معنى كلا: معنى الإنكار لقولهم الذي قالوا، وإنكار لما هم فيه من تصنيف الكذب على رسول الله صلَّى الله عليه وآله؛ لأن كلا هي كلمة جواب رد على متكلم بغير صواب إنكارا لقوله، وردا عليه في كذبه، ودفعا لما يأتي به من جهله ـ تستعملها العرب في ذلك من محاورتها، وتلفظ بها في لغاتها، فقال: ((َكلا)) ما جآؤا بحق، ولا تكلموا بصدق.
ثم ابتدأ الكلام من بعدها بالوعيد لهم على كذبهم وجحدتهم للنبأ العظيم الذي أنبأهم به رسول الله صلى الله عليه وعلى أهل بيته من بعثهم وحشرهم فقال: ((سَيَعْلَمُونَ)) أي سيعلمون صدق ذلك وحقه، ويعاينون ما ذكر من كينونة البعث والحساب، وما أوعدوا بالنكال والعقاب.
ثم رجع سبحانه وجل عن كل شأن شأنه في إبطال قولهم والتكذيب لهم في جحدانهم للنبأ العظيم وإبطالهم الوعد والوعيد الجسيم فقال: ((ثُمَّ كَلا)) فكرر الجواب لهم لنفي الصدق عنهم، وإيجاب الباطل عليهم، والتكذيب لهم في قولهم، فقال: ((ثُمَّ كَلا)) أي باطل ما أتوا به وزور ومحال ذلك وفجور.
ثم رجع إلى الوعيد فقال: ((سَيَعْلَمُونَ)) غب فعلهم، ويجدون ما أوجبنا من الوعيد عليهم في تكذيبهم وشكهم ودفعهم ما ذكرنا لهم من نشزهم وشرحناه على لسان نبينا من الأنباء العظيمة والأسباب الجليلة، التي لابد من وقوعها وكينونتها ووضوحها من عجائب أفعالها في خلقنا عند نفخنا في صورهم وإخراجنا لهم من أجداثهم، وإيصالنا لهم ما حكمنا به لهم وعليهم من كريم الثواب وأليم شديد العقاب.
ثم قال سبحانه: ((أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا (6))) والمهاد: فهو القرار الممهد، والممهد: فهو المسوى المجرد الذي يضطجع الناس عليه ويأوون فيه، وينشأون عليه، من ذلك ما تقول العرب لمضطجع الصبي وموضعه ومأواه: مهد الصبي، وهو شيء يسوّى له من الخشب يغذّى فيه، ويجعل عليه يكفته ويؤويه، ويشده ويقويه، ويستريح إليه، فجعل عز وجل الأرض للخلق مهادا يأوون إليها، ويسكنون فيها، فلما أن كانت الأرض لهم مأوى ومكفتا يمهدون فيها ويسكنون عليها سميت مهادا، إذ كانت لهم مأوى كما سمي موضع الصبي مهادا، إذ كان له مضجعا ومأوى.
ثم قال: ((وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7))) فأخبر عز وجل أن الجبال أوتاد للأرض تمنعها من المَيَدَان بهم، وتوقفها عن التزعزع بمن فيها منهم كما قال سبحانه: ((وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ)) [النحل:15] يقول: أن تزول أو تزعزع بهم، فشبه سبحانه الجبال في الأرض للزومها لها ومنعها بها من المَيَدَان بأهلها بالأوتاد اللازمة لأطناب البيوت، المقيمة لها على الثبوت اللازمة المانعة لها عن الزوال، فجعل سبحانه ما جعل من الجبال للأرض أوتادا.
ثم قال سبحانه: ((وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8))) فأخبر بعجيب صنعه، وما أظهر من فطرته، وما أرى الخلق من محكم تقديره في خلق المخلوقين أزواجا، والأزواج: فهي الذكر والأنثى الذي يكون منهما نسل الآدميين، وبتناسلهما تكون كثرة المخلوقين.
ثم قال: ((وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9))) والنوم فهو الرقاد، والرقاد: فهو خروج الروح من البدن، وبقاء النفس التي منها النّفَس في مقرها من البدن، وهو شيء جعله الله وركبه في الإنسان مِنَّة منه سبحانه عليه، وإحسانا منه سبحانه إليه لما في النوم من راحة البدن وإراحة الجوارح كلها، وإزاحة النفس في كل وجه ومعنى.
من تلك الراحة راحة  البدن من تعبه وإقباله وإدباره، وراحة العين من النظر والإصعاد  والتصويب، وراحة الرجلين من المشي، وراحة الأذنين من السمع و الإستماع، وراحة اللسان من القال والقيل، وراحة النفوس من الهموم والغموم، وراحة الخائف من وجل خوفه، وللمرعوب من رعب فزعه، وكل ما شرحنا من هذا القول ومثله ففي النوم راحة من ألمه، وفرج من فادح عمله؛ لأن النوم يزيل ذلك كله، ويعرف بزولان الروح من البدن، وزوال العقل الذي به يميز ذلك كله، ويعرف به ألمه، فإذا زال صار الإنسان بزواله في الغفلة عن ذلك [كله] كالميت المفارق لأرضه.
وفيما ذكرنا من خبر النوم وفضله، وجزيل مواهب الله فيه ومَنِّه وما يزول به عن كل أحد به من فادح همه ما يقول الله تبارك وتعالى: ((إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ)) [الأنفال:11] يقول: تطمينا لقلوبكم وترويحا به عنكم، إذ بوقوعه يزول عنكم معرفة ما أنتم فيه من الروع والهول، فتبارك الله العزيز ذو الطول.
السبات: فهو الإطراق والخفات، والهدوء والسكون في الحالات.
ثم قال: ((وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10))) يقول: غاشيا لكم ملبسا عليكم ما يلبسكم من ظلامه، ويقع عليكم عند هجومه من ادلهمامه، فسماه الله لباسا؛ إذ كان يلبس الأرض ظلمته، ويغلبها اسوداده، فيستر منها القريب الداني، ويواري معها بظلمته المختفي المتواري، فلما أن ستر بظلامه ما ستر، وألبس الأرض ما حجب الناظر به عن النظر، وستر عنه ما يكشفه النور من الخبر قيل: لباس ملبس، وكذلك تقول العرب: أرخى الليل ستره، وضرب الليل بسجفه، وألبس الليل الأرض ثوبه، تريد ألبسها من ظلمته ما كان سترا [لها] وحجابا دونها، فسمي بذلك الليل لباسا.
ثم قال: ((وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11))) يريد سبحانه متعيشا للناس، ومكتسبا يكتسبون فيه المعاش، ويطلبون فيه المراش فلما كانت المعائش من الصناعات وغيرها مما يكتسب به المعائش لا تكون إلا في النهار قال الله سبحانه: ((وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11))) إذ جعله للمعائش سببا ووقتا ومطلبا.
ثم قال سبحانه: ((وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12))) يعني بالسبع الشداد: السموات المبنيات، وهن الطرائق المركبات المجعولات، فذكر سبحانه ما جعل من السماوات التي جعلهن دليلا عليه وآيات، ولما فيهن وفي من يسكنهن من الدلالات المنيرات على الجاعل لهن، المقدر لتركيبهن، الممسك بلا عمد لهن.
ثم قال: ((وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13))) والسراج الوهاج: فهو ما جعل الله من الشمس والقمر النيرين، السراجين الوهاجين، وما جعل من النجوم الوهاجة المتوقدة، فأضاء ما بين المهاد وبين السبع الشداد من الهواء المدلهم المتكاثف المظلم بمنور السراج الوهاج، الذي جعله في الليل والنهار سراجا، والسراج: فهو المضيء المنور، الذي يسرج بضوئه وينير؛ لأن معنى السراج: فهو المضيء المنير، تقول العرب: أسرج السراج، تريد نَوِّرْه وأضائه، واجعل فيه نورا ساطعا حتى يكون بتنويره سراجا وهاجا، والوهاج: فهو المتوقد الملتهب.
ثم قال: ((وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجًا (14))) والمعصرات: فهن السحاب المثقلات العاصرات لما فيهن من الماء، وعصرهن للماء حبسهن وحملهن له وإمساكهن إياه، فسمين لحبسهن لما فيهن من الماء وإمساكهن له معصرات، ومن ذلك ما سميت العصر عصرا لما يعصر بها ويحبس عن الظهر الذي قبلها، فسميت عصرا للإمساك عنها، والتعصير بها، والعصر: فهو الحبس، ومن ذلك ما تقول العرب في كلامها وأمثالها لحابس الشيء إذا حبسه عنها: كم تحبسه وتعصره، وتقول: أكثرت عصر هذا الشيء أي تزيد حبسه وإمساكه.
وقد قيل: إن معنى ((الْمُعْصِرَاتِ)) هو العاصرات لما فيهن من الماء حتى يخرج من خلالهن، وشبه ذلك بعصر الإنسان للشيء وغمزه حتى يخرج ما فيه من مائه، والقول الأول أحسن القولين عندي وأصوبهما وأولاهما بالحق وأشبههما.
وقوله: ((أَنزَلْنَا)) أهبطنا ((مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجًا)) ومعنى ((ثَجَّاجًا)) أي كثيرا جرارا، قوي السيلان كثير الهطلان، يثج في الأرض ثجا، ومعنى يثج ثجا: أي يدفع دفعا كثيرا إتيانه معا وتدافع سيوله جميعا، يعضد بعضه بعضا، ويقوي كل آخر منه أولا، فهو لتلاحقه وكثرته يثج ثجا، ويتدافع تدافعا، ويتحامل على ما لقيه من الأرض تحاملا يقلع بتحامله وثجه كل ما نبت من الأشجار في مجراه، أو اعترض له في وجهه.
ثم قال سبحانه: ((لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16))) فأخبر سبحانه أنه أنزل هذا الماء ليخرج به ما ذكر
ومعنى نخرج به: هو ننبت به، ونجعل منه وببركته، والحب: فهو كل حب يؤكل أو ينتفع به مما يتولد في أشجار الأرض بالماء كائنا ما كان من الأشياء.
((وَنَبَاتًا)) فهو ما كان غير الحب من أوراق الأشجار المختلفات من أفنان الحشيش النابتات، وغير ذلك من زاهرات الأرض المورقات.
((وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا)) الجنات: الحدائق الملتفات المشتبكة فيها الأشجار المثمرات من الفواكه كلها المأكولات الملتذ بأكلها، المتنعم بطعمها وغير ذلك من الأشجار الملتذ برائحتهن، المتفكه بشمهن من الرياحين وغيرها من الأشجار المنورة المختلفة بنوارها التي تجري من تحتها المياه، قد فجرت فيها  أنهارها تفجيرا، وأبهجت سبلها سبلا سيلا، وأعد فيها مما اتخذ من مجالس دورها، ومنتزهات قصورها فاختلفت هذه الجنان لأهلها، وتزينت لهم بما فيها، فإذا كانت كذلك، وكان السبب فيها على ذلك فقد انتظمها اسم الجنان، وفي ذلك ما يقول الرحمن الرحيم: ((كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28))) فسمى ما كان على ما ذكرنا من الأرض جنانا، وإنما سمى ما كان من الأرض كذلك جنانا لما فيها من الملك والنعيم، والسرور والخير الكريم، فشبهت في الإسم بالجنان التي ذكر الله في الآخرة التي فيها النعيم الذي هو النعيم حقا، المقيم أبدا، فاشتبها في الإسمين وتفاوتا ولله الحمد في المعنيين والحالين والصفتين.
وكيف لا تتفاوت وكل ما في الآخرة فدائم أبدا لا يعدم صيفا ولا شتاء، ولا يكون له أمد يبلغه وانتهاء، نعيمها مقيم، وملكها سرمد كريم، وما في الدنيا فيزول مع زوال الأزمنة، ولا يدوم منه شيء أبدا، ما أكل من لذيذ مأكلها إلا عدم في غير هذا الوقت من الزمان، فيتقلب مع تقلب الأزمنة فلا يوجد منها ثمرة صيف في شتاء، ولا يوجد ثمرة الشتاء في الصيف أبدا.
هذا مع تصرم ذلك كله وانقضائه، وخروج أهله منه بالموت وفنائه، وترك ما جمعوا لذلك لغيرهم، وما تكالبوا عليه لورثتهم.
وكلما ذكره الله سبحانه من قوله: ((أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا(9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12))) إلى قوله: ((وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا)) فإنما أراد الله تبارك وتعالى بذكر ما ذكر احتجاجا على المكذبين بالنباء العظيم، بما جعل من ذلك كله وركب فيه من الدلائل الدالة عليه سبحانه والشاهدات على تصديق النباء العظيم، الذي هم في تصنيف الكذب به مختلفون، فأخبر جل وعلا جلاله عن أن يحويه قول أو يناله ـ أن في أقل مما رأوه من جعله، وعاينوا من أثر خلقه دليل على عظيم قدرته وصدق وعده ووعيده، وأن الذي عاينوا من أثر صنعه في هذه الأشياء أعظم في بيان القدرة ومضي الإرادة من نشر الموتى، وما نبأهم به رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم من الأشياء التي ذكرها في يوم المعاد، وأنذر بها، ورغب ورهب جميع العباد.
ثم قال سبحانه: ((إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17))) ويوم الفصل: فهو يوم الجزاء والقطع بين العباد، والقضاء بينهم فيما كانوا فيه يختلفون، وبه من النبأ يكذبون، فسمى الله سبحانه ذلك اليوم: يوم الفصل؛ ليفصل الأمور، وتفصيلها: فهو قطع ريبها، وبيان أمرها، وثبوت صحتها عند من كان جاحدا لها.
ومعنى قوله : ((مِيقَاتًا)) أي موعدا وعائدا وغاية ومدى، وإليه يوعدون، وفيه يثابون ويعاقبون، والميقات: فهو الوقت الذي إليه يؤخر الخلق فيما يوعدون وإليه يجتمعون، وفيه يحصلون، واليه يجرون.
وقوله: ((يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ)) يريد بقوله: ((يَوْمَ يُنفَخُ)) أي أن هذا الميقات واليوم الذي فيه الميعاد هو يوم ينفخ في الصور، والصور: فهو صور الآدميين، فذكر سبحانه أنه ينفخ فيها بعد فنائها وبلائها روح الحياة بعد الفناء والبلى، فتعود من بعد ذلك صورا أحياء، معتدلة الخلق والبناء، كما كانت عليه من الخلق أولا.
ومعنى ((يُنفَخُ)) هو يجعل فيها الحياة، ومعنى يجعل فيها الحياة: فهو ترد إليها الأرواح في الأجساد المبتدأة.
ألا تسمع كيف يقول سبحانه فيما أمر به الملائكة عليهم السلام من السجود له عند إظهار ما يظهر من قدرته في خلق آدم صلى الله عليه حين قال: ((فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)) [ص:72] قال: نفخت فيه من روحي، يقول: جعلت فيه وركبت وسويت وخلقت فيه روحا به تمامه، وبكينونته فيه قوامه، ثم نسبه إليه؛ لأنه خلقه وفعله كما قال: ((يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)) [الزمر:53] فنسبهم إليه إذ هم فطرته وخلقه، وفعله وأمره قال الله سبحانه في مريم عليها السلام: ((وَمَرْيَمَ ابْنَتَ
عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا)) [التحريم:12] يريد: جعلنا في الرحم ما جعلنا من خلقنا، وخلقنا فيه من غير ذكر ما خلقنا من عبدنا الذي جعلناه آية لعبادنا، ثم نفخنا في ذلك الخلق روحا، ونفخنا: فهو ركبنا وجعلنا وأدخلنا وثبتنا فيه روحا به كمال ذلك الخلق المخلوق، وقوام ذلك العبد المجعول.
ثم قال سبحانه: ((فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18))) والأفواج: فهي الجماعات الكثيرات الآتيات معا معا، زمرا زمرا، يقول: تأتون إلى الميقات الذي وقت لكم والموضع المحشر الذي جعل لكم محشرا وموضعا للحساب وموقفا.
ثم قال: ((وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20))) يخبر سبحانه عن تقطع السماء وتفتحها، وتقلعها  وتمزقها، حتى تكون بعد جودة الإنحباك قطعا، وبعد الإستواء أبوابا مفتحة ومزقا حتى تكون كالمهل السائل، بعد العظم والتجسيم الهائل.
ومعنى قوله: ((وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20))) وتسييرها: فهو نسفها وإذهابها، والنسف: فهو القلع والإهلاك والإزالة عما هناك، حتى تعود أمكنتها قاعا صفصفا، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا، والقاع الصفصف: فهو الموضع الأملس المرت الخالي من كل شيء، الذي لا يستتر منه جانب عن جانب، ولايتوارى فيه صاحب عن صاحب، والعوج: فهو المتفاوت في الإرتفاع والإنخفاض، والأمت: فهو الإختلاف.
ثم قال سبحانه: ((إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21))) والمرصاد: فهو المرصد، فأراد بقوله: ((مِرْصَادًا)) أي أنهم يرصدون لجهنم، وأنها لهم مرصدا، أي مكانا وموضعا لا معدل لهم عنه، ولا منحرف لهم منه، ولا مصرف ولا مراغ، ولا ملاذ سواها ولا مساغ غيرها، وفي ذلك ما تقول العرب: مرصد فلان مكان كذا وكذا تريد مكانه الذي يرصد فيه.
ومعنى يرصد: هو ينتظر فيه حتى يأتيه ويصير إليه فيصادفه فيه راصده، ويجده فيه طالبه، وهو المكان الذي لا مراغ له عنه، ولا يوجد إلا فيه، فأراد سبحانه بقوله: ((كَانَتْ مِرْصَادًا)) أي كانت مكانا وموئلا لابد للطاغين منه ، ولا منصرف لهم عنه.
ألا تسمع كيف بين سبحانه بقوله: ((لِلْطَّاغِينَ مَآبًا (22))) أي للعاتين الجبارين المكذبين معادا وموئلا ومكانا ومقرا يأوون فيه، ويصيرون إليه، والأوب: فهو الرجوع، والمآب: فهو المكان الذي يصار فيه، ويرجع إليه.
((لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23))) فاللابث: هو المقيم، ومعنى ((لابثين)) فهو مقيمون الأحقاب: فهو الدهور الدائمة، وقد قيل: إن واحد الأحقاب حقب، وإن الحقب ثمانون سنة، فإن يكن ذلك كذلك فهي أحقاب متوالية متواترة متصلة لا آخر لها ولا انقطاع، ولا فراغ لمدتها ولا فناء؛ لأن الله سبحانه ذكرها أحقابا، ولم يذكر لها غاية ولا مدى، فدل بذلك على أنها أبدا دائما سرمدا.
ثم قال سبحانه: ((لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا (24))) يريد لا يجدون فيها فسحة ولا راحة تبرد عنهم كربهم، ولا تنفس عنهم ألمهم، ولا تكشف عنهم حرارتهم، ولم يرد هاهنا بقوله: ((بردا)) وقع البرد وحسه وإنما أراد بالبرد تهوين الأمر لأن العرب تقول: برد عني غمي كذا وكذا، وبرد عني ألم علتي كذا وكذا، يريدون هون عني وسهل علي، وفرج كربي كذا وكذا، لا أنها تريد بقولها أنه أصاب القائل لذلك بردا أبرد جلده، فهذا معنى ما ذكر الله سبحانه من البرد الذي لا يذوقه أهل جهنم يريد أمرا يسهل عليهم عذابهم ويفرج عنهم كربهم من أمر يطفي عنهم حر جهنم، وأمر يهون عليهم عظيم الألم.
والشراب الذي لا يذوقونه: فهو الشراب البارد الهنئ الطيب المريء فذكر الله سبحانه أنهم لا يذوقون من ذلك الصنف شيئا؛ لأنه صنف كرامة من الله لمن سقاه إياه ونعمه، وأن شرابهم هو الحميم الذي ذكر الله أنه يتجرعه ولا يكاد يسيغه، ألا تسمع كيف يقول تبارك وتعالى: ((إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25))) فالحميم: فهو الماء المحمى المسخن الذي قد منع الأيدي عن مسه لشدة حموه وحره، والغساق: فهو الذي قد غلى حتى رمى بحبه وبطائر نضجه من جوانب إنائه، فهو يتطاير من الإناء لشدة الغليان.
((جَزَاء وِفَاقًا (26))) يقول: جزاء وفقا مثلا بمثل، بالسوأة سوأة، وبالمعصية نقمة، وبالمخالفة عذابا، فهذا معنى الوفاق أي أنكم عذبتم بفعلكم ونكلتم بجرمكم، ولم تظلموا في شيء من أموركم، وكان ذلك منا جزاء فعلا على فعلكم، ومجازاة على صنعكم، فأذقناكم من عذابنا ما جعلناه في حكمنها به جزاء لمن عَنَدَ عنا، فكان منا حقا حقا، ولم نسأله ولم نعذبه تجاهلا ولا ظلما ولا ابتداء ولا غشما، بل كان جزاء بعد الإعذار والإنذار والإحتجاج والإمهال.
((إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27))) يقول سبحانه: لا يأملون محاسبة على فعلهم، ولا يتوهمون مجازاة على صنعهم ولا يوقنون ما أخبرناهم به من شرهم ولا يصدقون بشيء مما أنبأنا به من الوعد والوعيد.
ومعنى ((يَرْجُونَ)) يأملون في مخرج الكلم هاهنا: هو لا يخافون ويتقون ويخشون ((حِسَابًا)) أي محاسبة منا على ما قدموا ومجازاة على ما صنعوا.
ثم قال سبحانه: ((وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28))) يقول جل جلاله: وكذبوا بما رأوا وأبصروا من الآيات الدالات علينا، وجحدوا بما بينت لهم حجتنا المركبة في صدورهم من العقول المجعولة فيهم من دلائل الحق وبراهين الصدق في ما يرون من الآيات من عجائب الصنع في الأرضين والسموات، وغيرهن مما جعل الله من المجعولات، وفطر سبحانه من بدائع المفطورات اللواتي يشهدن لخالقهن ويدللن على فاطرهن، وينطقن بربوبيته بنواطق ما فيهن من أثر صنعه الذي لا يجهله منصف، ولا يدفعه إلا مكابر مخالف، فذكر الله سبحانه أنهم كذبوا بذلك بعد بيانه، ودفعوه بعد صحته في عقولهم، وثباته في صدورهم بأبين البيان، وأوضح البرهان.
وقوله: ((كِذَّابًا)) فمعناها: تكذيبا وملادة وتعطيلا ومناكرة وكفرا.
ثم قال: ((وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29))) ومعنى أحصيناه: فهو علمناه وحفظناه، ومعنى ((كِتَابًا)) أي محفوظا مثبتا معلوما مبينا.
وإنما ضرب الله لهم بما ذكر من الكتاب مثلا إذ كان أبين ما عندهم بيانا واضحا وأثبته ما كان في الكتاب مكتوبا وفي الصحف المعروفة موقعا، فذلك عندهم أبين ما يعرفون وأوضح ما يعلمون، وأحصى ما يحصون، فمثل الله عز وجل بما يكون حفظه لما يكون منهم وأحصاه إياه عليهم بما هو أفضل الأشياء عندهم وأبينه بيانا، وأثبته صحة مما يكتب في الكتب، ويوقع فيها.
ثم قال سبحانه: ((فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلا عَذَابًا (30))) يقول سبحانه: فذوقوا ما نزل بكم على فعلكم وما نزل بكم من الجزاء الوفاق على كفركم.
وقوله: ((فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلا عَذَابًا)) يقول: لن تروا فرجا ولا رخاء، ولن تزدادوا بالمكث الطويل في جهنم إلا عذابا وبلاء؛ لأن عذابهم دائما سرمدا، وخلودهم في النار دائم أبدا، ومن كان كذلك لم يزدد بالمكث في جهنم إلا عذابا.
ثم قال جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله: ((إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31))) والمفاز: فهو موضع الفوز، والفوز: فهو النعيم والخير والسرور، وقرة العين من المآكل والمشارب والمناظر والمناكح والمطالب.
ثم فسر سبحانه ذلك المفاز فقال: ((حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34))) والحدائق: واحدتها حديقة، والحديقة: فهي الحظيرة المجتمع فيها جميع الثمار المأكولات الطيبات، والمياه المشروبات.
((وَأَعْنَابًا)) فهي الأعناب المعروفة، التي يغني اسمها عن تفسيرها لمعرفة الناس بها. والكواعب: فهن النساء النواهد، والناهد: فهي التي قد برز ثديها، وتبين للناظرين في صدرها، الذي لم ينكسر ولم يمل فتلك تسمى كاعبا وناهدا، والأتراب: هو الأمثال المشبهات في القد و الجسم والصورة والخلق.
((وَكَأْسًا دِهَاقًا (34))) والكأس: فهو ضرب من الأقداح يشرب فيها الماء وغير الماء من العسل واللبن تكون الكأس من الفضة والذهب، ويكون في الآخرة من ذلك ومن غيره من الجواهر والياقوت الأحمر، والدر الأبيض والزمرد الأخضر، ودهاقا: فمعناه مملوأً مترعا فأعد الله ذلك كله للمؤمنين.
ثم قال: ((لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا (35))) واللغو: فهو الباطل والمحال والأذى والطرح والمقال وما يغم المؤمنين سماعه ويكرهون استماعه ((وَلا كِذَّابًا)) والكذب: فهو الخلف للمواعيد، والكذب في الأقاويل، فأخبر أنهم لا يجدون في تلك الدار خلفا لما وعدوا، ولا كذابا لما أملوا ورجوا، وأنهم سيجدون ما وعدوا، ويعاينون في دار الخلد ما أملوا، وأن آمالهم ورجاءهم وظنونهم غير كاذبة ولا باطلة، وأنها لهم على أفضل ما ظنوا وأكمل ما رجوا، وأوفر ما طلبوا لم يكذب الله لهم ظنا، ولم يخلف لهم أملا، هذا معنى ((كِذَّابًا)).
ألا تسمع كيف يقول القائل: ظننت ظنا فكذبني ظني، يريد أملت أملا فأخلفني أملي.
((جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَابًا (36))) يقول تبارك وتعالى: إن ذلك منه كله جزاء للمؤمنين على أفعالهم، وعطاء منه على أعمالهم المرضية له المتبعة أمره ((عَطَاء)) ومعنى عطاء فهو هبة وجزاء ((حِسَابًا)) يقول: عطاء كثيرا إن حسب كثر حسابه، وإن عد لم يحط بعدده كثيرا جسيما جزيلا عظيما.
ثم قال سبحانه وجل عن كل شأن شأنه: ((رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37))) ومعنى ((رَبِّ السَّمَاوَاتِ)): هو مالكها وقاهرها وصاحبها ومقدرها، وكذلك الأرض وما بينهما، ومعنى ((وَمَا بَيْنَهُمَا)) فهو ما على وجه الأرض من الإنس وغيرهم من الأشياء، وما فوق ذلك من الجن والإنس والسحاب والنجوم في الهواء فهو مالكهما ومدبرهما، ومالك ما بينهما، وسيدهما ومليكهما ((الرحمن)) فهو الرحمن صاحب الرحمة والسلطان والعظمة والبرهان، وهو اسم من أسامي العزيز الجبار ((لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا)) أي لا ينالون عنده مخاطبة ولا بهتانا ولا مكابرة وجحدانا و((مِنْهُ)) فمعناها: عنده فقامت من مقام عند، وهذه حروف الصفات يخلف بعضها بعضا، ويجزي بعضها عن بعض من ذلك قول الله سبحانه فيما حكى عن فرعون اللعين: ((لأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ)) [طه:71] والجذع لا يصلب فيه وإنما يصلب عليه، أراد لأصلبنكم على جذوع النخل، فقامت في مقام على، وكذلك قامت من مقام عند في قوله: ((لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا)) فأخبر عز وجل أنهم لا يملكون عنده قبول عذر معذرة، ولا ينفعهم جحدان، ولا يجوز عنده إلا الحق في ذلك اليوم وهو:
((يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا)) وقيامهم فهو وقفهم فهم بين يدي ربهم، وانتظارهم لأمر خالقهم و((صَفًّا)) فهو صفوفا و((الرُّوحُ)) فهو جبريل صلى الله عليه و((الْمَلَائِكَةُ)) القيام صفا في ذلك اليوم فهم الشهود والكتبة والحفظة على الآدميين ما كان من أفعالهم في دنياهم، وهم الذين قال الله سبحانه: ((عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)) [ق:17-18] ومن الملائكة الوقوف ملائكة موكلون بإيصال المثابين إلى الثواب الكريم، إيصال المعاقبين إلى عذاب الجحيم، وكذلك سائر الملائكة كل منهم واقف ينتظر أمر ربه معظما لما يرى من فعله.
((لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ)) يقول: لا ينطقون من هيبته ولا يتكلمون من إجلاله وتوقيره سبحانه وتقديسه ((إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ)) منهم والإذن هاهنا: هو الأمر من الله له بالكلام بما يأمرهم من توقيف العباد على أفعالهم ومحاسبتهم على أعمالهم ((وَقَالَ صَوَابًا (38))) معناها قال: حقا من توقيف الحفظة للآدميين على ما كان من فعلهم، وتعريفهم ما تقدم من خطاياهم التي أحصوها عليهم في دنياهم فوقفوا من ذلك على الصواب، والصواب هاهنا: فهو الحق في جميع الأسباب من قول كان أو عمل.
ثم قال سبحانه: ((ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ)) يريد: أي ذلك يوم حق، معنى يوم حق: أي أنه يوم آت حق كفلق الصبح لا خلف في إتيانه ولا بطلان لما ذكر منه فإتيانه حق، وكينونته حق، وكل ما يفعل فيه فحق لا ظلم فيه ولا حيف.
((فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39))) يقول سبحانه: فمن شاء من الخلق اتخذ في دار دنياه وقبل فنائه وانقضائه إلى ربه سبيلا، أي يجده غدا عنده من العمل بطاعته والإتباع لمرضاته.
ومعنى ((اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39))) هو جعل بينه وبينه وصلة لا تنقطع، وسبيلا يوصله إلى جناته، ويوجب له ما وعد المطيعين من ثوابه حتى يدخر له بطاعته واتباع مرضاته فوزا يؤوب إليه، ويؤوب: ينقلب فيه وإليه، ومعنى ((مآبا)) هو موئلا ومرجعا يجده عند رجوعه إلى ربه، وسببا عند الله يصادفه عند مآبه إلى دار آخرته، يسره المنقلب إليه، وينفعه المآب فيه.
ثم قال سبحانه: ((إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا)) يريد دانيا قد أزف حينه، وقرب وقته، ومعنى ((أَنذَرْنَاكُمْ)) هو حذرناكم، وتقدمنا إليكم وأعذرنا في قطع الحجة بيننا وبينكم قبل مصيركم إلى العذاب بتماديكم في المعاصي المهلكات والمآثم الموبقات.
ثم أخبر بوقت ذلك العذاب فقال: ((يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ)) فأخبر سبحانه أن ذلك العذاب يكون في ذلك اليوم الذي ينظر فيه المرء ما قدمت يداه ((وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا (40))) وهو يوم الحشر والحساب ومواقعة العقاب والعذاب، ومعنى ((ينظر)) فهو: يجد ما قدمت يداه، معنى وجوده لما قدمت يداه: هو وجوده لجزاء فعله ومواقعته ومعاينته لصدق ما وعد وأوعد على فعله مما اكتسبته يداه في حياته وقبل وفاته.
ومعنى قول الكافر: ((يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا)) فهو تحسر منه وتندم وفرق وهلع وشدة وجزع مما يعاين مما أعد الله له من العذاب الأليم، وما يستحب إليه من الجحيم، وما يصب فوق رأسه من الحميم جزاء على كفره، وعذابا على صده عن طاعة ربه في حياته، فيقول عند معاينته ما يعاين من البلايا: يا ليتني لم أرد حيا، ولم أبعث في هذا اليوم بشرا سويا، وكنت في القبر كما كنت ثاويا ميتا، وباليا فانيا، ورميما رفاتا ترابا، فيتمنى أنه بقي ترابا رميما، ولم يلق ما لقي من جزاء فعله الرديء، وعلمه السيئ ((وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)) [الكهف:49].
فنعود بالله من البلاء، ونسأله الرحمة والهدى، والمعونة على أمور الآخرة والأولى، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي الجليل.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire