الإجتهاد عند الزيدية
* إسماعيل بن علي الأكوع
(اليمن)
يمكن أن يُقال إن للمذهب الزيدي مزية حميدة،
ومنقبة مشكورة، وهي فتح باب الاجتهاد لمن حذق علومه، واتقن فنونه، ولا
غرابة في ذلك ; فقد كان زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(عليهم
السلام) الذي نسب إليه هذا المذهب من كبار أئمة الاجتهاد، وله فقهه المدون
المعروف الذي لا يخرج عن نطاق ما كان عليه السلف الصالح، من الاقتصار على
العمل بكتاب اللّه وسنة رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) «ففقه زيد قريب من
فقه الائمة المشهورين في وقته والمأثور من آرائه أنها لا تخرج عن آراء
فقهاء الأمصار، ومنهاجه في الاستنباط لا يبعد ايضاً عن مناهج الائمة الذين
عاصروه كأبي حنيفة وابن أبي ليلى والزهري وغيرهم من أئمة الفقه. والزيدية
يأخذون بالكتاب ثم بالسنة. ونصوص الكتاب مراتب والسنة مراتب، فإن لم يكن
كتاب ولا سنة يكون القياس، ويدخلون الاستحسان والمصالح المشتركة في القياس
ويتمسكون بفتح باب الاجتهاد ولا يقولون بالتقية ولا بعصمة الأئمة، والايمان
بصحة خلافة أبي بكر وعمر»(١).
سوى أن الزيدية خالفت أهل السنة في أمرين:أحدهما: نزوعها في العقيدة إلى الاعتزال تبعاً لزيد بن علي الذي كان قد أخذه عن واصل بن عطاء الغزال رأس المعتزلة، حينما اجتمع به في رحلته العلمية إلى البصرة فتتلمذ في الاصول على يديه «مع اعتقاد واصل أن جده علي بن أبي طالب(عليه السلام) في حروبه التي جرت بينه وبين أصحاب الجمل وأهل الشام ما كان على يقين من الصواب، وأن أحد الفريقين منهما كان على الخطأ لا بعينه»(٢).
استاذ واصل محمد بن الحنفية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان مع ابنه أبي هاشم في الكتّاب ثم صحبه بعد موت أبيه مدة طويلة وحكي عن بعض السلف انّه قيل له : كيف كان علم محمد بن علي فقال : إذا أردت أن تعلم ذلك فانظر إلى أثره « واصل ».
وهكذا ذكروا في عمرو بن عبيد انّه أخذ عن أبي هاشم أيضاً ، وقال القاضي « عبد الجبار » : فأمّا أبو هاشم عبد اللّه بن محمد بن علي فلو لم يظهر علمه وفضله إلاّ بما ظهر عن واصل بن عطاء لكفى ، وكان يأخذ العلم عن أبيه وكان واصل بمنزلة كتاب صنعه أبو هاشم ، وكذلك أخوه غيلان بن عطاء يقال انّه أخذ العلم عن الحسن بن محمد بن الحنفية أخي أبي هاشم. (2)
وقال الجاحظ : ومن مثل محمد الحنفية وابنه أبي هاشم الذي قرأ علوم التوحيد والعدل حتى قالت المعتزلة : غلبنا الناس كلّهم بأبي هاشم الأوّل.
قال ابن أبي الحديد : إنّ أشرف العلوم هو العلم الإلهي ، لأنّ شرف العلم بشرف المعلوم ، ومعلومه أشرف الموجودات ، فكان هو أشرف ، ومن كلامه ( علي ) ( عليه السلام ) اقتبس ، وعنه نقل ، ومنه ابتدئ وإليه انتهى ، فإنّ المعتزلة ـ الذين هم أصل التوحيد والعدل وأرباب النظر ومنهم تعلم الناس هذا الفن ـ تلامذته ، وأصحابه ، لأنّ كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبي هاشم عبد اللّه بن محمد بن الحنفية وأبو هاشم تلميذ أبيه وأبوه تلميذه.
وأمّا الأشعرية فإنّهم ينتمون إلى أبي الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري وهو تلميذ أبي علي الجبائي ، وأبو علي أحد مشايخ المعتزلة فالأشعرية
1 ـ فضل الاعتزال : 234.
2 ـ فضل الاعتزال : 226. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والأمر الآخر: الإمامة التي هي مدار اهتمام فرق الشيعة، ومحور عقائدهم السياسية، فقد كان زيد بن علي يرى أن علي بن أبي طالب(عليه السلام) أحق بها بعد وفاة رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) لمكانته وقربه منه نسباً وصهراً، وأن تكون بعده في ولديه الحسن ثم الحسين(عليهم السلام) ثم في من تناسل منهما إلى يوم القيامة، «وترى الزيدية أن الإمامة فرع من النبوة ولا يجوز أن تكون إلاّ في موضع مخصوص معروف للخلق، والنبوة لا تكون إلاّ في ارفع المواضع وأشرفها. وتعلل الزيدية حق الإمامة في آل البيت بقولها: ولا أقرب إلى النبي من أولاده وذريته مع ما خصهم اللّه به من الشرف والفضل، فكانوا أحق بالإمامة من غيرهم. وإمامة علي هي زمن محتوم بالادلة التي اقتضت تعيينه بالوصف لا بالنص»(٣).
ومع هذا فانها ترى جواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل، وإذا كان رأي زيد بن علي أن علياً أولى بالإمامة بعد رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) وأحق بها من الخلفاء الذين سبقوه، فإنه يعتقد من باب أولى أنه أحق بها من خلفاء بني
(١) تاريخ الفرقة الزيدية: ٣٢٩.
(٢) الملل والنحل، للشهرستاني، القسم الأول: ١٣٨.
(٣) الشيخ محمد خليل الزين، تاريخ الفرق الاسلامية: ١٧٧.
(٢) الملل والنحل، للشهرستاني، القسم الأول: ١٣٨.
(٣) الشيخ محمد خليل الزين، تاريخ الفرق الاسلامية: ١٧٧.
1
أمية الذين حولوا الخلافة إلى ملك مخصوص.
هذا وقد اشترط في الإمام الخروج على الظالم عند اعلان دعوته، وهو ما فعله
حينما أعلن الخروج على حكم هشام بن عبد الملك، وقالت الزيدية: «ليس بإمام
من جلس في بيته وأرخى ستره وثبط عن الجهاد، بل الإمام من قام من آل البيت
يدعو إلى كتاب اللّه وسنة رسوله(صلى الله عليه وآله) وجاهد على ذلك فاستشهد
ومضى، وقام آخر بعده يدعو إلى ما دعى إليه حجة اللّه عزوجل على أهل كل
زمان إلى أن تنقضي الدنيا»(١).وقد خُذل زيد من قبل أكثر اتباعه الذين اصروا عليه باعلان تبرئه من الشيخين أبي بكر وعمر، فلم يوافقهم على ذلك فرفضوا اتباعه والسير وراءه. وأما الذين تمسكوا بعقيدته في الشيخين فقالوا بقوله وحاربوا معه(٢)، وواجه بهم خصمه حتى استشهد في كناسة الكوفة في الثاني من صفر سنة ١٢٢ هـ(٣). أما الذين رفضوا اتباعه والسير وراءه فقد ذكر الطبري في تاريخه أنهم سألوه فقالو: «رحمك اللّه: ما قولك في أبي بكر وعمر ؟ قال زيد: رحمهما اللّه وغفر لهما، ما سمعت أحداً من أهل بيتي يتبرأ منهما ولا يقول فيهما إلاّ خيراً، قالوا: فلم تطلب إذن بدم أهل هذا البيت؟ إلاّ أن وثبا على سلطانكم فنزعاه من ايديكم. فقال لهم زيد: إن أشد ما أقول فيما ذكرتم أنا كنا أحق بسلطان رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) من الناس أجمعين، وأن القوم استأثروا علينا، ودفعونا عنه، ولم يبلغ ذلك عندنا بهم كفراً، وقد ولوا فعدلوا في الناس... قالوا: فلم يظلمك هؤلاء، وإن كان اولئك لم يظلموك فلم تدعو إلى قتال قوم ليسوا لك بظالمين ؟ فقال: وإن هؤلاء ليسوا كاولئك ; إن هؤلاء ظالمون لي ولكم ولأنفسهم ; وإنما ندعوكم إلى كتاب اللّه وسنة نبيه(صلى الله عليه وآله)،
(١) نفس المصدر: ١٧٨.
(٢) سير أعلام النبلاء ٥:٣٩.
(٣) تاريخ الطبري ٤:٢٠٥، ٢٠٦، ومروج الذهب ٣: ٢١٨، والكامل في التاريخ ٥: ٨٤ ـ ٨٩، والحدائق الوردية ١: ١٤٣.
(٢) سير أعلام النبلاء ٥:٣٩.
(٣) تاريخ الطبري ٤:٢٠٥، ٢٠٦، ومروج الذهب ٣: ٢١٨، والكامل في التاريخ ٥: ٨٤ ـ ٨٩، والحدائق الوردية ١: ١٤٣.
2
وإلى السنن أن تُحيا وإلى البدع أن تُطفأ ; فإن انتم أجبتمونا سعدتم، وإن أنتم أبيتم فلست عليكم بوكيل. ففارقوه... »(١).
ولما قتل زيد بن علي وصُلب قام بالإمامة بعده يحيى بن زيد، ومضى إلى
خراسان، واجتمعت عليه جماعة كثيرة. وقد وصل إليه الخبر من الامام
الصادق(عليه السلام) بأنه قتيل كما قتل أبوه ويصلب كما صلب أبوه، فجرى عليه
الأمر كما اُخبر(٢).ثم لم ينتظم للزيدية بعد ذلك أمر حتى ظهر في خراسان صاحبهم الناصر الاطروش سنة ٢٣٠ هـ فدعا الناس دعوة إلى الاسلام على مذهب زيد بن علي، فدانوا بذلك ونشأوا عليه، وبقي الزيدية في تلك البلاد ظاهرين. ولكنهم مالوا بعد ذلك عن القول بامامة المفضول ولا سيما بعد ظهور الدولة البويهية (٣٢٠ هـ ـ ٤٤٧ هـ).
وظهر في اليمن يحيى بن الحسين بن القاسم الرسّي الذي قدم إليها من الحجاز سنة (٢٨٤ هـ)، فدعا إلى نفسه بالإمامة، وتلقّب بالهادي. وكان عالماً مجتهداً كبيراً، أخذ الأصول ـ علم الكلام ـ عن شيخه ابي القاسم البلخي المعتزلي، وأقواله في الأصول متابعة له في الغالب. وأما في الفروع فقد استقل فيها باجتهاده، فخالف زيد بن علي في مذهبه، ولم يتقيد بأقواله التي تضمنها «مجموع الفقه الكبير» لزيد بن علي و «الجامع الكافي» لأقوال زيد بن علي، ولم يبق لمذهب زيد بن علي الأول في الأصول والفروع منهم (الزيدية) متابع(٣).
وقد عرف مذهب الهادي في اليمن بالمذهب الزيدي ; لأن الهادي واتباع مذهبه يقولون بإمامة زيد بن علي، ووجوب الخروج على الظلمة،
(١) تاريخ الطبري٤:٢٠٤.
(٢) الملل والنحل، للشهرستاني: ١٣٩.
(٣) المستطاب.
(٢) الملل والنحل، للشهرستاني: ١٣٩.
(٣) المستطاب.
3
ويعتقدون فضله وزعامته، ويحصرون الإمامة فيمن قام
ودعا من أولاد الحسنين، وهو جامع لشروط الامامة المدونة في كتبهم، فمن قال
بإمامته فهو زيدي وإن لم يلتزم مذهبه في الفروع، فإن اكثر الزيدية على رأي
غيره في المسائل الاجتهادية، والمسائل النظرية، وكذلك ائمتهم كالقاسم
والهادي والناصر، فهم ينتسبون إلى زيد بن علي مع أنهم كانوا مثله في
الاجتهاد، فهم يخالفونه في كثير من المسائل(١). ويجمع مذهبهم تفضيل علي على
سائر الصحابة، وأولويته بالإمامة، وقصرها من بعد الحسنين في البطنين،
واستحقاقها إنما يثبت بالفضل والطلب لا بالوراثة، ويرون القول بالتوحيد
والعدل والوعد والوعيد كالمعتزلة(٢).
هذا ولم تكد تمر مئة عام على قدوم الامام الهادي يحيى بن الحسين إلى اليمن
حتى افترق أتباع مذهبه إلى ثلاث فرق، كما صرح بذلك الامام المهدي احمد بن
يحيى المرتضى المتوفى سنة (٨٤٠ هـ) بقوله: «وافترق متأخرو الجارودية إلى
مطرفية(٣)، وحسينية(٤)، ومخترعة(٥). ثم ذكر أن
(١) هداية الراغبين، الرحيق.
(٢) المنية والأمل:٩٦.
(٣) المطرفية: نسبة إلى مطرف بن شهاب من أعلام أواخر المئة الرابعة، وأوائل المئة الخامسة للهجرة، كانوا من شيعة الامام الهادي وأتباع مذهبه، ويعتقدون الحق في الاجتهاديات مع واحد، ولما تبين لهم أن الامام المنصور عبد اللّه بن حمزة المتوفى سنة (٦١٤هـ) قد خالف الهادي في بعض مسائل الفروع، أنكروا عليه فكان ذلك من دواعي الشقاق بينه وبينهم ، مع أنه (المنصور) القائل: «اننا نهاب نصوص الهادي كما نهاب نصوص القرآن». كما أظهروا القول بخلق العناصر الأربعة: الماء والتراب والهواء والنار، وبالافعال في ماعدا ذلك لأنهم يعتقدون أن التأثير للّه في أصول الاشياء دون فروعها. كما خالفوا الزيدية في أهم مبادئهم الأصولية وهي الامامة، فلم يشترطوا فيها النسب، وجوّزوها في جميع الناس، فاستوجب هذا الأمر أن حكم عليهم الامام عبد اللّه بن حمزة بالكفر بالالزام، وشنّ عليهم حرباً لا هوادة فيها حتى أبادهم على بكرة أبيهم، كما أتلف تراثهم وخرّب مساجدهم لأنها في نظره مساجد ضرارية.
(٤) الحسينية: نسبة إلى الحسين بن القاسم بن علي العياني، دعا إلى نفسه بالامامة سنة (٣٩٣ هـ)، وتلقب بالمهدي. وقد زعم أنه المهدي المنتظر. وله آراء ومعتقدات باطلة. احترب مع قبيلة همدان حتى قتلته سنة (٤٠٤ هـ) واعتقد اتباعه أنه حي لم يمت، ولا يموت أبداً حتى يملأ الأرض عدلاً.
(٥) المخترعة: فرقة عرفت بهذا الاسم لقولهم باختراع اللّه الأعراض في الاجسام، وأنها لا تحصل بطبائعها ـ كما تقول المطرفية ـ وكان رئيسهم في عقيدتهم علي بن شهبر من قرية «بيت اكلب» من حقل «البون» في الشمال من «الصنعاء»، وكان بينها وبين المطرفية نزاع شديد، وحروب عنيفة حتى تغلبت على يد الامام عبد اللّه بن حمزة عليها.
(٢) المنية والأمل:٩٦.
(٣) المطرفية: نسبة إلى مطرف بن شهاب من أعلام أواخر المئة الرابعة، وأوائل المئة الخامسة للهجرة، كانوا من شيعة الامام الهادي وأتباع مذهبه، ويعتقدون الحق في الاجتهاديات مع واحد، ولما تبين لهم أن الامام المنصور عبد اللّه بن حمزة المتوفى سنة (٦١٤هـ) قد خالف الهادي في بعض مسائل الفروع، أنكروا عليه فكان ذلك من دواعي الشقاق بينه وبينهم ، مع أنه (المنصور) القائل: «اننا نهاب نصوص الهادي كما نهاب نصوص القرآن». كما أظهروا القول بخلق العناصر الأربعة: الماء والتراب والهواء والنار، وبالافعال في ماعدا ذلك لأنهم يعتقدون أن التأثير للّه في أصول الاشياء دون فروعها. كما خالفوا الزيدية في أهم مبادئهم الأصولية وهي الامامة، فلم يشترطوا فيها النسب، وجوّزوها في جميع الناس، فاستوجب هذا الأمر أن حكم عليهم الامام عبد اللّه بن حمزة بالكفر بالالزام، وشنّ عليهم حرباً لا هوادة فيها حتى أبادهم على بكرة أبيهم، كما أتلف تراثهم وخرّب مساجدهم لأنها في نظره مساجد ضرارية.
(٤) الحسينية: نسبة إلى الحسين بن القاسم بن علي العياني، دعا إلى نفسه بالامامة سنة (٣٩٣ هـ)، وتلقب بالمهدي. وقد زعم أنه المهدي المنتظر. وله آراء ومعتقدات باطلة. احترب مع قبيلة همدان حتى قتلته سنة (٤٠٤ هـ) واعتقد اتباعه أنه حي لم يمت، ولا يموت أبداً حتى يملأ الأرض عدلاً.
(٥) المخترعة: فرقة عرفت بهذا الاسم لقولهم باختراع اللّه الأعراض في الاجسام، وأنها لا تحصل بطبائعها ـ كما تقول المطرفية ـ وكان رئيسهم في عقيدتهم علي بن شهبر من قرية «بيت اكلب» من حقل «البون» في الشمال من «الصنعاء»، وكان بينها وبين المطرفية نزاع شديد، وحروب عنيفة حتى تغلبت على يد الامام عبد اللّه بن حمزة عليها.
4
المتأخرين انقسموا إلى قاسمية(١) وناصرية(٢). وكان
يخطيء بعضهم بعضاً حتى خرج المهدي ابو عبد اللّه الداعي(٣)، وألقى بهم أن
«كل مجتهد مصيب»، فرجعوا إلى قوله بعد مناظرات كثيرة.
وكانوا من قبل يعتقدون أن المصيب في الاجتهاديات واحد، والحق معه إلى زمن
الامام المتوكل(٤) احمد بن سليمان، وكذا زيدية الجيل(٥) يعتقدون ذلك إلى
زمن الامام ابي عبد اللّه الداعي، فانفتح منذ ذلك الوقت باب الاجتهاد، فكان
أن ولج هذا الباب عدد غير قليل من علماء الزيدية، فاشتغلوا بعلوم القرآن
وتفاسيره، ودراسة امهات الحديث وعلومه، فوجدوا في الكتاب العزيز وصحيح
السنة النبوية ما لا يحتاج
(١) القاسمية: نسبة إلى القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن الحسن بن الحسن.
دعا إلى نفسه بالكوفة سنة (٢٢٠ هـ)، ولم تنجح دعوته فسكن «الرسّ» بجوار
المدينة فلقب بالرسّي. توفي سنة (٢٤٢ هـ).
(٢) نسبة إلى الناصر بن الحسن بن علي الملقب بالأطروش. دعا إلى نفسه بالامامة في الجيل والديلم. توفي سنة (٣٠٤ هـ).
(٣) ابو عبد اللّه الداعي: هو الامام المهدي محمد بن الحسن. بويع بالامامة بهوسم، ثم كاتبه اهل الديلم فوصل إليهم سنة (٣٥٣ هـ)، ثم قصد هوسم فاستولى عليه بعد محاصرة طويلة وأسر مراراً، وهو الذي أظهر في الديلم أن «كل مجتهد مصيب». توفي بهوسم مسموماً سنة (٣٦٠ هـ)، وقيل سنة (٣٥٩ هـ).
(٤) الامام المتوكل احمد بن سليمان. أعلن دعوته من الجوف سنة (٥٣٢ هـ)، وهو من كبار علماء الهادوية. توفي سنة (٥٦٦ هـ).
(٥) الجيل ـ بالياء ـ مُعرّب ومخفّف كلمة گيلان ـ بالگاف الفارسية: إقليم في شمال ايران.
(٢) نسبة إلى الناصر بن الحسن بن علي الملقب بالأطروش. دعا إلى نفسه بالامامة في الجيل والديلم. توفي سنة (٣٠٤ هـ).
(٣) ابو عبد اللّه الداعي: هو الامام المهدي محمد بن الحسن. بويع بالامامة بهوسم، ثم كاتبه اهل الديلم فوصل إليهم سنة (٣٥٣ هـ)، ثم قصد هوسم فاستولى عليه بعد محاصرة طويلة وأسر مراراً، وهو الذي أظهر في الديلم أن «كل مجتهد مصيب». توفي بهوسم مسموماً سنة (٣٦٠ هـ)، وقيل سنة (٣٥٩ هـ).
(٤) الامام المتوكل احمد بن سليمان. أعلن دعوته من الجوف سنة (٥٣٢ هـ)، وهو من كبار علماء الهادوية. توفي سنة (٥٦٦ هـ).
(٥) الجيل ـ بالياء ـ مُعرّب ومخفّف كلمة گيلان ـ بالگاف الفارسية: إقليم في شمال ايران.
5
معهما إلى غيرهما من محض الرأي، فنبذوا التقليد
ودعوا المقلدين إلى العمل بأحكام الكتاب والسنة ليكونوا كما كان عليه السلف
الصالح، مع أن الغالبية العظمى من المسلمين في صدر الاسلام كانوا أميّين
لا يقرؤون ولا يكتبون، ولكنهم مع ذلك كانوا يفهمون ما يُتلى عليهم من
القرآن الكريم، ويفهمون ما يسمعون من السنة النبوية، وذلك قبل أن تظهر
المذاهب الدينية والسياسية التي فرقت المسلمين شِيعاً وطوائف.
وقد برز من هؤلاء العلماء أئمة في الاجتهاد المطلق تجاوزت شهرتهم حدود
أقاليم اليمن على تفاوت بينهم في درجات الاجتهاد، وأبرزهم على الاطلاق هو
الامام محمد بن ابراهيم الوزير المتوفى سنة (٨٤٠ هـ) صاحب كتاب «العواصم
والقواصم في الذب عن سنّة أبي القاسم» والحسن بن أحمد الجلال المتوفى سنة
(١٠٨٤ هـ) صاحب كتاب «ضوء النهار المشرق على صفحات الأزهار» وصالح ابن مهدي
المقبلي المتوفى بمكة سنة (١١٠٨ هـ) صاحب كتاب «العلم الشامخ في ايثار
الحق على الآباء والمشايخ» وذيله «الأرواح النوافخ وآثار إيثار الآباء
والمشايخ» و «الأبحاث المسددة في فنون متعددة» ومحمد بن اسماعيل الأمير
الصنعاني المتوفى سنة (١١٨٢ هـ) صاحب كتاب «سبل السلام في شرح بلوغ المرام
في أدلة الاحكام»، ومحمد ابن علي الشوكاني المتوفى سنة (١٢٥٠ هـ) صاحب كتاب
«نيل الأوطار شرح منتقى الاخبار» ولم أخص هؤلاء بالذكر إلاّ لأن الناس
انتفعوا بمؤلفاتهم اكثر من غيرهم، وإلاّ فإن في ديار الزيدية من أئمة
الكتاب والسنة ـ كما يقول شيخ الاسلام الشوكاني ـ «عدداً يجاوز الوصف
يتقيدون بالعمل بنصوص الأدلة، ويعتمدون على ما صح في الأمهات الحديثية
وما يلتحق بها من دواوين الاسلام المشتملة على سنة سيد الأنام ، ولا
يرفعون إلى التقليد رأساً،...، مع كثرة اشتغالهم بالعلوم التي هي آلات علم
الكتاب والسنة، من نحو وصرف وبيان وأصول ولغة، وعدم اخلالهم بما عدا ذلك من العلوم العقلية» ثم أضاف الامام الشوكاني قوله: «وإني لأكثر التعجب من جماعة من أكابر العلماء المتأخرين الموجودين في القرن الرابع الهجري وما بعده، كيف يقفون على تقليد عالم من العلماء، ويقدمونه على كتاب اللّه وسنة رسوله ؟ مع كونهم قد عرفوا من علم اللسان ما يكفي في فهم الكتاب والسنّة بعضه، فإن الرجل إذا عرف من لغة العرب ما يكون به فاهماً لما يسمعه منها صار كأحد الصحابة الذين كانوا في زمنه(صلى الله عليه وآله)، وترك التعويل على محض الآراء، فكيف بمن وقف على دقائق اللغة وجلائلها إفراداً وتركيباً، وإعراباً وبناءً ؟ وصار في الدقائق النحوية والصرفية، والأسرار البيانية والحقائق الأصولية بمقام لا يخفى عليه من لسان العرب خافيه، ولا يشذ عنه منها شاذ، وصار عارفاً بما صح عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)في تفسير كتاب اللّه، وما صح عن علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى زمنه، وأتعب نفسه في سماع دواوين السنّة التي صنفها أئمة هذا الشأن في قديم الأزمان، وفيما بعده، فمن كان بهذه المثابة كيف يسوغ له أن يعدل عن آية صريحة أو حديث صحيح إلى رأي رآه أحد المجتهدين ؟ حتى كأنه أحد العوام الذين لا يعرفون من رسوم الشريعة رسماً، فيا للّه العجب إذ كانت نهاية العالم كبدايته، وآخر أمره كأوله»... ثم ختم كلامه بقوله: «والذي أدين اللّه به أنه لا رخصة لمن علم من لغة العرب ما يفهم به
6
كتاب اللّه ـ بعد أن يقيم لسانه بشيء من علم النحو
والصرف وشطر من مهمات كليات أصول الفقه ـ في ترك العمل بما يفهمه من آيات
الكتاب العزيز، ثم إذا انضم إلى ذلك الاطلاع على كتب السنّة المطهرة التي
جمعها الائمة المعتبرون، وعمل بها المتقدمون والمتأخرون كالصحيحين، وما
يلحق بهما مما التزم فيه مصنفوه الصحة أو جمعوا فيه بين الصحيح وغيره مع
البيان لما هو صحيح، ولما هو حسن ولما هو ضعيف، وجب العمل بما كان كذلك من
السنّة، ولا يحل التمسّك بما يخالفه من الرأي، سواءٌ كان قائله واحداً أو
جماعةً أو الجمهور، فلم يأت في هذه الشريعة الغراء ما يدل على وجوب التمسك
بالآراء المتجردة عن معارضة الكتاب أو السنّة، فكيف بما كان منها كذلك ؟ بل
الذي جاءنا في كتاب اللّه على لسان رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) (وما
آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)(١)، (لقد كان لكم في رسول اللّه
أسوة حسنة)(٢) إلى غير ذلك، وصح عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)أنه
قال: « كل أمر ليس عليه أمرنا فهو ردٌ ». فالحاصل أن من بلغ في العلم إلى
رتبة يفهم بها تراكيب كتاب اللّه، ويرجّح بها بين ما ورد مختلفاً من تفسير
السلف الصالح ويهتدي به إلى كتاب السنة التي يعرف بها ما هو صحيح، وما ليس
بصحيح فهو مجتهد لا يحل له أن يقلد غيره كائناً من كان في مسألة من مسائل
الدين، بل يروي النصوص من اهل الرواية، ويتمرّن في علم الدراية، ويقتصر من
كل فن على مقدار الحاجة. والمقدار الكافي من تلك الفنون هو ما يتصل به إلى
الفهم والتمييز»(٣).
هذا وقد انتشرت مؤلفات هؤلاء العلماء المجتهدين، ولا سيما كتابي «سبل
السلام» و «نيل الأوطار» في العالم الاسلامي، وصارا مرجعين لا غناء عنهما
لشيوخ العلم وطلابه والباحثين المهتمين بدراسة فقه السنّة النبوية في
المدارس والمعاهد والجامعات الاسلامية، كما ترجما إلى بعض لغات المسلمين من
غير العرب للذين لا يحسنون قراءة اللغة العربية، ذلك لأن الذين تيسّر لهم
قراءتهما من المسلمين على اختلاف مذاهبهم وجدوا فيهما ما أزال من نفوسهم
الفوارق المذهبية، وجمعهم على كلمة سواء.ومن المصادفات العجيبة أن شيخ الأزهر سابقاً محمد مصطفى
(١) الحشر: ٧.
(٢) الأحزاب: ٢١.
(٣) البدء الطالع ٢:٨١، استطراداً في ترجمة محمد بن ابراهيم الوزير.
(٢) الأحزاب: ٢١.
(٣) البدء الطالع ٢:٨١، استطراداً في ترجمة محمد بن ابراهيم الوزير.
7
المراغي كَتب رسالة بشأن إصلاح نظام التعليم بجامع
الأزهر والمعاهد الدينية، نشرت مقتطفات منها في كتاب الدراري المضيئة
للإمام الشَوكاني لفائدتها ومناسبتها للموضوع قال فيها: «يجب أن يدرس الفقه
الإسلامي دراسة حرة خالية من التعصب لمذهب، وأن تدرس قواعده مرتبطة
بأصولها من الأدلة، وأن تكون الغاية من هذه الدراسة عدم المساس بالأحكام
المنصوص عليها في الكتاب والسنة والأحكام المجمع عليها، والنظر في الاحكام
الاجتهادية لجعلها ملائمة للعصور والأمكنة والعرف وأمزجة الأمم المختلفة،
كما كان يفعل السلف الصالح من الفقهاء». ثم عقب الناشر لكتاب الدراري
المضيئة للشوكاني على هذه الرسالة بقوله: «وهذه الرغبة تنطبق على منهج هذا
الكتاب في الرجوع إلى ما كان عليه السلف الصالح من الفقهاء. وفي ذلك إحياء
لأحكام الشرع الشريف في معاملات الناس وشؤونهم الحاضرة، والرجوع إلى الكتاب
والسنة (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى اللّه والرسول)(١)، وبراءة من تعطيل
أحكام اللّه في أرضه» ثم قال: «فمن أراد أن ينهج منهج السلف، ويعمل بنصيحة
الامام الأكبر بدراسة هذا الكتاب (الدراري المضيئة)، وما نسج على منواله
ليعرف كيف يأخذ أحكام الشرع فيما استجد ويستجد من المعاملات آمناً من
التخبط. فإن الذي يُخشى من فتح باب الاجتهاد وهو أن يقول كل في دين اللّه
تعالى برأيه وهواه. نعوذ باللّه من ذلك ومنه التوفيق».
(١)النساء: ٥٩.
8
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire